مطربات اليمن.. إبداع يتلاشى في زمن الحرب

> توفيق الشنواح:

> عندما حلقت الأغنية اليمنية في الأرجاء، كانت النساء هن من يرددن ألحانها وأصوات صداها الشجي الذي توارثنه من رصيد إبداعي ولون متفرد شكل رافدًا زاخرًا للأغنية العربية.

وعقب فترة ريادة شهدت بروز عشرات الأصوات النسائية اليمنية منذ قيام الجمهوريتين شمالًا وجنوبًا في الستينات تحديدًا، أعقبتها فترات أخرى خنقت هذه الأصوات في الشفاه الرقيقة نتيجة لعوامل عدة طاولت مناحي الحياة، من بينها دوافع الصراعات السياسية ونتائجها التي استخدمت الموروثين الاجتماعي والديني لقمع الفنون ومظاهر الحياة وانفعالاتها الإنسانية، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالفنانات أنفسهن عندما آثر بعضن الانزواء والتفرغ لمشاغل حياتهن الخاصة بعيدًا من الفن.

وبينما تستخدم الأنظمة الفنون لتكريس حضورها وسطوتها وتشكيلها على هوى الغلبة ومصلحتها، لم تنظر إليها أخرى باعتبارها هوية ثقافية ترعاها وتحافظ عليها، وتعاملت معها كزيادة لا حاجة إليها، فضلًا عن تجريمها واحتقارها أحيانًا والتشنيع بممتهنيها، وفي طليعتهن النساء اللواتي واجهن صنوفًا من القمع الاجتماعي والفتاوى الدينية التي تجرم ممارستهن الغناء والفنون.
  • الريادة فوق صوت الانتقاص
ومثلما حظيت المطربات الرائدات بشهرة وحضور جماهيري واسع منذ انطلاقتهن المؤرخة في خمسينيات القرن الماضي، واجهن في المقابل تحديات مختلفة حتى على مستوى تسجيل وتوثيق أعمالهن الخاصة والعامة والانتشار.

يقول الفنان والباحث في معهد الموسيقى العربية بالقاهرة محمد سلطان إن مسيرة المطربات اليمنيات منذ منتصف القرن الـ20 واجهت صعوبات بالغة في الظهور وتسجيل أعمالهن على الأسطوانات أو أشرطة الكاسيت.

ويرجع السبب إلى عدد من العوائق التي يفرضها المجتمع، حالت دون ظهور كثيرات منهن واستمرار تجاربهن، "منها النظرة الدونية للفنان والانتقاص منه".

وعلى رغم تلك الظروف يرى سلطان أن عددًا من تلك الأصوات استطاع أن "يشق له طريق نحو عوالم الفن والطرب بإمكانات بسيطة كانت متوافرة حينها، فظهرت أصوات مميزة في عدن من بينها للفنانات نبيهة عزيم وفتحية الصغيرة وصباح منصر وغيرهن اللواتي غنّين بمصاحبة الفرق الموسيقية التي كانت نشطة في عدن حينها.

ويتطرق إلى أصوات برزت تاليًا مثل "نعائم بنت شريان التي أثنى على تجربتها الفنان أيوب طارش، إذ قال إنه تأثر بها في بداية مشواره الفني في ستينات القرن الماضي، وكانت لها تسجيلات على الأسطوانات والأشرطة"، كما ظهرت "منى علي ونبات أحمد وفائزة عبدالله وغيرهن إلا أن هذه التجارب الفنية النسوية لم تلقَ حقها من الرعاية والاهتمام، ولم يسلط الضوء على تجاربهن وإبداعهن وسط تلك الظروف".

ومع ذلك التهميش الذي طاول هؤلاء المطربات لا يزال إبداعهن الغنائي يحضر بقوة من خلال التسجيلات التي بقيت محفوظة على رغم محاذير المجتمع.
  • لا جديد
وبحسب سلطان "لا تزال أغاني منى علي حاضرة في الأعراس، ولا نزال نطرب مع فتحية الصغيرة في "دق القاع دقه"، و"ربنا بايصلح الشأن"، ومع رجاء باسودان في "حبيبي له جمال سبحان إلي خلق"، وصباح منصر "يا حبيب يسعد صباحك" وغيرها".

وباستشراف عام على طبيعة المشهد الموسيقي اليمني والنتاج الغنائي الشاب اليوم، اعتبر أنه "يفتقر إلى مثل تلك الأصوات النسائية الطموحة التي تركت إرثًا فنيًّا كبيرًا شكل القاعدة الباقية لهوية الأغنية اليمنية المستمدة من التراث الحضاري القديم والأصيل".

ويضيف أن "الأصوات النسائية الشابة تحاول تلمّس طريقها، ولكن حتى الآن لا تزال غالبية هذه التجارب غير ناضجة، ولم تأتِ بجديد، أو تصنع لنفسها حضورًا يمكن الإشارة إليه، على رغم ما هو متاح اليوم من إمكانات التسجيل والنشر مقارنة بالماضي عندما كانت وسائل النشر محدودة جدًّا".

ويستدل بما يترافق مع صعود مطربات شابات "سرعان ما تتوارى أصواتهن بعد تقديم أغنية أو أغنيتين، وعلى رغم هذه القلة، إلا أن تلك التجارب لا تستمر".

ويرجع السبب إلى أن "معظم المطربات اليوم يستذكرن الماضي لتأدية أعمال قديمة، وهي سمة يشترك فيها الجنسان من الفنانين أو الفنانات لأن معظمهم لا يسعى إلى التطوير بتقديم أعمال جديدة في النصوص والألحان".
  • ضحية الدين والسياسة
ولأن لعدن الأسبقية والريادة في العمل المدني على مستوى اليمن وشبه الجزيرة العربية حينها، ظهر عدد من الأصوات الغنائية التي انتشرت من تلفزيونها وإذاعتها ومسارحها إلى كل الجغرافيا المجاورة والبعيدة بعشرات الأعمال العذبة قبل أن تشهد المدينة التي تنام في حضن الساحل الذي سمي باسمها، تبدّلًا تحت سطوة الفكر الديني المتشدد الذي يجرم أصوات النساء فضلًا عن امتهانها الغناء.

تقول الفنانة إيمان إبراهيم إن الفن مرتبط بسياسة الدولة وارتباط السياسية بكل مناحي، مما انعكس على المشهد الفني بصورة عامة ومؤثرة وأدى إلى خفوت أصوات الغناء وبروز أصوات الصراع والرصاص.

وتوضح إبراهيم أن هذا الاختفاء جاء نتيجة "ظروف سياسية ربطت الحياة بالدين، وعززه المد الديني خصوصًا منذ 1990 الذي شهد انتشار التيارات الصحوية التي ركزت كثيرًا عبر منابر خطبها ومحاضراتها ووسائل إعلامها على تجريم الغناء والتشنيع بالفنانين واعتبار الفن رجسًا من عمل الشيطان بعكس ماضي اليمن شمالًا وجنوبًا".

بالعودة إلى الماضي الذي شهد تجليات غنائية، تقول إبراهيم "على رغم التكوين الاجتماعي القبلي المحافظ في بعض المناطق، إلا أن الناس في الماضي كانت تستعذب الفن، وتعشقه بخلاف النظرة الدونية السائدة في الشمال التي تزدري الفنان، وتصنفه اجتماعيًا في طبقة اجتماعية دنيا تسمى "المزيّن" وتشمل الفنان والجزار والحلاق وغيرها من المهن، فاقتصر الغناء، في صنعاء مثلًا، على فنانات الأعراس والمناسبات الخاصة الأخرى فقط".
  • بين تشجيع الدولة والفن بالحجاب
أما عن التجربة النسائية في جنوب اليمن، فتؤكد أن "حكومة الاستقلال الوطني شجعت على الفنون بأنواعها كافة، مما أوجد جيلًا بارزًا من الأصوات الغنائية التي أسهمت بفاعلية في كل المناسبات، وحضر عطاؤها الجميل والفريد موازيًّا للأصوات الرجالية، وأنتجنا كثيرًا من الأعمال سواء العاطفية أو الوطنية التي أسست لفن يمني حديث انتقل إلى الجوار والوطن العربي، واحتل مكانة بارزة على رغم شح الإمكانات".

بانتقالها إلى سرد حال النكوص أو التراجع الكبير في حضور هذا القطاع النسوي، ترى إبراهيم التي صدر لها كثير من الأعمال الغنائية الخاصة بالاشتراك مع كبار الشعراء والملحنين اليمنيين، أن عام 1990 الذي شهد قيام دولة الوحدة بين شطري اليمن، عاش تبدلًا كليًّا لصورة المشهد الثقافي والفني عن سابقه، بتراجع كبير للأغنية النسائية وحتى الرجالية مع انشغال حكومة دولة الوحدة بالأوضاع الاقتصادية ثم الصراع السياسي واندلاع الحرب بين الشطرين في 1994 (انتهت باجتياح قوات اليمن الشمالي برئاسة علي عبدالله صالح مع فصائل مسلحة وأخرى قبلية تتبع حزب الإصلاح الإخواني للجنوب)، وما تبع ذلك من تحشيد ديني مكثف لتحريم الغناء، خصوصًا النساء".

هذا الوضع "دفع غالبية الفنانات إلى الانزواء أو الهجرة، بالتالي خفوت هذه الأصوات حد الاختفاء والتلاشي"، وفق الفنانة اليمنية التي تطرقت إلى حال من التأثيرات الدخيلة التي طاولت حتى صورة المشهد الإبداعي اليمني اليوم ممثلة "بظهور فنانات يرتدين الحجاب على رؤوسهن، لدرجة أن فرقة إنشاد عدن تظهر فناناتها بالحجاب وأخريات يظهرن في الحفلات العامة بالحجاب، وبات من النادر أن نرى فنانة حاسرة الرأس كما هي الحال في الأجيال السابقة".

وتعتبر إبراهيم أن أنماط اللبس هذه "ما هي إلا انعكاس لحال التراجع المخيف للفن تحت تأثير الفتاوى والقمع الديني والاجتماعي"، وتضيف أن "الجوار والعالم يتطوران ونحن نتراجع".

من جهة أخرى تشير الفنانة اليمنية إلى غياب الاهتمام الحكومي بالفنانين، "خصوصًا النساء كما هي الحال في دول الجوار اليوم التي أوجدت قاعدة فنية صلبة، وغاب عندنا التحفيز والرعاية الحقيقية لخلق نماذج غنائية جديدة تنتشر على الصعيدين المحلي والعربي".
  • أثر سعودي
وعلى رغم تأثير الأغنية اليمنية في ما سواها عبر التاريخ، إلا أن إبراهيم تؤكد أن هذه الحال دفعت القاعدة النسائية إلى لزوم البيت كون "الفن لا يؤكل عيشًا"، بينما الفن بالنسبة إلى نظيراتها في الدول الأخرى هو الخيار الأول "الذي يسبق في قناعاتهن أي خيارات أخرى مثل الزواج وغيره".

ومع ذلك تشير إلى النهوض الفني الحاصل في البلد الجار، السعودية، التي "توجت بأصوات جديدة واعدة انعكست بتأثيرها الواضح في اليمن من خلال ظهور أصوات موهوبة شابة شجعت من ظهورهن مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تزال هي النافذة الوحيدة لإبراز قدراتهن الغنائية الواعدة".
  • "عزيم" ثم ارتكاس
يؤكد مؤلف كتاب "الأصوات الغنائية النسوية" الذي صدر أخيرًا يحيى سهل أن مرجعه جاء احتفاء بجيل الرواد من المطربات اليمنيات اللواتي تمردن على التقاليد البالية كافة.

وقال سهل إن مدينة عدن احتضنت منذ الخمسينات جيل الرائدات منهن خلال فترة ازدهارها الاقتصادي كميناء عالمي وسوق تجارية هي الأشهر في الجزيرة العربية حينها.

ويشير إلى أن كتابه يرصد مسيرة 31 مطربة من الجيل الأول والثاني إضافة إلى فنانات ومطربات شعبيات اقتصر دورهن على إحياء الأفراح الخاصة للنساء، ويعتبر أن إذاعة عدن (تأسست 1954) ساعدتهن حينها في مواصلة دورهن في الانتشار، ثم جاء ظهور تلفزيون عدن (تأسس عام 1964) وهما الوسيلتان اللتان كان لهما دور كبير في نشر الغناء والموسيقى على مستوى الإقليم واليمن.

ويضيف المؤلف الفني أن الفنانة نبيهة عزيم هي أول من ظهرت في الخمسينيات بأغنية "يا ناسي هوانا" كأول فنانة تصعد على المسرح، ثم أغنيتها المشهورة "أنا أنثى عربية" من ألحان الفنان الراحل محمد مرشد ناجي، ودويتو "يا زين يا زين بفديك بالعين" مع الفنان محمد صالح همشري من ألحان الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، وظهرت بعدها فنانات أخريات من بينهن فتحية الصغيرة ورجاء حامد، وفوزية علبي وأم الخير عجمي ورجاء باسودان وصباح منصر وغيرهن.

عقب ذلك يؤكد سهل أن دولة الاستقلال الوطني التي جاءت على أنقاض حقبة الاستعمار البريطاني "عملت على تشجيع الثقافة والغناء ونال في عهدها اهتمامًا كبيرًا، خصوصًا الأصوات النسائية، مما صنع قاعدة غنائية رائدة في المنطقة ككل".

ويستدل المتحدث بانتشار الفرق الموسيقية في جميع المحافظات وإلزامية تدريس مادة الموسيقى في المناهج الدراسية وظهور الغناء الكورالي ممثلًا بفرقة إنشاد عدن التي كان نصفها من النساء.

هذا الحضور الفني قوبل وفقًا للأكاديمي سهل "بالموقف المتشدد من بعض القوى الدينية ضد غناء النساء، تحديدًا بعد قيام دولة الوحدة ممثلًا بالتيار السياسي الإسلامي والتيار السلفي تحت غطاء الدين".

ويروي سهل قصته مع إحدى الفنانات من الجيل الثاني، "حين اتصلتُ بها في إطار بحثي لجمع معلومات حول مسيرتها لتضمينها في الكتاب الذي كنتُ أعمل عليه. لكنها رفضت التعاون معي بحجة أنها بدأت الصلاة قبل أن تتوفى أخيرًا في المكلا بمحافظة حضرموت"، مؤكدًا أنه على رغم هذه السطوة القمعية، هناك فنانات تحملن كل هذه الأعباء، وواصلن رسالتهن حتى اليوم كما هي الحال مع الفنانة أمل كعدل وغيرها.

"إندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى