ثمن تقديم الاستيطان على الأمن

> خيرالله خيرالله:

> ​مهما فعلت إسرائيل ومهما ارتكبت من أعمال وحشيّة ومجازر في غزّة، لا شيء يعوض عن فشلها غير تغيير جلدها واعترافها بضرورة البحث عن حلّ سياسي يخرجها من المأزق الذي أدخلت نفسها فيه.

من أدخل إسرائيل في المأزق هو التوجه الذي اعتمده سياسيون من اليمين على رأسهم بنيامين نتنياهو. في لبّ الأزمة التي تعاني منها إسرائيل في الوقت الحاضر ذلك السقوط المريع لرهانات اليمين المتطرف على خيار التطرّف الذي في أساسه السعي إلى تكريس الاحتلال ومتابعة الاستيطان من جهة ورفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني من جهة أخرى.

في 7  تشرين الأوّل – أكتوبر 2023، سقط رهان إسرائيل على “حماس” من أجل تكريس الانقسام الفلسطيني وفصل الضفة الغربيّة عن غزة. سقط رهان الاستثمار في “حماس”، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. ما سقط فعلا هو الرهان على الاستيطان بدل الرهان على الأمن. تبيّن أن الرهان على الاستيطان لا يمكن أن يوفّر الأمن، إضافة إلى أنّه يلغي أي أفق سياسي، إسرائيليا وفلسطينيا وعربيا وإقليميا.

يحصد بنيامين نتنياهو وأفراد حكومته ما زرعوه ليس في غزة فحسب، بل في الضفة الغربيّة أيضا. حصدت الحكومة الإسرائيليّة ما خلفه الجهل في التعاطي مع الواقع المتمثل في قطع الطريق على خيار الدولتين. ساعدتها “حماس” في ذلك بعدما رفعت شعارات غير واقعيّة سمحت لأي حكومة إسرائيليّة بالقول إنّ “لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”.

الآن انفجر اللغم الحمساوي والغزاوي في وجه إسرائيل التي لم تتلق ضربة شبيهة بتلك التي وجهتها إليها “حماس” وذلك منذ قيامها في العام 1948. لم يسبق لإسرائيل أن خسرت هذا العدد من العسكريين والمدنيين في يوم واحد. كذلك، لم يسبق أن وقع في الأسر هذا العدد الكبير من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين. فوق ذلك كلّه، لم يسبق أن تعرّضت مدن إسرائيلية ومواقع عسكرية لقصف مباشر كما حصل في الأسابيع القليلة الماضية.

“بيبي” نتنياهو فشل على كلّ الجبهات، خصوصا بعد رضوخه لأقصى اليمين وتشكيله حكومة تضمّ مجموعة من العنصريين يرفضون الاعتراف بوجود شعب فلسطيني. بين وزراء حكومة “بيبي” التي لا همّ لها سوى الحؤول دون ذهابه إلى السجن بسبب فضائح الفساد المتورط فيها يمكن التوقف عند اسمين. الأول إيتمار بن غفير الذي يمارس كلّ أنواع الإرهاب بدل ممارسة مهمته الأصلية بصفة كونه وزيرا للأمن القومي. الوزير الآخر هو وزير المال بتسلئيل سموتريتش الذي لا يعترف بوجود شعب فلسطيني. قال ذلك صراحة في أثناء وجوده في باريس قبل أشهر قليلة.

إلى أين يمكن لحكومة فيها مثل هذا النوع من الوزراء أخذ إسرائيل؟ الجواب، بكل بساطة أن حكومة “بيبي” التي لا مهمة لها سوى إنقاذ رأس رئيسها أخذت إسرائيل إلى كارثة سيكون صعبا الخروج منها… هذا إذا لم تأخذ المنطقة كلّها إلى كارثة.

في النهاية لا يصنع تطرفان سلاما. ما يصنع السلام هو المشروع السياسي الواضح. عمل التطرفان الإسرائيلي والفلسطيني على نسف أي مشروع للسلام من أساسه. كانت نتيجة هذا الحلف غير المقدّس أن تلقت إسرائيل الضربة التي تلقتها. هذه الضربة ستغيّر طبيعة الدولة تغييرا نهائيا. إسرائيل ما قبل السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023 غير إسرائيل ما بعد هذا التاريخ. انهزمت إسرائيل وانهزم معها المشروع الاستيطاني الذي نادى به اليمين الذي سعى إلى خلق واقع جديد على الأرض الفلسطينية، أكان ذلك في القدس الشرقّية أو في الضفّة الغربيّة. هناك فشل إسرائيلي على كلّ المستويات. ليس “بيبي” نتنياهو سوى رمز لهذا الفشل. من هذا المنطلق، نجده عاجزا عن الذهاب إلى السياسة. ليس لديه من خيار آخر غير التصعيد وممارسة الوحشية التي يذهب ضحيتها أطفال ونساء وعجائز، فيما لا تزال “حماس” قادرة على إطلاق الصواريخ التي مصدرها إيران.

كان رهان “الجمهوريّة الإسلاميّة” على “حماس” رهانا في محله. لم تنتقم من إسرائيل ومن عملياتها في داخل إيران فقط. استطاعت أيضا تسميم الأجواء في المنطقة كلّها. وضعت حدّا لأي تطبيع بين المملكة العربيّة السعودية وإسرائيل كما جعلت بلدا مثل لبنان يقف على كف عفريت. ماذا إذا قرّر “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني المغامرة غدا وفتح جبهة جنوب لبنان؟ أي مصير للبنانيين ولبلدهم غير مصير غزّة التي تحول قسم منها إلى ركام بعدما أصرّ الأمين العام لـ”حزب الله” على اعتماد “الغموض”؟ اعتمد ما أسماه “الغموض” بدل الإعلان صراحة ومباشرة أن لا مصلحة للبنان في أي حرب من أي نوع.

عندما يلتقي تطرفان عند مشروع تدميري، لا يعود هناك أي مشروع سلمي قابل للحياة. لا يمكن تجاهل أن الفشل، في الأساس، فشل إسرائيلي. قام هذا الفشل على استغلال “حماس” وشعاراتها إلى أبعد حدود بدل الاعتراف بوجود شعب فلسطيني يمتلك حقوقه المشروعة “غير القابلة للتصرّف” باعتراف الأمم المتحدة.

من رحم الفشل الإسرائيلي ولدت الكارثة التي نشهدها حاليا. هذه كارثة ما زالت في بداياتها في ضوء غياب أي مخرج سياسي في المدى المنظور. لن تستطيع إسرائيل ادعاء تحقيق أي انتصار من أي نوع… حتّى لو لم تبق حجرا على حجر في غزة. ولن تستطيع “حماس” أن تكون بديلا من السلطة الوطنيّة، حتّى لو اعتمدت خيار الدولتين، وهو خيار ياسر عرفات أصلا. لا مستقبل سياسيا لـ”حماس” بعدما أخذت غزّة إلى حيث أخذتها… أي إلى دمار وبؤس لا قعر لهما.

كلّ ما في الأمر أن المنطقة في وضع لم تر مثله منذ إعادة تشكيلها في عشرينات القرن الماضي مع انهيار الدولة العثمانية. أوجدت حرب غزّة خريطة سياسية جديدة بعد كلّ هذا الفشل الإسرائيلي في خلق دولة تعيش بسلام مع محيطها. متى الخريطة الجغرافية الجديدة للشرق الأوسط؟

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى