> هاجر أيمن:
تشهد منطقة البحر الأحمر تصاعدًا ملحوظًا في التوترات الجيوسياسية، خاصة بعد انخراط جماعة الحوثي في الحرب الإسرائيلية على غزة عبر استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل؛ مما أدى إلى تعطيل حركة الملاحة والتجارة العالمية.
وقد سلط هذا التصعيد الضوء مجددًا على الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر الذي تحول في الآونة الأخيرة إلى ساحة تنافس حاد بين القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين.
وفي هذا السياق، يأتي الاتفاق الأمريكي المفاجئ مع الحوثيين كخطوة استراتيجية تهدف إلى قطع الطريق أمام التمدد الصيني في البحر الأحمر خاصة في ضوء اتهامات أمريكية للصين بتقديم الدعم للجماعة الحوثية.
أولًا: الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمريُعد البحر الأحمر واحدًا من أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في العالم؛ نظرًا لموقعه الجغرافي المتميز الذي يربط بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويصل بين المحيط الهندي وبحر العرب جنوبا، والبحر المتوسط في الشمال، كما يضم نقاط استراتيجية عديدة، منها قناة السويس التي تعتبر المدخل الشمالي للبحر الأحمر، ونقطة التقائه بالبحر المتوسط، وكذلك مضيق باب المندب الذي يعد البوابة الجنوبية للبحر، والرابط بينه وبين خليج عدن والمحيط الهندي.
هذا الموقع جعله مسارًا رئيسيًا لتدفق التجارة والنقل البحري الدولي، كما يكتسب البحر الأحمر أهمية عسكرية واستراتيجية متصاعدة، في ظل تنافس القوى الدولية المتزايد للسيطرة على هذا الممر الحيوي، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين، وكذلك بعض القوى الإقليمية التي تسعى إلى تعزيز نفوذها من خلال إقامة قواعد عسكرية وموانئ استراتيجية على ضفتي البحر.
من جانب آخر، يتمتع البحر الأحمر بأهمية جيوسياسية ترتبط بامتلاكه لثروات طبيعية، وعلى رأسها موارد الطاقة مثل النفط والغاز، والتي تدفع القوى الدولية إلى السعي لحماية تدفق الطاقة عبر هذا الممر البحري الحيوي، باعتباره ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نموها الصناعي والحفاظ على أمنها القومي.
ارتبط الحضور الأمريكي في منطقة البحر الأحمر تاريخيًا باستراتيجية تهدف إلى ضمان حرية الملاحة وتأمين الممرات البحرية الحيوية؛ حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز سيطرتها على هذه الممرات البحرية باعتبارها جزءًا من استراتيجيتها في الشرق الأوسط، وفقًا لما جاء في “استراتيجية الأمن القومي الأمريكي” التي أُصدرت في أكتوبر 2022؛ حيث تنص على أن واشنطن لن تسمح لأي قوى إقليمية أو أجنبية بتهديد حرية الملاحة في مناطق مثل مضيق هرمز وباب المندب. كما لا يمكن فصل الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة عن حمايتها لحليفها الاستراتيجي في المنطقة، إسرائيل وخاصة في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة 2023.
من جانب آخر، يعتبر البحر الأحمر هدفًا رئيسيًا في سياق المنافسة المستمرة مع الصين. إذ تسعى الولايات المتحدة إلى السيطرة عليه لتقليص الأخطار الاقتصادية التي قد تنتج عن النمو السريع للتجارة الصينية في المنطقة.
في المقابل، يُعد التوسع الصيني في البحر الأحمر ظاهرة حديثة نسبيًا، تعكس حالة التنافس المحتدم بين الصين والولايات المتحدة، وسعي بكين إلى تعزيز وجودها في مناطق خارج نطاقها التقليدي في القارة الآسيوية. ومن هنا يحتل البحر الأحمر أهمية كبيرة في السياسة الخارجية الصينية تجاه الشرق الأوسط وأفريقيا، وذلك بسبب مجموعة من العوامل، يمكن إيجازها فيما يلي:
يُعد البحر الأحمر ممرًا رئيسيًا لنقل النفط والغاز من الخليج العربي إلى الأسواق العالمية، وهو ما يمنحه أهمية خاصة ضمن استراتيجية الصين لتأمين احتياجاتها المتزايدة من الطاقة.
من جانب آخر يُعد محورًا استراتيجيًا ضمن مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013 بهدف تعزيز الترابط التجاري والاقتصادي بين القارات الثلاثة آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ حيث يعد البحر الأحمر نقطة عبور رئيسية ضمن سلسلة الموانئ والخطوط البحرية التي تسعى بكين إلى تطويرها لضمان تدفق التجارة العالمية.
ومن هذا، أدركت الصين أن استقرار حركة التجارة عبر البحر الأحمر أمر بالغ الأهمية لاقتصادها، وهو ما دفعها إلى الاستثمار في مشاريع التنمية والبنية التحتية في الدول المطلة عليه بهدف ترسيخ نفوذها الاقتصادي وتقليل اعتمادها على المسارات الخاضعة لنفوذ غربي مباشر، كما دفعها لتأسيس أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي في عام 2017 لتأمين استثماراتها تأمين خطوط الإمداد، وموازنة النفوذ الغربي.
ثانيًا: التنافس الأمريكي الصيني على النفوذ في البحر الأحمر
تُسيطر حالة التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين على مشهد التفاعلات الدولية في النظام العالمي، بوصفها السمة الأبرز خلال العقود الأخيرة؛ حيث تتصادم رؤى ومصالح القوتين حول شكل النظام العالمي وآليات إدارته. فبينما تتمسك واشنطن بنموذج الهيمنة التقليدية لها في إدارة النظام الدولي، تقدم الصين نموذجًا بديلًا يعتمد على الشراكة الاقتصادية والتعددية القطبية. وفي هذا الإطار، لم يعد هذا الصراع مقصورًا على المجالات الاقتصادية والتكنولوجية أو على الحفاظ على النفوذ في شرق آسيا، بل امتد ليشمل المناطق الاستراتيجية ومن بينها منطقة البحر الأحمر.
وفي سياق البحر الأحمر، تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على موقعها كضامن للأمن البحري الدولي، خاصة في الممرات الاستراتيجية مثل مضيق باب المندب وقناة السويس. أما الصين، فقد أدركت أن توسعها الاقتصادي وطموحاتها لن تكتمل دون تأمين مسارات النقل البحري؛ وهو ما دفعها لتبني استراتيجية براجماتية حذرة مبنية على سياسة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وعدم الانخراط في النزاعات الإقليمية، والحفاظ على علاقات متوازنة ومستقرة مع جميع الأطراف.
مع تصاعد التهديدات الحوثية للملاحة الدولية في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، اتجهت الولايات المتحدة إلى تكثيف وجودها العسكري في البحر الأحمر عبر مجموعة من الإجراءات يمكن إيجازها فيما يلي:
على الرغم من ارتباط التصعيد العسكري المتزايد في البحر الأحمر بالحرب الإسرائيلية على غزة، فإن الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة يعود إلى عام 2001، عندما أسست الولايات المتحدة “القوة البحرية المشتركة” —أكبر قوة بحرية، والتي تتولى فيها قوة المهام المشتركة 153 مهمة حماية أمن الملاحة في البحر الأحمر-بالإضافة إلى تعزيزات عسكرية أمريكية متكررة، خلال الأعوام الماضية في ظل التوترات مع إيران.
مثلت الحرب الإسرائيلية على غزة نقطة تحول واضحة في وتيرة العسكرة الأمريكية في البحر الأحمر، فقد دفعت الولايات المتحدة بعدد كبير من قطعها البحرية نحو شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر، من بينها الغواصة النووية من طراز “أوهايو”، التي انضمت إلى منطقة مسئولية القيادة المركزية الأمريكية في 10 أكتوبر 2023، وفي 5 نوفمبر 2023، وصلت مجموعة القوة الضاربة بقيادة حاملة الطائرات “أيزنهاور” إلى المنطقة.
ومع تصاعد هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية، أطلقت الولايات المتحدة في ديسمبر 2023 تحالف “حارس الازدهار”، بمشاركة عدد من الدول مثل فرنسا وبريطانيا؛ مما أسفر عن تكثيف الانتشار البحري الدولي في البحر الأحمر (عسكرة البحر الأحمر) وتحويله إلى ساحة عسكرية.
وتُعدّ هذه التحركات جزءًا من سياسة أمريكية أوسع استغلت فيه واشنطن التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط للحد من تنامي النفوذ الصيني في المنطقة خاصة في أعقاب الوساطة التي قامت بها بكين بين السعودية وإيران، بالإضافة إلى تقليص قدرتها على استخدام قاعدتها البحرية في جيبوتي كنقطة انطلاق لتعزيز حضورها العسكري البحري في القرن الأفريقي والممرات المائية المجاورة، كما تهدف هذه السياسة إلى التصدي لتنامي التنسيق العسكري بين الصين وروسيا وإيران، والحد من تمدد النفوذ الاقتصادي الصيني على مستوى الإقليم.
وعلى الجانب الصيني، دفعت التحركات الأمريكية بكين إلى إرسال “الأسطول 46 الجنوبي” إلى البحر الأحمر في 24 فبراير 2024، والذي يتكون من مدمرة الصواريخ الموجهة “جياوتسوه”، والفرقاطة “شيويتشانج”، وسفينة الإمداد الشامل هونجهو، بالإضافة إلى منظومات دفاع جوي مضادة للطائرات المُسيّرة والصواريخ المجنحة، كما حافظت على الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع الفاعلين الرئيسيين في المنطقة وعلى رأسهم إيران التي حافظت على قدر من التنسيق معها؛ مما أسهم في عدم مهاجمة الحوثيين لأي سفينة ترتبط بالصين.
اتهامات أمريكية للصين بدعم الحوثيين:
دفع امتناع الحوثيين عن مهاجمة السفن المرتبطة بالصين المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، تامي بروس، إلى اتهام شركة الأقمار الصناعية الصينية “تشانج جوانج” (Chang Guang Satellite Technology Co.) بتزويد الحوثيين بصور أقمار صناعية، يُعتقد أنها ساعدت في استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة.
وفي اتهام آخر، كشف تقرير لصحيفة Financial Times عن تورط عدد من الشركات الصينية في تزويد الحوثيين بمكونات عسكرية متطورة، مثل خلايا وقود الهيدروجين: التي تُستخدم لزيادة مدى الطائرات المُسيّرة، مع تقليل الانبعاثات الحرارية؛ مما يُصعّب عملية رصدها. بالإضافة إلى أجهزة الرؤية الحرارية التي تُستخدم في عمليات الاستهداف البحري أو في تعقب الطائرات المسيرة المعادية.
ويمكن القول إن هذه الاتهامات تندرج ضمن إطار أوسع من الانتقادات الأمريكية المتكررة للصين بأنها تُقدم دعمًا تقنيًا واقتصاديًا لحكومات ومنظمات مصنفة كمعادية للغرب، مثل روسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، بالإضافة إلى وكلائها الإقليميين –ومن ضمنهم الحوثيون– من خلال تزويدهم بتكنولوجيا تُستخدم في أهداف مزدوجة (مدنية وعسكرية).
ثالثًا: انعكاسات احتدام التنافس بين الصين والولايات المتحدة على أمن واستقرار البحر الأحمر
يعكس تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين في منطقة البحر الأحمر على خلفية الاتهامات للصين بدعم الحوثيين، انتقال المنافسة بين القوتين من المناطق التقليدية -في المحيطين الهادئ والهندي- إلى مناطق استراتيجية جديدة كالبحر الأحمر؛ نظرًا لكونه واحدًا من أكثر الممرات المائية أهمية على مستوى العالم؛ وهو الأمر الذي يرفع من مستويات عسكرة البحر الأحمر-كما سبق ذكره-، ويزيد من احتمالية وقوع احتكاكات مباشرة بين القوات البحرية للدول الكبرى.
تشكل الاتهامات الأمريكية العلنية للصين بدعم الحوثيين تصعيدًا خطيرًا في العلاقة بين البلدين، وقد تؤدي هذه التوترات إلى انخراط القوتين في مواجهة غير مباشرة عبر وكلاء أو فاعلين محليين؛ أي الانخراط في سيناريو (الحرب بالوكالة)؛ وهو السيناريو الذي لا تقتصر تداعياته على العلاقات الثنائية بين بكين وواشنطن، بل تمتد إلى إعادة تشكيل منظومة التحالفات الإقليمية. فتهدف الولايات المتحدة من هذه الاتهامات إلى زعزعة ثقة دول الخليج -السعودية والإمارات- في نوايا وأهداف الصين الاستراتيجية عقب الاختراق الدبلوماسي الذي حققته في العلاقات مع هذه الدول في السنوات القليلة الماضية؛ مما يدفعها نحو العودة إلى توثيق تعاونها الأمني مع الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار النفوذ الصيني المتزايد في البحر الأحمر أحد أبرز الدوافع وراء الاتفاق المفاجئ بين إدارة ترامب وجماعة الحوثيين؛ حيث يمثل هذا الاتفاق تجسيدًا لمحاولة واشنطن تحجيم النفوذ الصيني المتصاعد عبر قطع الطريق أمام بكين لاستخدام الحوثيين كأداة ضغط أو مساومة صينية لتوسيع نفوذها في البحر الأحمر خاصة مع صمود الجماعة أمام الضربات الأمريكية وفشل ترامب في تحقيق هدف استعادة حرية الملاحة الدولية؛ الأمر الذي دفعه نحو خيار التهدئة كأداة لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية.
من جانب آخر، يتيح هذا الاتفاق لواشنطن الفرصة لإعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية والتركيز بشكل أكبر على مواجهة الصين في مناطق التنافس التقليدية، وخاصة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ. ويأتي ذلك في وقت يزداد فيه انخراط الولايات المتحدة في الصراعات الشرق أوسطية؛ مما يؤدي إلى استنزاف مواردها العسكرية والسياسية دون تحقيق الأهداف المنشودة. بالإضافة إلى أن التوجه المتزايد نحو الشرق الأوسط يمكن الصين من التحرك بحرية أكبر في الملفات الجيوسياسية ذات الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
حاصل ما تقدم، يبدو وأن البحر الأحمر يتحول تدريجيًا إلى ساحة للتنافس والصراع الدولي، في ظل تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يزيد من حدة الأخطار التي تهدد أمن واستقرار هذه المنطقة الاستراتيجية. ومن هذا، فإن مستقبل الاستقرار في البحر الأحمر أصبح مرهونًا بقدرة الأطراف الفاعلة على احتواء التصعيد، ومنع تحوله إلى مواجهة مفتوحة تُهدد الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء في ظل استمرار الصراع بين الحوثيين وإسرائيل دون حل واضح.
عن "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية"