ممارسات إجرامية بحق المرضى يرتكبها محاربو الجن

> «الأيام» المصدر أونلاين :

> لا تكاد تمر في شارع من شوارع مدينة إب مركز المحافظة التي تحمل الاسم نفسه وسط اليمن، أو شوارع المديريات المختلفة فيها إلا وتجد مركزا للرقية الشرعية، التي انتشرت في المحافظة كما في مختلف محافظات البلاد نتيجة غياب الوعي إضافة إلى تردي الخدمات الصحية والمعيشية للمواطنين وغياب الدور الرقابي من قبل الجهات المعنية.

ومع تردي أوضاع الناس المعيشية وصعوبة الحصول على خدمات طبية وغياب الدولة التي توفر تلك الخدمة للمواطنين بشكل مجاني، باتت تلك المراكز والعيادات قبلة للكثير من المواطنين خصوصا من البسطاء المعدمين وذوي الدخل المحدود، وتفتح بنظام دوام يشابه المراكز الطبية على فترتين مسائية وصباحية، وفيها عدد من القراء الذين يستقبلون مئات المرضى بشكل يومي.

ويزعم قراء "الرقية" أن "مس شيطاني" أو "سحر" أو "جني" تلبس المريض، وأحيانا أن المريض أصيب بـ"العين"، وفي مسعى للدفاع عن مصدر دخلهم يحشدون مئات الأدلة من المرويات التي نوقشت كثيرا بين علماء الدين ولم تكن يوما محل إجماع، لكن حفاظا على مصدر الدخل يصورون تلك المسألة كجزء من العقائد الإسلامية التي يكفرون من أنكرها.

وليستمر مصدر الدخل يستمر القارئ في إيهام الضحية ليعاود الزيارة مرة بعد أخرى وتستمر فترات العلاج في أحيان إلى أشهر وربما سنوات عديدة لبعض المرضى يخسر المريض معها ماله وصحته وربما حياته.

ويدعي القراء مداواة المرضى بواسطة القرآن الكريم، إضافة إلى أعشاب يقدمونها كوصفات طب بديل، لكنهم يرفقون ذلك بالكثير من الممارسات و"الجرائم" التي تمارس ضد المرضى الذين يكونون غالبا ضعفاء لا حول ولا قوة لهم في مجتمع يعتقد أن ما يمارس بحقهم سبب لنيل الشفاء.



البداية من الضرب

ما أن تلج أحد تلك المراكز أو تقترب من أبوابها إلا وتسمع أصوات البكاء وطلب النجدة من رجال أو نساء يتعرضون لضرب وحشي من قبل القائمين على تلك المراكز، هناك لا يجد المريض أي وسيلة للتخفيف من ألمه سوى الصراخ أمام ضرب ينهال على مواضع أو كل جسده، بذريعة تلبسه من قبل "الجن"، وعندما تستنكر ذلك يكون الرد التلقائي أن الذي يتعرض للضرب هو "الجني" وأن تلك الأصوات صادرة عنه وليس عن المريض.

الشاب معمر محمد، أحد الذين تعرضوا للضرب المبرح مجبرا من قبل أسرته على تلقي "العلاج" عند أحد القراء، يقول "تعرضت لضرب عنيف لم أعرفه بحياتي على الإطلاق، وكنت بكامل قواي العقلية والحسية، غير أن المعالج أكد أني مصاب بالمس ولابد من جلسات علاج"، مضيفا أنه كان يلجأ للتخفيف من الضرب بالاعتراف أن فيه "جني" وأنه يتعرض للإحراق أثناء قراءة القرآن ويتعهد بالخروج من جسده.



"وأنا بكامل وعيي".

كما يقوم بعض المعالجين بتعذيب المريض عن طريق الصعق بالكهرباء، والتي كثيرا ما تتسبب بنتائج كارثية على المرضى، الذين لا يجد بعضهم حيلة للهرب، فيما يعلق بعضهم أملا بالشفاء نتيجة التعبئة الخاطئة مجتمعيا واستغلال إيمان المجتمع بقدسية القران الكريم.



مضاعفات خطرة وضحايا

سبق أن تعرض عديد المرضى لمضاعفات خطرة جراء التداوي في عيادة الأعشاب والرقية، وقال مصدر طبي يعمل في مشفى الثورة وهو المشفى الرئيس بالمحافظة إنه سجلت العديد من حالات الوفاة بالمحافظة خلال السنوات الأخيرة، وفي حين يذهب معظم الضحايا للتصديق بأن "الجني" هو من قتل المريض، من النادر أن يتقدم أحد بشكوى ضد القائمين على تلك المراكز.



وفي نوفمبر من العام 2020م، توفيت شابة تدعى "م ع أ" التي ضرب لها مركز للرقية في شارع تعز وسط المدينة موعدا مع الموت بدلا من موعد الزفاف الذي كان مقررا بعد أيام.

مصادر من أسرة الضحية أفادت مراسل المصدر أونلاين أن أحد المعالجين بالرقية قال إن الشابة "مسحورة" وأعطاها "شربة" ـ خلطة شعبية داخل علبة ماء ـ وأجبرها على شربها بالقوة، وكانت تتوسل المعالج ومن حولها بأن الخلطة أعطتها مضاعفات والتهاب في جسمها بشكل عام، غير أنه لم يستجب أحد لتوسلاتها المتكررة، لتقضي متأثرة بتلك الخلطة.

وفي أواخر العام 2020، توفي مواطن يدعى "عيسى منصور علي مهدي" جراء تعرضه لعمليات ضرب وتعذيب وحشي من قبل اثنين من قُرَّاء الرقية الشرعية بمدينة إب، واللذين خنقا الضحية وعذباه بذريعة معالجته من "السحر".

وفي منتصف يونيو من العام 2020م، توفي شاب يدعى "أسامة يحيى الحوشبي" جراء تعرضه للصعق الكهربائي من قبل أحد معالجي الرقية الشرعية بمدينة النادرة شرق محافظة إب، حيث استخدمت الكهرباء بفولتية عالية في جسد الشاب الذي فارق الحياة على الفور.

ومؤخرا، أصيب شاب في العشرينات من العمر بمدينة إب، بمضاعفات خطيرة، جراء ممارسات قام بها أحد المعالجين في تلك المراكز والذين لم يعودوا يقتصرون على معالجة للمرضى بقراءة القرآن وإعطاء الزيوت المرقية، بل أمسوا يمارسون أعمالا طبية بحته كصرف أدوية وتشخيص أمراض تحتاج إلى أجهزة حديثة ومتخصصين لاكتشافها، وفقا للطبيب.



تحذيرات

ودق أطباء ومتخصصون ناقوس الخطر للتحذير من خطورة ما يجري داخل أروقة تلك المراكز، فقد وصل الأمر ببعضهم إلى تشخيص أمراض طبية بحاجة لمختبرات وأطباء متخصصين، وتمادى آخرون لكتابة وصفات طبية ومحاليل وريدية عدة في ممارسات تتسبب بمضاعفات خطرة قد تؤدي لإعاقات دائمة وأحيانا إلى الموت.

استشاري جراحة العظام والمفاصل والأستاذ المساعد في كلية الطب البشري بجامعة إب عبدالملك العواضي، أشار إلى بعض تلك الممارسات الكارثية داخل تلك المراكز، وقال: "آخر ما توصلت إليه أبحاث أدعياء الطب النبوي والتداوي بالقرآن في محافظة إب، قيامهم بفتح علب المحاليل الوريدية (المغذيات)، والتي تكون محكمة الإغلاق ومعقمة من المصنع، والنفث عليها من لعابهم المبارك ثم حقنها عبر الوريد للمريض المصاب بالعين أو المس".

وأضاف العواضي وهو من أشهر أطباء العظام بمحافظة إب، "ما يجري عبارة عن حقن للبكتيريا مباشرة الى الدم ومساعدتها على اجتياز كل الخطوط الدفاعية التي جعلها الله لحماية البدن".

وأشار الدكتور العواضي، إلى أن آخر ضحايا تلك المراكز، "شاب في العشرينات من العمر، أُصيب بتقيح في مفصل الورك، والذي سينتهي به المطاف حتما الى تحطم غضاريف المفصل إذا لم يتم تنظيفه في الساعات الأولى من الالتهاب، وسيتحتم عليه لاحقا زراعة مفصل صناعي للورك المصاب".

وأكد المصدر في مستشفى الثورة العام بمدينة إب، لـ"المصدر أونلاين" تسجيل حالة وفاة في مديرية القفر شمال المحافظة، جراء إصابتها بفشل كلوي، نتيجة حقنها في الوريد بماء ملوث صرفه أحد الرقاة، الأمر الذي تسبب في الوفاة.

ويحذر أخصائي الباطنية والقلب في إب، الدكتور أحمد ياسين، من خطوة هذه المراكز على صحة المجتمع، فيقول إن من وصفهم بـ"أدعياء الطب والدخلاء ع المهنة، ظاهره خطيره على صحة المجتمع بل ومهددون للحياة في كثير من الأحيان".

ويضيف: "تأتينا حالات لمرضى القلب والكبد والسكري والحالات النفسية في مراحل متأخرة بعد أن طافوا على كثير من القراء والمشعوذين والدجالين وجربوا فيهم كل الخرافات والخزعبلات والتي يمكن أن يكون لها بعض التأثير المؤقت ليقين المريض بهذا الطريقة من المعالجة لكنها سرعان ما تنتهي ويعود المرض ينهش بجسم المريض".

وأشار الدكتور ياسين، إلى أن "التأثير والتحسن المؤقت ربما مقصور فقط على الأمراض النفسية"، مؤكدا أن "الإشكالية ليست فقط في فتح مثل هذه العيادات، لكن الأهم هي بثقافة المجتمع الذي أوجد سوق لهذا العمل وجعل منه عمل ذو ربحية جيدة".

وأوضح أنه و"أمام زيادة مثل هذه العيادات والإقبال عليها وما يجري فيها، فإن الأمر يتطلب جهدين متوازيين، الأول يتمثل في محاربة مثل هذه الظاهرة باسم الدين والقرآن وأيضا باسم الطب الشعبي، والثاني من خلال نشر الوعي داخل المجتمع بتلك المخاطر التي تجري في تلك العيادات وضررها على المريض".

أما الدكتور عبدالله الحدأ وهو طبيب يمني هاجر للعمل خارج البلاد فعلق قائلا: "لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم طبيبا أو مهندسا أو قائدا حربيا بل كان بشرا رسولا نشأ في البادية ومارس رعي الاغنام ثم التجارة، فلا مصوغ قرآني ولا حديث مشرع يدل على أن الرسول يعلم الطب ويداوي المرضى".

وأضاف الدكتور الحدأ : "تحت مسمى الطب النبوي تاجر أصحاب الدكاكين للضحك على الناس باسم الرسول الكريم ومثلهم دكاكين الرقية الشرعية لعلاج المس والسحر، بالتأكيد أنه لا تعشش مثل هذه الآفات الا في غياب نور الشرع الواضح والعلم السليم".

من جانبه قال الطبيب "س، ع، س" وهو أحد أطباء إب أيضاً لـ"المصدر أونلاين": "نجد أن كثيرا مما يقدمه هؤلاء لا يختلف عن الشعوذة التي كان يقدمها المشعوذين من قبل، فهو يبيعك الوهم وبعض المنتجات التي تدفع فيها أثمانا باهظة وهي أشياء عادية لا يوجد أي دليل أو بحوث أو دراسات تثبت أن لها أي فائدة طبية، ناهيك عن أن كثيرا من المرضى يتكل على هذه الأعشاب ولا يزور الطبيب المختص، وينتظر حتى تسوء حالته الصحية ليأتي بعدها إلى المستشفى وقد ساءت حالته وتعقدت، فيصعب علاجه".

ويضيف: "هناك بعض المعالجين يقومون بأفعال انتقامية بحق المرضى، ضرب صعب بالكهرباء، وبعضهم يبيعك قارورة الماء بثمن باهظ، يا رجل تخيل أن قارئا أعرفه يجمع 50 كرتون ماء في غرفة، ويقف على باب المنزل ويقرأ سورة الفاتحة، ثم يخرج ليبيع القارورة من هذه الكراتين بـ 500 أو 1000 ريال".

ويتابع: "الأخطر من ذلك كله، أن بعض المعالجين وصل بهم الأمر حد تسجيل وصفات طبية وأدوية لا تصرف إلا من قبل أطباء ومتخصصين في المجالات الطبية المختلفة، وهم لا يحملون أي تصاريح ولم يتعلموا الطب حتى.



تجارة

تحولت مراكز الطب الشعبي لتجارة رابحة، يفوق دخلها دخل مراكز طبية بها أطباء متخصصون، حيث استفاد ملاكها من الظروف التي صنعها واقع الانقلاب وغياب الدولة، واستغلوا إقبال المجتمع الذي ذهب إليهم نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الطبية على حد سواء، إضافة إلى ضعف الثقة بالطب التي خلفها غياب التشخيص الدقيق لبعض الأمراض نتيجة هجرة الأطباء الأكثر مهارة إلى خارج البلاد.

ولا يحتاج من يفتح مركزا كهذا أكثر من شقة يستأجرها وبعض الزيوت والخلطات الغريبة وكراتين الماء المعدني التي يشتريها بثمن بخس ويبيعها بأضعاف مضاعفة عن سعر الشراء، أسباب ضاعفت الكسب لملاك هذه المراكز بخلاف المراكز الطبية التي تحتاج أجهزة ومعدات وأدوية وغير ذلك.

وإن كنت من زائري هذه المراكز فقد تُفاجأ يوما بقارئ يقول لك إن بيتك مسحور وإنه على استعداد للنزول في مهمة إنسانية إلى منزلك ليرش الماء المرقي بيديه المباركتين ويزيل السحر، مقابل أن تدفع له مبلغا من المال، وإن استجبت ووجدك سخيا، فسيعود ليقول لك إنه لا بد من نزلة أخرى لإكمال المهمة، أو ربما قال إن الساحر علم بنزوله فعمل سحرا آخر، ولذلك لا بد من زيارة أخرى "سرّية" هذه المرة لإزالة السحر، وهذه بالطبع بحاجة إلى تكاليف جديدة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى