المفاوضات تحت تهديد الضربات الصاروخية.. إلى أين؟

> لم يحصل في أي عصر من العصور وحتى في أي حرب من الحروب، أن تتم المفاوضات مع جماعة انقلابية تعتقد نفسها بأنها تستطيع أن تفرض شروطها عبر التهديد بالضربات الصاروخية، والطائرات المسيرة، هذه أول بادرة في التاريخ ولم تكن مسبوقة من قبل، ولم تكن تحصل لو لم تحصل على تشجيع من طرف ما من اللاعبين ….. وفي العادة تجري المفاوضات بعد أن يصل المتحاربون إلى طريق مسدود وبعد أن سدت كل طرق الحلول العسكرية، وأصبح التفاوض للوصول إلى حلول ترضي كافة الأطراف مسألة مقبولة، ولهذا فالحرب منذ بدايتها كانت لغزًا، وانتهت لتصبح أكثر تعقيدًا، بل لغز الألغاز، وما يجري من تفاوض الآن -حسب التسريبات- يشير إلى تجاهل أسباب الحرب الحقيقية، والأزمة اليمنية وأي قفز عليهما لا يقود إلى أي سلام عادل في اليمن، لا شمالا ولا جنوبا، كما أن الاعتراف بأمر واقع في الشمال، وتجاهل ذلك في الجنوب، عمل غير منصف، من شأنه أن يزيد من الاحتقان والحروب في المرحلة القادمة.

فالبدايات الخاطئة في انحراف المفاوض عن جوهر القضية الأساسية، وينتقل مباشرة إلى الجزئيات الصغيرة، ويعتقد أنه بمنح الحوثي 80‎% ‎ من ثروات الجنوب (التي هي أصلا ما زالت بيد متنفذي الشمال السابقين، يعتبرها الجنوبيون عملية نقل أوتماتيكي للثروة من فريق شمالي إلى فريق شمالي آخر) سيجره إلى السلام لكنه سواء كان يدري أو لا يدري ذلك المفاوض، بأنه سيفتح شهية الحوثي، ليضع شروطًا أكثر تعجيزا، حتى أصبح اليوم يهدد دول التحالف بالضربات الصاروخية، والطائرات المسيرة، كما يهدد ضرب الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، وكما أوقف بتهديداته تصدير النفط من الموانئ الجنوبية …. من يستطيع توقيفه عند حده الآن بعد أن شعر بان العالم يأتي إليه يطلب رضاه بالموافقة، على استمرار الهدنة والدخول في ماراثون السلام دون أي شروط.

يا ساده لا نفط الجنوب، ولا نفط الجزيرة العربية كلها، يمكن يطيب خاطر الحوثي الحاكم المتوج في صنعاء، ليقبل بالشروع بالسلام، ولكنه سيذهب إلى أبعد من ذلك، فلا يجب النسيان بأنه ذراع إيران في جنوب الجزيرة العربية، ولن تتخلى عنه إيران لأي سبب كان، بل هذه العروض تقوي سلطة الحوثي، وسيذهب هذا الدعم المالي المجاني كالعادة في دهاليز الفساد المتأصل، في المنظومة السياسية والقبلية والدينية، التي تحكم صنعاء. فالمشكلة أعمق وأخطر مما يتصور المفاوض اليوم، الذي يجب أن يضعوا أيديهم على لب الأزمة المستعصية في اليمن، وهي غياب الدولة، وإن كان هناك مساعدة، فيجب أن تصب في اتجاه بناء الدولة أولا، وأن يستفيد المفاوض الإقليمي من أخطاء الماضي، خلال ستين عامًا، كأن يتم دعم مراكز القوى في اليمن، التي كانت تتناحر فيما بينها، وتركوا بناء دولة يمنية حديثة على الرف، وكانت النتيجة ما توصلنا إليه اليوم من حروب ودمار، أصبحت تهدد بشكل مباشر أمن واستقرار المنطقة برمتها، وهذا هو التحدي الأكبر إن اردتم تسوية سياسية مستدامة ومضمونة.

السؤال بعد أن سقطت كل المشاريع السياسية السابقة، وأصبحت غير قابلة للحياة، ومنها الوحدة، وأصبحت اليمن ميدانًا للحروب والاحتراب، بسبب تلك المشاريع الفاشلة. هل فكر أحد بالبدائل ؟ وهل يملك المتصارعون اليوم مشاريع سياسية جديدة ؟ وعلى سبيل المثال هل لدى الحوثي مشروع سياسي غير المشروع الديني السلالي الطائفي، يستطيع أن يقنع من هم تحت سيطرته اليوم ؟ ونفس السؤال يطرح على الشرعية الشمالية، ما هو مشروعها السياسي الذي تخاطب به مناصريها في مناطق سيطرة الحوثي؟ أما إصرارها على الوحدة، فهذا المشروع قد فشل وغير قابل للحياة، وبالنسبة للجنوب فلديه مشروعه السياسي لدولة اتحادية، والذي أقره في مايو الماضي عبر اللقاء التشاوري الذي تم في عدن، وحدد بشكل واضح أسس الدولة الاتحادية الجنوبية، على حدود عام 90 م، ومن هنا تبدأ العملية السياسية وتكون لدى المفاوض الإقليمي والدولي خطط ترتكز على مساعدة كل من الشمال والجنوب على بناء دولهم الجامعة، على أسس حديثة، وعندها نقول إننا نسير نحو إرساء أسس الأمن والاستقرار للمنطقة برمتها.

المشهد السياسي اليوم يؤشر إلى أن مفاوضات اليوم، تتجه نحو تثبيت نظام سياسي في صنعاء، تابع لإيران، ويتم مراضاته، بل وتقديم له كامل التسهيلات من فتح الموانئ والمطارات، مقابل لا شيء، وما يجري في الجنوب على العكس من ذلك حصار وتعطيل خدمات وعدم دفع مرتبات، تمارسه الشرعية، ونذكر هنا ما أعلنه أحد قادتها -أي الشرعية- على الملأ من خلال مقابلة تلفزيونية، بعدم تمكين الجنوبيين من أي دعم، حتى لا يتم تقوية المشاعر الانفصالية لديهم، وهذا هو لب الصراع القائم والمركب بين الجنوب والشمال، وما يمارس اليوم ضد الجنوب هو استقواء الشرعية بالإقليم والعالم ضد الجنوب، لأن الوحدة ماتت وشبعت موت، وإحياؤها أصبح من سابع المستحيلات، على الأقل في هذه المرحلة،

الهدنة فشلت لأن الحوثي ما زال يهدد بضرب المرافق الحيوية في دول التحالف، وما زال يهدد الملاحة البحرية في البحر الأحمر وباب المندب، وما زال يهدد ميناء عدن وموانئ تصدير النفط في الجنوب، وما زال يقوم بهجمات يومية على الحدود الجنوبية، ولكن هذه الهدنة نجحت في مناطق سيطرة الشرعية، ولا توجد أي خروقات تذكر، فالهدنة بين الشرعية والحوثي صامدة !! وهذا هو التفسير العملي لوحدة كل القوى اليمنية، شرعية مع حوثي ومع أحزاب يمنية، وقوى قبلية ودينية أخرى، عندما يتعلق الأمر بالجنوب.

كيف نفسر تلك التهديدات وما زال التفاوض مع الحوثي مستمرًا، كيف سيتعايش الإقليم والعالم مع تهديدات الحوثي للدول المجاورة، وتعريض سلامة الملاحة البحرية الدولية للخطر، وبالذات في البحر الأحمر وباب المندب، وكيف يسمح الإقليم والعالم بتهديد موانئ الجنوب؟ هل يملك الحوثي ضوءًا أخضر للقيام بتلك التصرفات والتهديدات لابتزاز الجنوب لكي يرضخ للتسوية الجائرة؟

الغريب في الأمر أن الجنوب يتعرض للحصار والتضييق في عيش الناس من قبل الشرعية، وما زال حرب الإرهاب مستمرة في عدد من المحافظات الجنوبية، وتواجه القوات الجنوبية منفردة عملية محاربة الإرهاب، وكذا صد الهجمات الحوثية على جبهات الجنوب، ولم يقف الأمر عند ذلك، ولكن هناك من يعمل على تفتيت الوحدة الوطنية الجنوبية، من خلال إنشاء مجالس تهدف إلى شق الصف الجنوبي، ووضعه في مواجهة الأكثرية المطلقة للجنوبيين، المطالبة باستعادة دولتهم الجنوبية، وهناك نشاطات تخريبية أخرى مثل نشر المخدرات بكل أنواعها في مدن الجنوب.

وفي المقابل لم نجد أي عمل سياسي يحرك الأوضاع في المناطق المسيطر عليها الحوثي، لا من قبل الشرعية الشمالية، ولا من قبل القوى السياسية اليمنية، وكأن ما يجري هناك لا يعنيهم، ولكنهم يركزون كل جهودهم على الجنوب في عرقلة مسيرة نموه واستقراره،

لمصلحة من نشر الفوضى في المحافظات المحررة الجنوبية، وإغراقها بمئات الآلاف من النازحين، بينما الحرب انتهت، ومناطقهم يسودها الهدوء والأمان ولا يوجد أي مبرر للحكومة تشجعهم على البقاء في الجنوب، الذي يعاني من الحصار وتعطيل الخدمات، وانعدام التنمية، ولمصلحة من تشجيع مئات الآلاف من اللاجئين القادمين من القرن الأفريقي، ورميهم في سواحل الجنوب، ليشكلوا عبئًا إضافيًا على الأوضاع الأمنية والمعيشية المنهارة في الجنوب. لماذا كل هذا الضغط على الجنوب؟ ويخيل لنا بأن الحرب أصلا موجهة نحو الجنوب، وليس من أجل إعادة الشرعية إلى صنعاء.

لا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بعودة الوضع إلى ما قبل عام 90، ولكن بشروط جديدة من خلال الاتفاق على مشاريع دولة حديثة لكل من الشمال والجنوب، وقد بادر الجنوب بإعلان مشروعه السياسي الاتحادي، وعلى القوى الشمالية أن تعلن مشروعها، ويكون هناك ناظم لتلك المشاريع من قبل مجلس التعاون الخليجي، لدعمها ومساعدتها على النهوض وتثبيت الأمن والاستقرار، وقبل ذلك وضع مشروع مارشال تنموي ونهضوي لكل من الجنوب والشمال، لإعادته إلى وضعه الطبيعي، ليكونا عنصرين فاعلين في المنطقة، وفي النهوض العربي القادم، غير ذلك سيظل نعيش في أوهام، وستطول الصراعات وستتمدد وستأكل الأخضر واليابس، ليس في اليمن شماله وجنوبه، ولكن في كل المنطقة، فالفرصة سانحة أمام العقلاء، لكي يصوبوا البوصلة، من أجل اختصار الوقت وتخفيف الثمن الذي ستدفعه المنطقة.
خاص بـ "الأيام"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى