إننا لم نرَ من التاريخ؛ حقيقة تتجاوز الوقائع الجامدة والمواعيد الجافة للمعارك والأحداث التي سطرتموها.

أين ذهبت تلك النفوس الذين قضوا في الحروب ولم تذكرونهم في التاريخ ولم تنقلوا مشاعرهم وآلامهم لنا؟
 غالبًا ما يذكر التاريخ المعارك والأحداث في صورة مجرّدة؛ يضع سطرًا يصف فيه عدد الجنود، حجم الأسلحة، ويكتفي بخط قصير يفصل بين تاريخ البداية والنهاية، مُغفلًا عمق الآلام خلف هذا الخط.

لو تتكرموا بعد ذكر كل واقعة تاريخية خاصة المعارك والحروب العالمية وتتحفونا بشرح وافي عن مشاعر الناس خاصة الأمهات كيف عاشوا بقية حياتهم وهم فاقدين لذة الحياة مع فقدان أثر أبنائهم، أزواجهم، أطفالهم، آبائهم، إخوانهم... في تلك الوقائع الأليمة التي تختصرونها بوضع ( - ) بين تاريخ البداية والنهاية؟

لو توضحون لنا كيفية تعايش شخص يتجاوز الآن عمره الخمسين وقد بُترت يده اليمنى مع تحديات حياته اليومية؟

أنا عندما اقرأ التاريخ لا يهمني تلك الأحداث التي تذكرونها أبدًا، وكذلك هو عبئ ثقيل على عقول طلاب المدارس خاصة أيام الامتحانات.. وأنا شخصيًا عند قراءتي فقرة تاريخية أسرح وأتخيل وضع تلك الأم التي تنتظر رجوع ابنها المفقود أو التي تاه عنها خبر موته بعد عودته إلى معركة أخرى. يا ترى كيف عاشت مع آلام الانتظار والحزن العميق؟ كيف تتساءل كل يوم عن مصيره وتتخيله عائدًا، متشبثة بأمل ضعيف لا يتلاشى؟ شكل الحياة بالنسبة لها وهي فارغة وكأنها ترفض الاستمرار إلا بحضور ابنها.

أو ذاك الرجل الذي فقد يده أو ساقه، والذي عليه أن يتعايش مع الألم الحسي والنفسي يوميًا. إنه فقد جزءًا من جسده والأهم أنه فقد جزءًا من نفسه.

لقد رأيت مثله أمام عيني وهو يتهرب مني وعندما واجهته لما لا تحضر معنا لقائنا مع الأطفال والشباب الناشئ وقد سمعت انك فنان تجيد الرسم؟

قال: نعم أنا أرسم لأنه يخفف عني أعباء كثيرة، نعم أنا أرسم ولكن...في البيت لوحدي...

إنه يرى في الرسم متنفسًا يعوّضه عما فقده. ربما في كل لوحة، يحاول أن يحقق شيئًا من السلام الداخلي أو يُخفف جزءًا من الحمل الثقيل الذي يعيش معه. قد يشعر بالحرج أو بعدم الأمان، أو ربما يخشى نظرة الشفقة من الآخرين، لذا يظهر من خلال أعماله الفنية المتدفقة عمق تجاربه وآلامه.

نحن بحاجة لكتابة تاريخ تُذكر فيه قصص تلك الأرواح التي كُويت بنار الحروب والصراعات، قصص الحزن المكبوت والصبر الممتزج بالأمل والخذلان.

قصص لتكون بمثابة نقطة نهاية للحرب، لحمل السلاح، نهاية الصراعات، وبداية لفصل جديد يتحدث عن مدى التعايش والتسامح بين أفراد البشر، وفاتحة لائقة لأحداث قرن الأنوار..