​جمهورية عدن.. البيت والبحر والجبل والتعليم والسلام

>
رويدا رويدا تتدحرج مياه البحر في زيارات صباحية ومسائية، فتعانق الجبل والمدينة وأهلها في خليج الفيل والبريقا وساحل أبين والتواهي ويفتتح الصيادون يومهم بانطلاق قوارب الرزق مرددين حيا على العمل.

فتتبدى للمشاهد صورة وتاريخ وحضارة وهوية ومدنية، ومجتمع حي يؤمن بالانضباط والولاء للأرض وعشق كبير بلا حدود.

من مدارس عدن سطرنا أولى الحروف ونهلنا من منابعها العلم والثقافة، ووثقنا هوية وبصمة جيل ولا في الاحلام. حفظنا المنهج بشغف العلم والمدرسة والتعليم وكان صباحنا اليومي كرنفال يومي للسلام ومدينه تشع انضباطا وولاءا.
ست سنوات بالابتدائية، لا نفارق حصص الحقل والمزرعة والفلاح ومحبة الأرض وحبات المطر وأناشيد"ألا طيري ألا طيري" و"غني ياعصافيري"..

ثم ثلاث سنوات في الإعدادية مع عالم النحو وقصائد البردوني والمقالح وإيليا أبو ماضي وأن وكان وأخواتها ونظرية فيثاغورس.
ثم ثلاث سنوات بالثانوية في رحلات مكوكية برفقة(رجال في الشمس) بصحبة الأديب غسان كنفاني وأستاذ اللغة العربية الكبير الأستاذ مجذوب، رحمة الله عليه، ونحن معلقون فوق الشمس نتبع أولئك الرجال الذين علقوا هناك لنذهب ونسامرهم سنوات طويلة.
كنا كالملائكة التي تنطلق في الأرض بعفوية..لم نجرؤ يوما أن نسأل أساتذتنا لماذا نحن معلقون في الشمس ثلاث سنين وما قيمة هذا؟
فلم يساورنا شك حول المنهج لقد كان عالمنا المزهر العفوي الصادق، الذي تذوقنا فيه جمال الحياة وبساطتها وصفائها ولقاء الأحبة ومدينة تتزين بثوبها الوردي الجميل.

ثم سنتان في الخدمة العسكرية بصحبة ضباط وقيادات وتدريب وجري وركض وتأهيل عسكري، منضبط وتحية وسلام للضابط أول ما يطل علينا من بعيد ولباس عسكري واحد ورئيس واحد ووطن واحد وجيش واحد وأسرة عسكرية تعرف واجباتها.
ثم ثلاث سنوات بالجامعة ورحلات مكوكية أخرى بصحبة ماركس وإنجلز ولينين، مستنفرين ضد الراسمالي الطاغي والقيمة الزائدة، فخرجنا شعوبا وقبائل وطلاب وأساتذة نهتف للمنهج والفقير والصياد والعامل والفلاح والنجار، رافضين الإمبريالية المتعفنة، ويا ويل من بايعادينا قابوس أو السعودية.

وبعد..
وفي لحظة فارغة وجدنا الرفاق يهملون حصص الدرس، فيسلمون جمهورية عدن للرأسمالي التاجر في صنعاء. فحملنا شهادات البكالوريوس لا نعلم أين نتجه. ليأتي منهج جديد ليخبرنا بأن بقاءنا في الشمس ورحلاتنا مع ماركس ولينين كان عبثا واستهبالا.
وقفنا ثابتين نتشبت بحصص الدرس وبهويتنا وأرضنا، وفوجئنا بأن دولة النظام وقيادتها ومفكريها قد سافرو إلى بيت الرأسمالي الإمبريالي، واستقروا هناك فوقفنا على الأرض نبحث عن من نحن وأين نحن وما الذي حصل؟
وفجأة أطفئت الكهرباء وانقطعت المياه وتوقفت الرواتب واختفى الخبز، ومدينة فوضوية غريبة، لا نعرفها ولاتعرفنا ولم ننهل عنها أي حصة درس وجيوش وبنادق تمسك وتقبض على كل مفاصل الحياه.

كل المناهج تباع وتشترى..كل السياسة تبيع وتشتري..كل القيم تباع وتشترى..كل الجاهلين يبيعون ويشترون..إلا مناهج الرحمن لا تباع ولا تشترى، وبقيت ثابته..(( والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).

مرت السنون واشتعل الرأس شيبا وضعف الجسد وخفتت نبضات القلب وصرنا عجزة. فوجدنا بأن كل ما تبقى لنا من حصص الدرس وذاك الحلم الجميل، هي لقاءات الصدفة بالأصدقاء، التي تفاجئنا في أرصفة المدينة وحاراتها، فأشعر بالفرح والسرور وألتقط صورة، وأوثقها وأرسلها لكل الأحبة ونبتسم فرحين، لأننا كنا أرض حقيقة، ولم نكن يوما أوغادا، نلهو ونستمتع في حفلة تنكرية للمرح.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى