مركز دراسات: الظروف غير مهيَّأة لتحقيق تسوية تؤسس لسلام مستدام

> إعداد/ مركز عدن للرصد والدراسات

>
  • الصراع اليوم نتيجة لحروب اليمن السابقة وفي مقدمتها حرب اجتياح الجنوب
  • قوى الشمال المشاركة في الحوار الوطني كانت تعد نفسها للحرب على الجنوب
> لجملة من الاعتبارات وفي مقدمها مراعاة المنهج العلمي في بحث وتشخيص أي من الظواهر والقضايا، نرى أنه من الصعوبة بمكان أن نقف أمام مستجدات العملية السياسية دون أن نتطرَّق وبإيجاز شديد للظروف والدواعي التي حتمت نشؤ العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة نيابة عن المجتمع الدولي، الى جانب تناول طبيعة العملية السياسية ومراحل تطورها، نجاحاتها وإخفاقاتها، اختلالاتها ونقاط ضعفها، التي حكمت عليها بالمراوحة والفشل وفصلتها عن الواقع الذي استهدفته.

ولاريب في أن نجاح العملية السياسية في تحقيق أهدافها المعلنة له شروطه ومتطلباته، التي تتجاوز النوايا، وما يجري تكراره دائما في البيانات والخطابات السياسية والإعلامية.

في الوقت الراهن لا نعتقد أن الظروف مهيَّأة لتحقيق تسوية سياسية شاملة تؤسس لسلام مستدام، ولا يبدو أن هذا الهدف الكبير هو الذي تسعى لتحقيقه جهود كل الأطراف، وبالذات المقررة منها، وهذا هو ما تؤكده خبرة سنوات منذ انطلاق العملية السياسية في اليمن في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، وعلى الرغم من ذلك يجب ألا تؤثر هذه الحالة على إرادة المتطلعين للسلام، وأصحاب المصلحة في التمسك بخيار السلام الذين تقع عليهم مسؤولية القيام بكل ما هو ضروريا لعمل قطيعة نهائية مع تاريخ سطرته الحرب، وتأسيس مستقبل تسوده قيم السلام والتعايش والتعاون.
بعد الكثير من العناء والعصف الذهني لإيجاد جمل مختصرة تصلح لتكون مدخل لهذا الموضوع الدسم والشائك والمصيري لم نجد غير الاستعانة باقتباسات من موضوع المؤرخ العربي الكبير محمد حسنين هيكل، كتبه لصحيفة يابانية بعد أيام على هزيمة الجنوب ووقوعه تحت الاحتلال العسكري المباشر يوم 7/7/1994م، وكان هذا نصه: "إن الانتصار الذي حققته (الوحدة) في ميادين القتال ليس نهاية لقصة وإنما هو على الأرجح نهاية لفصل من قصة طويلة معقدة ودامية".

وأضاف هيكل قائلاً: "والحقيقة أن هذه المنطقة الحساسة استراتيجيا واقتصاديا تقف في حالة بين ماضٍ لا يريد أن يذهب، ومستقبل لا يريد أن يجيء، وبين الاثنين حاضر حافل بكل دواعي الشك الموروث والغضب الدموي، وتغيير تأخر كثيرًا عن العصر!، وهذه هي القصة".

وأردف قائلاً: "الذين ينظرون إلى القتال الذي دار في اليمن - ويتصورون أنهم رأوا مشهدًا من حرب أهلية بين الشمال والجنوب، عليهم أن ينظروا مرة أخرى إلى الصورة بشكل أوسع وأعمق، ذلك لأن نظرة ثانية إلى الميادين التي دار فيها القتال كفيلة بأن تظهر أن ما جرى وما هو جارٍ الآن على أرض اليمن هو بداية صراع كبير على مستقبل شبه الجزيرة العربية، وهو صراع تدخل فيه تيارات كبرى ومصالح دولية، وقوى ظاهرة وخفيَّة، إلى جانب عوامل إقليميَّة ووطنيَّة ومذهبيَّة وقبليَّة أيضًا".

تؤكد تطورات الأحداث حتى اليوم صحة وصواب التشخيص العميق للكاتب والمؤرخ العربي الكبير محمد حسنين هيكل، وتدل على أن تجاهل الوقائع والحقائق لصالح الشعارات والأيدولوجيات هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم، والمخيف أن تتكرر هذه الأخطاء الفادحة والكارثية أمام أعين الجميع، ومن قبل كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.

باختصار إن ما يجري اليوم من محاولات تتعسف الواقع، وتسعى لإخضاعه لنزعات وشعارات وتصورات مفصولة عنه، سبق أن فشلت وسقطت، والتعامل مع الحالة الموضوعية القائمة بقدر من التبسيط والانتقاء، والتعاطي مع العملية السياسية بعقلية الحرب ومنبعها، أو باعتبارها مجرد استراحة للإعداد لحرب جديدة لهي من أهم التحديات التي تعترض مسار التسوية والسلام.

إن الحرب الجارية اليوم لا ترتبط حصراً بأزمة السلطة والصراع  الذي تفجر عام 2014م لوحدها ولا هي مرتبطة بما يسمى "بالطرفين" "الحكومة والحوثيين" ولكنها تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، بل أنها تستحضر معها كل حروب اليمن في الماضي في الشمال وفي الجنوب وكذا حروب الشمال والجنوب وبالذات حرب صيف 1994م، وصراعات وطنية وسياسية ومذهبية واجتماعية وغيرها إلى جانب حروب الإرهاب، وما تيسر من الحروب والصراعات الإقليمية والتنافس الدولي.
  • نشوء وتطور العملية السياسية:
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي تفاقمت الخلافات والتعارضات بين شريكي الوحدة (دولتي الجنوب والشمال)، وصولا إلى نشوء ما سمي بالأزمة السياسية، التي استدعت جهود وتدخلات بهدف تطويق الخلافات وإبقاءها في إطارها السياسي، والحيلولة دون تحولها إلى صراع مسلح وحرب شاملة. ولهذه الغاية شهدت تلك الفترة عملية حوار وطني شاملة، صاحبتها تدخلات إقليمية ودولية، أثمرت التوافق على تسوية سميت بوثيقة (العهد والاتفاق)، التي ربما عجلت بخيار الحسم العسكري، الذي ترجم بإعلان الشركاء في نظام صنعاء الحرب على الجنوب بتاريخ 27 إبريل 1994م.

وفي محاولة لمواجهة هذا التطور الخطير، وعودة الأمور لمسارها السياسي أصدر مجلس الأمن الدولي القرارين (924-931) لعام 1994م, وتم تعيين الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي مبعوثا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن.

وبعد 77 يوما من المعارك والتدخلات السافرة من قبل بعض الدول؛ تمكنت القوى المهاجمة من احتلال الجنوب بما فيها العاصمة عدن، وبتلك النتيجة تحول الجنوب من دور الشريك مع الشمال في مشروع الوحدة إلى طرف مهزوم وخاضع لأبشع احتلال عرفه التاريخ.

ومن منطلق ما نحن بصدد بحثه في هذه الورقة، والتحدي الرئيس الذي بات يشغل الجميع اليوم، على مستوى الدوائر المحلية والإقليمية والدولية يمكننا القول أن ذلك التطور الخطير قد شكل أيضًا انتكاسة للجهود السياسية، وفشل لدور المجتمعين الاقليمي والدولي.

وما ينبغي إدراكه اليوم هو حرب 1994م لم تستهدف مؤسسات النظام السياسي الذي حكم الجنوب فحسب ولا طرف سياسي بعينه ولكنها استهدفت الجنوب الأرض والإنسان والهوية والتاريخ, مما يدل على بشاعة الحرب الفتوى التكفيرية التي هيئت لها، وشرعنت  جرائمها، وأحلت واستباحت الجنوب، ونهبه مقدراته وقتل الابرياء واستعباد الأحياء، بعد نهب ممتلكاتهم ومصادرة حقوقهم، ولازالت كل تلك الانتهاكات والجرائم والممارسات قائمة حتى اليوم.

إن حصيلة 28 عام من احتلال الجنوب قد راكمت الكثير من الدروس والعبر التي يمكن أن تساعد أطراف العملية السياسية على الاهتداء لخيارات جديدة وحلول جذرية مبتكرة تحقق التسوية الشاملة والسلام المستدام.

واستلهاماً لعبر الماضي ودروسه وصولاً الى  النتائج الكارثية لحرب الثمان سنوات، بأبعادها وآثاراها الكارثية، والتي انخرط فيها كل الناس تقريبًا، وعانت الأغلبية الساحقة  من ويلاتها ومآسيها، وتدخلت فيها نصف الدول الأعضاء في الجامعة العربية، وإيران وأتباعها، وأطراف دولية، هل من حقنا أن نتساءل كيف ستكون الحرب القادمة (لا سمح الله)، وهل يمكن لأحد أن يتهاون مع من يريدون اليوم الإبقاء على أسباب وجذور الحرب كامنة في هذه الأرض، عبر اختطاف الفرصة التي توفرها العلمية السياسية، من خلال تسوية شاملة ومفاوضات حقيقية تعكس الواقع وتعبر عن التطلعات والإرادات الشعبية العامة للشعبين في الجنوب والشمال.

لقد تمكن الجنوب بعد احتلاله عام 1994م من امتصاص صدمة الهزيمة العسكرية، والصمود في وجه جرائم وبطش الاحتلال. وانتقل إلى دائرة الفعل والمقاومة، ونجح في توحيد صفوفه من خلال إطلاق عملية التصالح والتسامح 2006م، والارتقاء بنضالاته المجزئة والمطلبية إلى مستوى الثورة الشعبية العامة، "الحراك الجنوبي السلمي 2007م" بأهداف وطنية سياسية، تمثلت في الخلاص من الاحتلال واستعادة الحرية والسيادة والدولة الوطنية.

ومما له دلالته النجاح في مقاطعة الاستحقاقات السياسية، وفي مقدمتها الانتخابات، وهو الذي أجبر أطراف النظام السياسي على تعليق بعضها، مثل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقرره عام 2009م، وذلك لحرمان الجنوب من النجاح السياسي الذي كان سيحققه جراء نجاح المقاطعة.
في فبراير 2011م وبالتزامن مع ثورات الربيع العربي تحركت جماهير الشمال في انتفاضة شعبية عامة تحت شعار "اسقاط النظام"، تضامن معها الجنوب، وفي مرحلة حاسمة التحقت بها أحزاب المعارضة وبعض قوى السلطة بما فيها العسكرية، تمكنت الأحزاب أولًا من احتواء الحركة والسيطرة على قياداتها، ثم جاء العسكر ليحتووا دور الأحزاب ويختطفوا منها القيادة والقرار.

ومن أجل حماية السلطة من السقوط والحيلولة دون الدخول في صراع مسلح مفتوح؛ أعلنت المبادرة الخليجية، التي كانت في الأساس "وكما قال الرئيسان السابقان: صالح وهادي": "عبارة عن أفكار ومقترحات أرسلت من صنعاء للأشقاء في مجلس التعاون، ثم أعيدت لصنعاء قبل إعلانها رسميًا، وطرحت عليها تعديلات جديدة من الطرفين". جدير بالذكر أن المبادرة الخليجية تجاهلت تمامًا القضية الجنوبية ووضع الجنوب ودوره بعد حرب 1994م.

ثم أصدر مجلس الأمن الدولي القرار (2114) العام 2011م وتعيين جمال بن عمر مبعوثًا خاصُا إلى اليمن، وقد نصت المبادرة والقرار على نقل السلطة وتشكيل حكومة شراكة سياسية، والتحضير لمؤتمر حوار شامل، يخرج بتوافق على حلول لكل القضايا وعناصر الأزمة.
وللأسف فقد عملت القوى التقليدية على تجيير المؤتمر لغير صالح الجنوب اولاً وتالياً الشمال وللإبقاء على نتائج حرب 94, وهو الذي أدى في النهاية إلى سقوط المؤتمر ودخول البلد في أسوأ حرب عرفتها في كل تاريخها.

انطلق التحضير لمؤتمر الحوار بتشكيل لجنة الاتصال، التي عنيت باللقاء مع الأطراف والقوى والجماعات المرشحة للمشاركة في المؤتمر وتسليمها دعوات المشاركة. كان من بين من التقت بهم قيادات مؤتمر القاهرة, ولقاءين في عدن. وفي اللقاءات الثلاثة جرى الترحيب بمشروع مؤتمر الحوار، مع طرح مطالب ومقترحات تساعد على توسيع المشاركة وبالذات من الجنوب وعلى النجاح تاليًا. ورفعت المقترحات والتوصيات لأصحاب القرار الذين تجاهلوها حيث انقطع التواصل مع المشاركين في اللقاءات الثلاثة، أو الردود على ما طرح من قبلهم، باستثناء زيارة يتيمة لجمال بن عمر إلى مطار عدن حيث عقد في صالة المطار سلسلة من اللقاءات، وكان المشهد بما فيه الزحام أشبه بصالون حلاقة في ليلة العيد, وهو ما يدل على وجود نوايا مسبقة لإقصاء الجنوب وتزوير إرادة شعبه وتمرير صفقة جائرة على حسابه تحت مبررات إن "الجنوبيين غير موحدين" ولا يوجد أي طرف أو قيادة تمثلهم, والغريب أن يتكرر هذا الطرح اليوم خاصة وبعد قيام المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يحظى بثقة وتأييد غالبية الجنوبيين.

بهدف التقليل من أثر إقصاء الجنوب عن حقه في المشاركة في المؤتمر بما ترتب عليها من ردود فعل أقرت اللجنة التحضيرية للمؤتمر توزيع عدد المشاركين مناصفة بين الشمال والجنوب، ومنح المرأة 30 %، وإشراك الشباب والقوى المدنية. واعتماد مؤتمر شعب الجنوب ممثلاً للقضية الجنوبية، إلى أن تم اجباره على الانسحاب من المؤتمر. بعد ان كانت مشاركته نوعية وسياسية بامتياز، حققت الكثير، وكان من بين تلك الانجازات مجموعة الوثائق النصية المذيلة بالأرقام والمعطيات والشواهد، والتي قدمت للمؤتمر وعكست بوضوح خلفيات وأبعاد ومحتوى القضية الجنوبية. بالإضافة الى نجاحات أخرى لصالح القضية الجنوبية تحققت وانتزعت تحت تأثير نضال وتضحيات شعب الجنوب واقتناع معظم الأطراف بأن لا تسوية شاملة ولا سلام بدون مشاركة حقيقية للجنوب، ونشير للتالي منها:

الأول: وضع قضية الجنوب في مقدمة جدول أعمال مؤتمر الحوار، واعتبار أن حلها حلًا يقبله شعوب الجنوب يشكل مدخلًا لمعالجة بقية القضايا والأزمات.

الثاني: توافق كل المشاركين في المؤتمر على اعتماد مسار خاص للتفاوض على تسوية  للقضية الجنوبية، وعلى قاعدة مفاوضات متكافئة بين فريقين، يمثل أحدهما الشمال ويمثل الآخر الجنوب. وما له دلالته هو الاتفاق على تأجيل تقديم خلاصات اللجنتين الدستورية والخاصة ببناء الدولة إلى أن ينجز فريق القضية الجنوبية تقريره ويقدمه للجلسة العامة للبت بما ورد فيه من حلول، وهو التوجه الذي تم الانقلاب عليه لاحقاً، وعلى المؤتمر برمته.

والحقيقة ان قوى الشمال الرئيسية لم تكن تراهن على نجاح مؤتمر الحوار، بل كانت تعد نفسها وتنسج تحالفاتها استعدادًا لجوالات جديدة من الصراعات الدامية، والحرب على خصومها وبالذات الجنوب. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن مشروع الأقاليم الستة لم يكن له من هدف غير تبرير إعلان حرب جديدة على الجنوب بحجة الدفاع عن "التسوية السياسية والإجماع الوطني".

لقد كان من نتائج الإخفاق الذي مني به مؤتمر الحوار، والذي يعود في الأساس لإقصاء الجنوب والالتفاف على تمثيله ودوره في المؤتمر ومن ثم على قضيته وتطلعات شعبه أن دفعت قوى الحراك الجنوب السلمي إلى تصعيد نضالها على الأرض والاستعداد لخوض مواجهات مفتوحة وشاملة، خاصة بعد أن تم إقلاق المسار السياسي والاستهتار بالنضال السلمي المدني ومحاولة شرعنة نتائج حرب 94.

وعلى الرغم من كل تلك الأخطاء وما آل إليه مصير مؤتمر الحوار إلا أنه قد شكل علامة تطور هامة في تاريخ البلاد والحياة السياسية.

كان للحركة الحوثية هي الأخرى مخاوفها وهواجسها وتطلعاتها الخاصة، بما فيها أطماعها تجاه الجنوب، تمثلت بمطالبتها للشريكين في حرب 1994م بإعادة النظر باقتسام الجنوب الذي تم بينهما عقب الحرب "المؤتمر والإصلاح" لتكون القسمة بين ثلاثة "المؤتمر والإصلاح والحركة الحوثية"، وحين لم تجد الحركة استجابة مقنعة من الطرفين، اتجهت لتبني خيار الحرب على الجنوب وإعادة احتلاله ، وذلك بدءً بالاستيلاء على مراكز القرار السياسي والعسكري والإداري في صنعاء التي كان يتولاها جنوبيون "هادي وبحاح والصبيحي". والذي تحقق لها في سبتمبر 2014م بمشاركة ودعم من قيادة المؤتمر، ورضا من قيادة الإصلاح. وتنفيذاً لذلك تحركت يوم 22 فبراير 2015م جحافل القوات النظامية والجيش القبلي والمليشيات الحوثية لتشن حرب عدوانية شاملة على الجنوب، تنفيذًا للإعلان الذي صدر مساء 21 فبراير 2015م بلسان عبدالملك الحوثي الذي اعلن من خلاله الحرب على الجنوب لتصفية ما اسماها بـ (الدواعش والتكفيريين واللجان الشعبية القاعدية).

في ذات الوقت كانت تتواصل حوارات موفمبيك بين أطراف المنظومة السياسية تحت إدارة المبعوث الأممي جمال بن عمر، والتي لم يدين أي منها لا إعلان الحرب على الجنوب، ولا الشروع العملي بالحرب.
وعلى الرغم من اختلال ميازين القوى فقد تمكنت المقاومة الجنوبية الباسلة من التصدي للغزو والانتصار عليه بفضل تضحياتها والتفاف المجتمع حولها ودعم من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بعد إطلاق عمليات عاصفة الحزم والأمل.

جدير بالذكر أن مجلس الأمن الدولي قد أصدر منتصف إبريل 2015م  القرار 2216 الذي يعتبر المرجعية الأساسية لما نحن بصدده، على الرغم من أن الظروف قد تجاوزته وبات يشكل في نظر البعض عائقًا لانطلاق عملية سياسية تتسم بالديناميكية، منسجمة مع الوقائع على الأرض وقابلة للنجاح، وسبق لأطراف عدة أن دعت إلى تعديل القرار أو صدور قرار جديد يحل محله، نذكر على سبيل المثال دعوة مندوب روسيا في اجتماع مجلس الأمن الدولي بتاريخ 13/12/2021م لتعديل القرار 2216، واتهامه للمجموعة الغربية في المجلس بأنها تعرض للخطر وحدة المجلس تجاه الوضع في اليمن. 

في تعارض واضح مع بنود القرار 2216 أطلق الأمين العام للأمم المتحدة يومها "بان كي مون" مبادرته العجيبة بدعوة الطرفين للمشاركة في مشاورات تعقد في بلدة "بيل" السويسرية، على الأسس التالية "كما وردت على لسان المبعوث الخاص للأمين عام للأمم المتحدة لليمن إسماعيل ولد الشيخ الذي حددها في:

- مشاورات بين طرفين.
- مشاورات دون شروط مسبقة.
وهي الأسس التي ترجمت في الواقع لتعيد توصيف الازمة وأطرافها والتي عرفت سابقا بالانقلاب وطرف انقلابي وآخر شرعية لتكون نزاع محلي بين طرفين، والالتفاف على عملية المفاوضات السياسية الشاملة لكل الأطراف وعلى ما ترسخ في مؤتمر الحوار.

كما أن النص على "دون شروط مسبقة"، قد فهم بأنه يعني إعفاء الحركة الحوثية من إعلان التزامها بنصوص القرار 2216 دون أي تحفظ. وجعل المشاورات وسيلة للالتفاف على القرار، وهو النجاح الوحيد الذي حققته المشاورات في أربع جولات وعلى مدى عامين من الزمن.

في محاولة منه لتطمين المعنيين بالمفاوضات الشاملة قال المبعوث الأممي يومها إسماعيل ولد الشيخ: أن مشاورات الطرفين لا تلغي المسار الشامل ولا تحل محله بل تمهد له، وأن المشاورات كما قال ستُكرس للمسائل العسكرية والأمنية حصراً التي تعني الطرفين. وهو القول الذي تم تجاوزه في جولة المشاورات الرابعة التي تناولت الشق السياسي إلى جانب غيره، وتم فيها إعداد مشروع صفقة تسوية أجهضها وفد الحركة الحوثية في آخر لحظة برفضه التوقيع عليها.

أخذت المشاورات في جولاتها الأربع سنتين من الوقت، ولم تحقق أي نجاح يذكر، والعكس من ذلك فقد فتحت الطريق أمام خيار الحرب، وجمدت القرار 2216، وقطعت الطريق على أي مبادرات أخرى، بما فيها الأهلية، وأصابت العملية السياسية والجهود الدولية في مقتل، وأفقدتها ثقة الناس، وهذا ما شجع على اندفاع الكل لخيار الحرب.

شهدت سنوات المشاورات وولاية إسماعيل ولد الشيخ (2015 –2018م) التالي:
 - حصول الحركة الحوثية على الكثير من الهبات السخية والثمينة، كان أهمها الوقت الذي مكن الحركة من إعادة ترتيب أوضاعها، وتعزيز قبضتها وسلطتها وتحويل الانقلاب إلى نظام حكم له مؤسساته.

 - دخول الحكومة المعترف بها دوليًا في أزمات بنيوية عميقة، وتسليم أمورها وقرارها لتيار الإسلام السياسي "التجمع اليمني للإصلاح" وهو الأمر الذي انعكس على المواجهة مع الطرف الذي تم وصفه بالانقلابي.

 - وبعد إصرار الحكومة (المعترف بها دولياً) على نقل الحرب إلى الجنوب لكسر إرادة الجنوبيين والسيطرة على الجنوب تفاقمت الأزمة والاختلاف بين القوى الجنوبية من جهة والحكومة المعترف بها دوليًا من جهة أخرى، والتي تصاعدت بعد تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، وصولاً إلى اشتباكات مسلحة بين الطرفين.

في فبراير 2018م تم تعيين السيد مارتن جريفيث مبعوثًا خاصًا للأمم المتحدة إلى اليمن، وهو تعيين قابلة للناس بالرضا والتفاؤل الذي أكدها بما جاء في إفاداته الأولى أمام مجلس الأمن الدولي، التي أكد فيها سعيه للانفتاح على كل الأطراف بما فيها "الجماعات الجنوبية" وقوله لا يمكن لأحد أن يتوهم تحقيق السلام بدون مشاركة الجنوب، ووعده بالعمل على وضع مخطط عام لإعادة إطلاق عملية سياسية شاملة تجمع كل الأطراف، مع الحرص على ضمان مشاركة المرأة.

إلا أنه وبعد أشهر من بدء ولايته ولقاءاته مع أطراف محلية وإقليمية ودولية، وخلافًا لما سبق ووعد به في إفاداته الأولى، فإذا به ينحدر إلى المستنقع الذي غرق فيه ولد الشيخ، ويتخلى فجأة عن خيار المفاوضات السياسية الشاملة، والتسوية الشاملة لصالح مشاورات الطرفين، والتسوية بين الطرفين، وبالقضايا الحقوقية والإنسانية الجزئية، وبطريقة انتقائية وتمييزية، حتى في إطار المشكلة الواحدة. كما انشغل بورش عمل وندوات ومؤتمرات مكررة في موضوعاتها وشخوصها ومخرجاتها، استهلكت الكثير من الوقت والجهد دون فائدة أو نتائج ملموسة.

وبما يعبر عن وجود نية للتخلي عن عملية تفاوضية تشمل كل الأطراف وأصحاب المصلحة والقوى المؤثرة، وعن التسوية الشاملة التي تؤسس لسلام مستدام، لصالح صفقة بين طرفين تعنى بالتطورات ما بعد العام 2014م أورد المبعوث الخاص جريفيث في إفادته إلى مجلس الأمن الدولي بتاريخ 14/12/2018م ما يلي: "عندما يلتقي الطرفان في الجولة المقبولة سيكون الهدف أن ننتقل من التناول الإنساني الأساسي الذي تمت مناقشته في السويد، إلى تناول جدي للقضايا السياسية التي يجب معالجتها بين الطرفين من أجل حل النزاع في اليمن". وبذلك التصور حكم على الجهود السياسية بالفشل وعلى دور السيد مارتن جريفيث، الذي أجبر على الابتعاد عن دوره السياسي، لصالح القضايا الإنسانية والحقوقية والإغاثية المعنية بها أصلاً وكالات أممية أخرى تتبع الأمم المتحدة.

لا نعني بما ورد أعلاه تحميل شخص المبعوث الأممي الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المسؤولية عن الاجتهاد والفشل أكان مارتن جريفيث أو غيره، ولا المنظمة الدولية لوحدها، وإنما التدليل على وجود اختلالات وقصور فيما يطلق عليه بالعملية السياسية، ومساعي حثيثة من أطراف فاعلة للتأثير عليها، وحرفها عن مسارها وعن الأهداف التي نصت عليها قرارات مجلس الأمن الدولي.

لقد سبق أن دعت منظمات أممية متخصصة ومراكز أبحاث مرموقة وأطراف أساسية وقوى فاعلة على الأرض، وأصحاب مصلحة في السلام إلى التخلي عن قاعدة "الطرفين" والى توسيع المشاركة، وعدم حصر التسوية بتطورات ما بعد العام 2014م، التي لم تكن سوى إفرازات لقضايا وأزمات عميقة سابقة، وتفاعلات تضرب في صميم الواقع وقلب المجتمع، نشير منها إلى ما جاء في سلسلة تقارير منظمة الأزمات الدولية التي انتقدت في تقريرها الصادر في يوليو2020، ما وصفته بإصرار كل من "الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وحركة أنصار الله الحوثية والحكومة السعودية، على التمسك حصراً بمفاوضات الطرفين الذي بات يشكل إطارا تفاوضيا غير ملائم".. ودعت في  تقريرها "لاعتماد إطار تفاوضي جديد يعترف بالوقائع على الأرض" وإلى التعلم من دروس الماضي كما حثت على إشراك الأطراف الرئيسة الفاعلة على الأرض مثل المجلس الانتقالي الجنوبي.

في أغسطس 2021م تم ترقية السيد مارتن جريفيث إلى منصب مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية وتعيين الدبلوماسي السويدي هانس جروندبرج مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن. والذي دشن مهامه الجديدة بنشاط يمكن وصفه بالديناميكي والانفتاح مع كل الاطراف والقوى والجماعات وبإصرار على النجاح، وعمل بقدر ما يسمح له التفويض على تدوير الزوايا ومراعاة الوضع القائم على الأرض وما تتطلبه التسوية الشاملة والسلام، مما يحسب للسيد هانس حرصه على تحييد القيود التي أثقلت العملية السياسية وفصلتها عن الواقع وحكمت عليها بالتعثر والفشل.

وفي ذات الوقت عينت الإدارة الأمريكية مبعوثا خاصا لها إلى اليمن، ودخلت دول مجلس التعاون الخليجي بثقل واهتمام على خط العملية السياسية وأطلقت مبادرة عقد مؤتمر الرياض التشاوري الذي تم على ضوئه اعادة ترتيب مؤسسة الرئاسة اليمنية، كما انطلقت مسارات الحوار الأمريكي الإيراني والسعودي الإيراني وقد كان من نتائج مجمل تلك الجهود والمبادرات الاتفاق على الهدنة الممددة وتشغيل مشروط لمطار صنعاء وزيادة عدد السفن التي تنقل الوقود إلى ميناء الحديدة وبحث قضايا أخرى.

ومن الطبيعي أن يكون لكل طرف خارجي فاعل ومؤثر حساباته الخاصة ومصالحه التي يسعى لتحقيقها وهو الذي أوجد حالة من التنافس بين اللاعبين الخارجيين حيث سعى بعضها لاستغلال الوضع في اليمن وما يتم باسمه وعلى حسابه لصالح ابرام صفقات وتسويات وتأسيس تحالفات إما إقليمية - إقليمية أو دولية - إقليمية.

ما يجدر ذكره هو أن المبعوث الأممي لم يقدم بعد إلى مجلس الأمن الدولي رؤيته للإطار الذي على أساسه يعاد إطلاق العملية السياسية، ويرجح أن حالة الانقسام الحاد بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لا تساعد على مناقشة وتمرير هذا الموضوع الذي يدعو إلى صدور قرار جديد من المجلس يحل محل القرار 2216.

والثابت إن الإصرار على التمسك بخيار مفاوضات الطرفين يدل بوضوح على وجود توجه للتراجع عن العملية السياسية الشاملة والتسوية التي تؤسس لسلام مستدام والاستعاضة عنها بصفقة فوقية وجزئية بين القوى الشمالية على حساب الجنوب وهو تطور سوف نكرس له الجزء الثاني من هذه الورقة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى