التكريم.. إنصاف مستحَق

>
يقضي الكاتب والأديب سنوات طويلة من عمره، وهو يقتطع من أنحاء نفسه وأعماق فكره وضميره قطعًا عزيزة عليه، لا تساويها في قيمتها المعنوية كنوز الأرض كلها، حتى وإن قبض في بعض الحالات مقابلها شيئًا من فتات الدنيا - وهذا حقه - إلا أن ما ينتجه وما يقدمه للقارئ يبقى عنده أغلى ما يملك وما يعتز به أي كاتب صاحب قلم مبدع، ويظل نتاجه هو الالتماعة التي تبزغ منه وتتوجه لتضيء عليه وعلى سيرته ومسيرته في عالم الكلمة والعطاء الأدبي، والأثر الباقي له من بعده، الدال على شخصه الراحل واسمه غير الآفل.

وتروي لنا كتب التراث والأدب الكثير من القصص والحكايات عن علماء وأدباء تحملوا مشقات الحياة ومتاعبها وصبروا على قسوتها، ولم يهنوا أو يضعفوا أمام ضربات الزمن وصواعق الأيام، لأنهم آمنوا برسالة الكلمة ونبل القلم وقدسية الحرف الذي يسطرونه على الصفحات، وما كان يهمهم من أمر دنياهم إلا تحصيل العلم والصبر على شدائده، فهذا فقيه ومحدِّث الأمة الإمام أحمد بن حنبل يجيب على من سأله إلى متى يستمر حرصه واجتهاده في طلب العلم، وقد أصبح عالمًا ذا مرتبة عالية وإمامًا للمسلمين، فيقول له: "مع المحبرة إلى المقبرة".

وهذا ابن الجوزي الإمام الحافظ والمؤرخ المتكلم لم يكن يطلب راحة أو يضيع وقتًا في غير العلم وتحصيله، فهو القائل: "ولا شك في أن العلم أشرف ما يحصل عليه الإنسان، وأشرف مأرب يتطلع إلى تحصيله، ومن ثم فلا يمكن أن ينال إلا بأشد التعب والجهد والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس".

لذلك كان من الفضيلة أن يعانوا المكاره ويصبروا، كان من الفضيلة أن يحترقوا بلهيب غير منظور مشتعل في عواطفهم وعقولهم، لا تطفئه حاجة من حوائج الدنيا، ولا تخمده مغريات الحياة وبهارجها الزائفة الفانية.. ولهذا فقد ظلوا يسلخون من أعمارهم أنضرها، ومن صحتهم أكثرها، ويضحُّون براحتهم ويفنون زهرات شبابهم في التحصيل والقراءة والكتابة، متصلين بليالٍ حالكات إلا من أضواء باهتة، يرونها كافية لتنير لهم دروبًا طويلة ومسالك متشعبة تتبدى أمام أنظارهم على الأوراق، يدلجون فيها لا يعرفون نهاية لليل ولا بداية لفجر، لا يعرفون إلا أن يتمُّوا ما يبدأونه وأن يكملوا رحلة الفكر حتى بلوغ منتهاها وإيصال الرسالة، ثم بعد ذلك لا ينتظرون جزاءً ولا شكورًا، إلا من فاز منهم بتقدير أو تكريم، ونال حظوة من ذوي الملك والجاه والتعظيم، وأولئك هم المحظوظون الذين شاءت الظروف والصدف أن تقرِّبهم ممن التفت إليهم، وإلى منجزاتهم العلمية والأدبية والفكرية الجليلة التي استحقوا عليها التكريم، ومع ذلك فهناك من يظل وفيًا في عطائه الأدبي طوال حياته، لا يفكر حتى في السعي لنيل جائزة أو أي شكل من أشكال التقدير له ولما أنجزه وينجز من أعمال فكرية وإبداعية، قصده منها تأدية رسالة القلم النبيلة السامية برضًى ومسؤولية وأمانة، وإنْ كان منهم من ينال الاعتراف والتكريم بعد مماته، وبعد أن يكون قد أفنى عمره كله وهو يعطي ولم يقدِّر عطاءه أحد، بل وربما لم يسمع به أحد، فإذا به يُحمد ويكرَّم بعد رحيله:

يقولونَ (شكرًا) للذي ضمَّه القبرُ

ولا ينفعُ الفاني مديحٌ ولا شكرُ!

أما في زماننا هذا فقد تغيرت مفاهيم التكريم وتعددت أشكاله وتنوعت وجوهه، وصرنا نشهد كثرة في المسابقات المتعلقة بالكتابة، وصارت تُمنح الجوائز الخاصة بمجالات الثقافة والفنون والآداب لمن يتقدم للمشاركة في أي مسابقة مرتبطة بالإبداع الفكري والقلمي، إلى درجة أن الفوز والتكريم ربما يكون على قصيدة قالها شاعر، أو قصة كتبها قاص، أو كتاب ألَّفه كاتب، فذهب فرحًا مسرورًا وليس كمثله أحد في الفخر والازدهاء ليستلم جائزته، فكيف بمن لم يكن ينتظر التكريم من أحد وهو يستحقه على إنجازات ضخمة له ومميزة، وعلى عمر طويل قضاه في العطاء والوفاء فيه، فجاءه التكريم حيث هو في بلده وبين أهله، وجاءه من يقول له إن عمره لم يذهب هدرًا، وإن ما أنجزه كان دائمًا يصل، وها قد حانت لحظة التقدير، وهنا يكون لوقع كلمة (شكرًا) عليه عميق الأثر وألف معنى ومعنى، ويصبح تكريمه مشجعًا له ولغيره ودافعًا إلى مزيد من العطاء.

إن ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي المنطلق من إمارة الشارقة، برعاية ودعم من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والهادف إلى تقدير المثقفين والأدباء العرب في كل مكان، والذهاب إليهم في بلدانهم لمكافأتهم وتكريمهم - دون سعي منهم - على ما قدموا خلال مسيرتهم، هو أوضح صورة وأبلغ دليل على فرادة هذه المبادرة وندرتها في هذا العصر، وعلى أن جهد الأديب لا يضيع مهما تقادم الزمن، وأنه يستحق وينال الشكر والتكريم في حياته، لا بعد أن يقال: كان هنا أو عاش هناك.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى