​إعادة ضبط علاقات أمريكا والخليج في نظام عالمي متغير

> نيكولاي ملادينوف:

> في حقبة يسمها تغير الديناميات العالمية، تجد الولايات المتحدة نفسها خائضة في مياه تموج بأثر من صعود الصين ومواجهة الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ظل هذه الخلفية، يصوغ قادة منطقة الخليج العربي وما هو أوسع منها مسارات جديدة لأنفسهم، بتشديد واضح على الدبلوماسية الاقتصادية، وتهدئة التصعيد السياسي، وتنويع الاصطفافات الاستراتيجية.

كانت دعوة مجموعة بريكس في أواخر أغسطس لضم ستة أعضاء جدد إلى الكتلة تأكيدًا للتحديات التي تواجه الولايات المتحدة في التكيف مع هذه التحديات، وبخاصة في الشرق الأوسط.

برغم أن بعض الدول لم ترد على الدعوة رسميا حتى الآن، فالمرجح أنها جميعا -أي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران ومصر وإثيوبيا والأرجنتين- سوف تنضم إلى البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا في عضوية مجموعة بريكس في يناير.

تضرب جذور أغلب إعادات الترتيب في الشرق الأوسط والخليج في سعي المنطقة إلى تنويع السياسة الخارجية، ومن الممكن تتبع هذا الدافع وصولًا إلى صعود الاقتصادات الآسيوية قبل عقدين من الزمن، بل ويمكن تتبعه إلى ما هو أهم من ذلك وهو «محور آسيا» الأمريكي خلال فترة حكم إدارة الرئيس باراك أوباما.

كما أن التصور المتنامي لنأي الولايات المتحدة بنفسها أو تذبذبها في التزامها بأن تكون مرساة الأمان الرئيسية في المنطقة قد تسبب في البحث عن أطر سياسية جديدة، وفيما تشهد منطقة الخليج نموًا اقتصاديًا سريعًا، تنحرف السياسات الوطنية عن المصالح الأمريكية، حتى وإن استمرت المنطقتان في الحفاظ على ترتيبات منضبطة في الشؤون الأمنية.

وفي حين أن الانسحاب الفوضوي المباغت من أفغانستان سنة 2020 قد أدى دورًا حاسمًا في دفع بلاد الشرق الأوسط إلى النظر في ما وراء واشنطن، فإن ثلاثة أفعال على الأقل، تمت بقيادة أمريكية، وصاغت نظرة المنطقة الجديدة.

أولا: عزفت كثير من دول الخليج والشرق الأوسط عن دعم غزو العراق الذي تم بقيادة أمريكية سنة 2003، خوفا من أن يؤجج ذلك توسع إيران الإقليمي في بغداد ما بعد صدام حسين، ومصداقًا لهذه المخاوف، أتاحت سنوات الاضطراب التالية صعود ميليشيات وأحزاب مدعومة من طهران في العراق وباتت في حالات كثيرة معادية لدول الخليج العربي.

ثانيا: في حين أشار البعض في المنطقة بعدم مساندة واشنطن للإطاحة بحسني مبارك من حكم مصر سنة 2011، لم تلق نصائحهم المتخوفة آذانا مصغية، وبات الشرق الأوسط منذ ذلك الحين يعاني تداعيات سياسات متطرفة.

وأخيرا، برغم المعارضة الإقليمية للصفقة النووية مع إيران، وقعت الولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015، ثم أدى التراجع عنها لاحقا -ثم التراجع عن التراجع الذي لم يكتمل بعد- إلى مزيد من التشويش لصور الولايات المتحدة في المنطقة.

أتت هذه الأحداث على مصداقية أمريكا، ونتيجة لذلك، بدأ لاعبو المنطقة يتولون الأمور بأنفسهم في اليمن، مما زاد من توتر علاقتهم بواشنطن، وفي الآونة الأخيرة جاءت هجمات حوثية بطائرات مسيرة على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في ما بين 2019 و2022 لتختبر شراكة الولايات المتحدة مع المنطقة.

لم يتبين بعد إلى أي مدى سوف يضيف القتال بين إسرائيل وحماس مزيدا من التأثير على موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبخاصة في حال حدوث تصعيد يجتذب ميليشيات وكيلة لإيران في المنطقة.

بعد إنفاق ثمانية تريليونات دولار في حربي العراق وأفغانستان و«الحرب على الإرهاب»، أنفقت الولايات المتحدة الآن خمسة وسبعين بليون دولار إضافية لمساعدة أوكرانيا في صد العدوان الروسي، مع وعود بدعم إضافي، ولم يزل أغلب الشرق الأوسط -الذي سعى إلى البقاء على الحياد في مسألة أوكرانيا- ينتظر أن يحين وقته لتعظيم الفوائد التي قد تعود من الترتيب العالمي الجديد على القوى المتوسطة.

وفي الوقت نفسه، تستغل الصين في هدوء فرصها الاقتصادية في الشرق الأوسط.

يدعم من شراكات في الطاقة والتجارة والتكنولوجيا والاستثمار، بلغت صفقات الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي الست 223 بليون دولار في عام 2021، بزيادة كبيرة عن 134 بليون دولار قبل عقد من ذلك. بالمقارنة، قدِّرت التجارة الأمريكية مع دول مجلس التعاون بقرابة ستين بليون دولار في عام 2019، انخفاضًا من مائة بليون في 2011.

حجم الطاقة والتجارة بين دول مجلس التعاون ونظرائها الآسيويين - ومنها الهند وكوريا الجنوبية واليابان ومجموعة جنوب شرق آسيا- تفوق كثيرا صفقاتها مع الولايات المتحدة، هذه العلاقة بين كبار منتجي النفط ومستهلكيه في آسيا أثرت على السياسة الخارجية لمجلس التعاون الخليجي واستراتيجياته الأمنية.

وليست التجارة هي المؤشر الوحيد على أن التحالفات تتغير، فمنظور المنطقة الاستراتيجي أيضا ينحرف عن منظور واشنطن، ففي حين أن الروابط الدفاعية والأمنية مع الغرب تظل أساسية، فإن مساعي بذلت هذا العام لضبط العلاقات مع خصوم إقليميين، من قبيل إيران، في تغير دال للتركيز يعطي أولوية للدبلوماسية الاقتصادية، وهذا النهج المتطور يعكس الاستقلال الذاتي الاستراتيجي المعزز للمنطقة.

تتباهى دول كثيرة في الشرق الأوسط اليوم بأن لها اقتصادات أقوى وقدرات عسكرية أكبر مما كان عليه الوضع في الماضي، وفي حين أن المنطقة لم تزل بعيدة عن تحقيق اكتفاء ذاتي كامل، فإنها تقوم تدريجيا بتنويع شراكاتها، وهي تفعل ذلك بشروطها الخاصة، وكلما ازدادت واشنطن اعترافا بهذا التحرك نحو تقرير المصير الاستراتيجي، ازدادت مسايرة لطموحات المنطقة وأولوياتها.

تسعى منطقة الخليج العربي، في جوهرها، إلى أن تكون مجالا يعلو فيه التعاون على المواجهة، ويتردد صدى هذه الروح في تفضيل القادة للحوار والدبلوماسية والتحالفات المتنوعة على التدخلات العسكرية وسياسات الوكالة.

ويؤكد عدم تجانس الاستراتيجيات داخل دول مجلس التعاون الخليجي على ضرورة قيام الولايات المتحدة بإعادة ضبط نهجها، فالطريق إلى تجديد الشراكة بين الولايات المتحدة والخليج والشرق الأوسط يتطلب فهما دقيقًا لرؤية المنطقة للعالم.

ليس الشرق الأوسط، وبخاصة كتلة مجلس التعاون الخليجي، منطقة متجانسة، إذ تتبنى الدول منفردة استراتيجيات متنوعة ترتكز على تفسيرها الفريد للاستقلال الاستراتيجي.

واستيعاب تصور الشرق الأوسط للشؤون العالمية، وتوسيع مبادرات من قبيل الاتفاقيات الإبراهيمية، وتأييد أطر التعاون المتخصصة من قبيل I2U2 (الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة)، وتوسيع التحالفات من خلال دمج دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان، يمكن أن يكون خطوات مبدئية لتجديد علاقات المنطقة مع واشنطن.

وفي حين ترسم دول الخليج مسارات جديدة في مشهد جيوسياسي متغير، فمن الضروري أن يقوم صناع السياسة الأمريكيون بإعادة ضبط استراتيجياتهم بالمثل.
"أكاديمية قرقاش الدبلوماسية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى