الهوية الجنوبية (تبدلات العلاقة بين الشكل الجغرافي والمحتوى الاجتماعي والسياسي)
المقدمة:
تقوم جميع الأشياء في وجودنا على نظام طبيعي صمم بحسب منهج رباني، التقيد به من قبل بنو الإنسان، واجب ديني وأخلاقي.
يتأسس هذا المنهج المعرفي على بعدين: بعد الخلق وبعد التسوية، بعد الخلق وبعد الجعل، فخلق الأشياء يعني إيجادها، وهو أمر يرتبط بالشق الوجودي، أما التسوية فترتبط بالتنظيم البنيوي الذي يقوم عليه وجودنا الطبيعي والإنساني الذي يجعل هذا العالم قادرًا على تأدية وظائفه وتحقيق غاياته. قال تعالى ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))[الحجرات:13]
على هذا النحو يتبين أن المنهج الرباني يقوم على عمودين يختزلان في جوفهما فكرة الوجود والتنظيم البنيوي لهذا الوجود المتضمن أيضًا الفعل الوظيفي الذي ينبغي اتباعه لحماية الوجود وتأمين أسباب البقاء.
وتأسيسًا على ذلك يمكننا استنبات مجموعتين من الخرائط المفاهيمية:
1 - الخارطة المفاهيمية المرتبطة بالأصول (الخارطة الوجودية).
2 - الخارطة المفاهيمية المرتبطة بالفروع (الخارطة الوظيفية) وهي المعنية بحفظ الوجود وتأمين أسباب البقاء.
تتحدث هذه الخرائط على اختلافها عن بنيتين، البنية الوجودية، والبنية الوظيفية، ويمكن تسميتهما ببنى التنوع المعبرة عن الشكل الخارجي للموجودات، وبنى التعدد الداخلي المعبرة عن المركب التعددي الداخلي لهذه الموجودات.
يصح القول إن هذه البنى التي يقوم عليها النظام الطبيعي تصح تمامًا على النظام الإنساني، حيث تنتمي إلى الخارطة المفاهيمية الأولى مفاهيم الإنسانية والشعوب والأمم، وهي المكونات البنيوية للنظام الإنساني (البنية الخارجية)، فيما تنتمي مفاهيم المجتمع المدني والدولة واتحاد الدول إلى الخارطة المفاهيمية الثانية المرتبطة بآليات الفعل الوظيفي الرامي لحفظ الوجود وتأمين أسباب البقاء.
يلزمنا هذا المنهج بمبدأ تبعية الفرع للأصل، وتتحدد بحسب هذه التبعية وظيفة الفرع في حفظ الوجود، وتأمين أسباب استمرار البقاء بالتنظيم الوجودي تحددت حدود الحق واقتسامه بين المكونات الوجودية، فيما تحددت أهداف التنظيم الوظيفي ببناء القوة اللازمة لإحقاق الحق وبناء التوازن الضروري لحفظ الحق وتأمين حدوده بين المكونات الوجودية يبين كل ذلك أسبقية الحق على القوة وتبعية القوة للحق، فللحق حاكمية على القوة، وبوصف أن إحقاق الحق هو العدالة ذاتها، فإن الفضاء المسموح لحركة القوة هو الفضاء الواقع بين نقطتي الحق والعدالة.
إن قصور القوة وعدم بلوغها نقطة التناغم مع الحق يعد إهدار للحق، وتجاوزها لنقطة العدالة يعد إهدارًا للحق وتفويض العدالة، الأمر الذي يعني أن القوة هي بلوغ لحظة الانسجام، والتطابق بين الحق والقوة التي هي أيضًا لحظة العدالة، وتمثل هذه العلاقة الثلاثية في معادلة الحق والقوة والعدالة أساس الحكم.
تأسيسًا على ذلك تقوم الهياكل البنيوية التي تعد تجسيدًا لهذه الثلاثية وأوعية حافظة لمتطلبات القانون العام للوجود والبقاء.
1 - البنية الوجودية تعبر عن اقتسام الحق وتأسيس العلاقات الحقوقية بين المكونات الوجودية وخلق توازن يحفظ حدود الحق وحدود العلاقات الحقوقية بين مكونات البنية الوجودية.
2 - البنية الوظيفية (البنية الوسطى) ووظيفتها بناء القوة اللازمة لإحقاق وبلوغ العدالة.
3 - البنية الخاصة بالحكم والإدارة (الهياكل السياسية) ووظيفتها إدارة العلاقة بين الحق والقوة وجعلهما في حالة تناغم وتطابق مستمرين وعدم السماح بالقصور أو التجاوز للحظة تحقيق العدالة.
كل ذلك يعطينا أساس تناول الجذور المعرفية للهوية بكل أبعادها الفردية والجزئية والكلية، حيث تعود هذه الجذور إلى حقيقة الترابط بين الجغرافيا والاجتماعي والسياسة، هناك مقولة علمية شائعة أن الجيولوجيا تصنع الجغرافيا والجغرافيا بدورها تصنع الاجتماع والثلاثة معًا يصنعون السياسة.
الهوية والانتماء
الهوية بمعناها اللغوي تعني "التمايز عن الأغيار" وتشتق منها الألفاظ هو، هي، هم، بما تحمله من معاني التمايز للإنسان هويتان: هوية شخصية وهوية وطنية.
الهوية الشخصية أنه ينتمي إلى أبوين محددين وإذا هم معًا يشكلون أولى حلقات المجتمع البشري (الأسرة).
أما الهوية الوطنية فتتحدد بانتماء الشخص لأرض محددة ولتجمع بشري محدد ومركب الانتماءين يسمى الشعب وبالانتماء للشعب تتحدد الهوية الوطنية للإنسان الفرد، وبالهويتين تتحدد الحقوق والعلاقات الحقوقية للأشخاص داخل انتماءاتهم الأسرية والوطنية.
تمثل الهوية الثابت الحقوقي الأول الذي عليه تتحدد ثوابت حق الوجود والبقاء البشري المتمثلة بحق السيادة على أرض محددة وحق تقرير المصير على حدود الهوية تتحدد حدود السيادة وحدود ممارسة حق تقرير المصير، والترابط بينهما ترابط وجودي وشرطي، فلا حديث عن حق سيادة على أرض بدون هوية ولا حديث عن حق تقرير المصير بدون الهوية والسيادة، فكل حق محدد يشترط الحق الذي قبله.
إننا أمام بنيان أساسه الجغرافيا ووسطه الاجتماع البشري وقمته العقل والسياسة.
الحق العقل والسياسة:
للعقل عينان، عين يقرأ بها الواقع، وعين يحقق بها وظيفة تغيير هذا الواقع، بكلمات أخرى، العقل يشكل وعي الناس لواقعهم ويشكل إرادتهم للتعامل مع هذا الواقع وثنائية الوعي والإرادة يشكلان معًا السياسة ومركب هذه الثنائية يشكل المضمون العقلي للسياسة.
بوعيه للحق والعلاقات الحقوقية التي يقوم عليها الواقع المتعامل معه العقل يصيغ الاتجاهات العامة للسياسة ويجعلها تمثل الإمتداد التطبيقي للحق وثوابت الحق الوطني للشعب، فالسياسة ينبغي أن تكون تعبيرًا عن الحق وإحقاقًا له في الواقع العملي ومتغيرات السياسة ينبغي أن تحفظ التناغم الدائم بين ثلاثية الحق والعقل والسياسة بهذا التناغم وحده تكتسب السياسة مشروعيتها، وإذا فقدت هذا التناغم وذهبت السياسة صوب الابتعاد والانفصال عن الحق والعقل فقدت مشروعيتها وصارت تتحكم بها الأطماع والأهواء وتتحول إلى سبب مباشر لعدم الاستقرار والصراع والحرب.
بثوابت الحق الوطني المحكومة بحدود محددة تتمايز الهويات الوطنية للشعوب، وتمايز الشعوب عن بعضها لا يعني القطيعة بل أساس للتعاون والتكامل، حيث تجتمع عدد من الشعوب في أمة واحدة وتجتمع الأمم بكل مكوناتها في الكل الإنساني، ويحمي هذا التمايز الهويات (الشعوب) ويحفظ استقلاليتها ويمنع صهرها وذوبانها في الكيانات الأكبر وتضيع حقوقها، وتتحدد على هذا التمايز شراكتها في المستويين الإقليمي والدولي.
على هذا النحو يتبين أن الهوية بحقوقها الثابتة تجمع بين التمايز عن الأغيار والاستقلالية من جهة والشراكة مع الأغيار من جهة أخرى. وطبقًا لذلك تتحدد العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم مع بعضها من جهة وعلاقاتها بالكل الإنساني من جهة أخرى.
الهوية تمثل الأساس المرجعي الأول الذي عليه تتحدد الحقوق الثابتة للشعوب والعلاقات المتبادلة بينها، لذلك أن تحديات تقويض هوية شعب ما تمثل تحديات وجودية تضع هذا الشعب أمام تحدي الكينونة يكون أو لا يكون، إذا قوضت هويته تسقط كامل حقوقه في الوجود والبقاء، يسقط حقه في السيادة على أرضه يسقط حقه في قراره السيادي المستقل وحين يصبح شعب بلا أرض يتحول أبنائه إلى شتات وذوبان كأفراد في شعوب الأرض المختلفة.
كل ذلك يعني أن شعب الجنوب واجه ومازال يواجه هذا التحدي الوجودي المتمثل في تقويض هويته وإلغاء سيادته على أرضه وحرمانه من إدارة ذاته وإذابته في تكوين شعب أو عدد من الشعوب الأخرى وتمكين الغزاة من البسط والسيطرة على أرضه وثرواته واستكمال التغلب على هذا الخطر لا ينتهي إلا بإعادة بناء الهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب.
إن المفتاح العام لإعادة بناء الهوية الوطنية لشعب الجنوب تتم بتبني سياسة واضحة تبدأ بالإقرار بثلاث حقائق ثابتة:
1 - الحقيقة الأولى أن البنية الوجودية داخل ما بات يعرف بالحالة اليمنية تقوم على ثنائية الشعبين والدولتين بحدودهما الدولية المعترف بهما قبل 22 مايو 1990.
2 - الحقيقة الثانية أن الاتفاق السياسي بين منظومتي الحكم الذي قاد إلى إعلان صهر وتذويب الشعبين والدولتين في دولة واحدة في مايو 1990 كان اتفاقًا بين أحزاب سياسية أيديولوجية ليس له مصوغ حقوقي قانوني، لقد كان خروجًا فجًا عن قواعد القانون الدولي وعن السنن الذي فطرنا عليها، فالشعوب لا تذوب ولا تنصهر. لقد جعلنا الله في شعوب وطبقًا لهذا القانون الإلهي تم اقتسام أقاليم الأرض بين شعوب الأرض، ثم جاء القانون الوضعي وشرعن هذا القانون واعترف بالشعوب وهوياتها المستقلة واعترف بحقوقها الثابتة، فالحق ثابت لا يصح إلغاؤه.
3 - الحقيقة الثالثة أن الاتفاق الأيديولوجي السياسي بين الأحزاب الحاكمة في الدولتين الذي ألغي الشعبين والدولتين بهوياتهما المستقلة وما ترتب عليه من إلغاء لسيادتهما كل على أرضه وإلغاء استقلالية قرار كل منهما، أسس بذلك للصراعات والحروب واضطرابات لم تتوقف إلى اليوم.
ولرسم سياسات واستراتيجيات واضحة لإعادة بناء الهويات الوطنية ووضع نهاية للاضطرابات والحروب وإعادة وضع التطور في مساره الطبيعي الصحيح ينبغي فهم الخروج عن المسارات الصحيحة وفهم السياسات التي اتبعت في إحداث كل هذا الخلل المروع وكيف استخدمت المفاهيم الجهوية غطاء لتدمير الهويات الوطنية داخل الجهويات الجغرافية.
مفهوم اليمن اللفظ والمعنى
إن فهم المدلول اللغوي لكلمة "اليمن" يفتح ألغاز هذه التسمية، ويساعد على الوصول إلى حلول لمشكلات التسمية والهويات داخل الجغرافيا اليمنية (جغرافية جنوب الجزيرة العربية).
تشير النقوش التي عثر عليها من الحضارات العربية الجنوبية القديمة إلى الاستخدام الواسع لكلمة "اليمن" بلفظة "يمنت" فقد وردت في اللقب الملكي لملوك حمير، ووردت لفظة يمنت في النقوش بوصفها كلمة مقابلة للفظة "شأمت" التي تعني الشمال في الإشارة إلى جنوب الجزيرة العربية وشمالها. ومازالت الكثير من الشواهد المستمرة إلى اليوم تؤكد هذه الحقيقة مثلا الباب الجنوبي لمدينة صنعاء القديمة يطلق عليه "باب اليمن" والباب الجنوبي لمدينة صعدة القديمة يطلق عليه "باب اليمن" وتنقسم مدينة بيت الفقيه الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى قسمين، حيث يطلق على طرفها الجنوبي "الطرف اليماني" وطرفها الشمالي "الطرف الشامي".
ويشار في العديد من مراجع التاريخ القديم للجزيرة العربية إلى التقسيم الجغرافي الذي يسبق الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية إلى شمالها بالشام، وجنوبها باليمن ووسطها بالحجاز المنطقة الفاصلة بين الجنوب والشمال.
كل ذلك يعني أن الألفاظ "اليمن" و "الشام" و "الحجاز" هي ألفاظ جهوية جغرافية لا علاقة لها بالتكوينات الاجتماعية والسياسية (الهويات الوطنية) التي تشكلت عبر التاريخ داخل هذه الجهويات الجغرافية.
تؤكد ذلك حقيقة أن إذا قسمنا الجغرافية العربية بين الجهويات الأربع يصبح لدينا:
1 - الشام العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
2 - اليمن العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول (الجنوب العربي).
3 - المغرب العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
4 - المشرق العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
وعليه، فإن مما تم عرضه يتبين أن مفهومي الجنوب العربي الكبير واليمن العربي الكبير يحملان نفس المعنى ومدلولهما اللغوي يشير إلى الجهوية المشمولة في المنطقة الجنوبية من جغرافية الوطن العربي الكبير، وليس لهذه التسمية أي مدلول اجتماعي أو سياسي، ما يعني أن فيها مجموعة من الهويات الوطنية المستقلة عن بعضها وليست هوية وطنية واحدة.
مفهوم اليمن في جدلية العلاقة بين الشكل الجغرافي الخارجي والمحتوى الاجتماعي والسياسي الداخلي:
لليمن الجغرافي الكبير تقسيمات داخلية جغرافية واجتماعية وسياسية أثمرها تاريخ علاقة الإنسان بالجغرافيا داخل هذا الحيز الجغرافي المسمى اليمن العربي أو الجنوب العربي، ووحدة الجهوية الجغرافية لا تلغي التنوع الاجتماعي (الشعوب وهوياتها)، أو التعدد السياسي المعبر عن هذا التنوع (الدول الوطنية بحدودها السيادية المعروفة).
هذه النتيجة التي أفضى إليها المسار العام للتاريخ الإنساني في هذه المنطقة وظهور الشعوب ودولها الوطنية المستقلة شكل من الناحية العملية البنيتين الوجودية والوظيفية التي تظم في تكوينها شعوب ودول هذه المنطقة وهي:
1 - الأجزاء الجنوبية من شعب ودولة المملكة العربية السعودية.
2 - شعب المملكة المتوكلية الهاشمية الذي أصبح فيما بعد شعب ودولة الجمهورية العربية اليمنية.
3 - شعب ودولة الجنوب العربي الذي أخذ فيما بعد بتسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
4 - شعب ودولة سلطنة عمان.
5 - شعب ودولة الإمارات العربية المتحدة.
6 - شعب ودولة قطر.
بهذه التكوينات البنيوية تحددت الحقوق والعلاقات الحقوقية بين شعوب المنطقة ودولها الوطنية وطبقاً لذلك تحددت الهويات الوطنية لهذه الشعوب وحقوقها في مناطق سيادية محددة وحق كل شعب في تقرير مصيره. وبحسب هذه التحديدات الحقوقية نالت هذه الشعوب استقلالها ونالت دولها الوطنية الاعتراف الدولي وأصبحت دولاً كاملة العضوية في مؤسسات الشرعية الدولية وفي الجامعة العربية.
إن الهويات الوطنية لشعوب ودول جنوب الجزيرة هي نتاج التقسيمات الداخلية للأرض الواقعة داخل هذه الجغرافيا. وبكون احد هذه المكونات اخذ بالجهوية الجغرافية اسماً لهويته الوطنية (اليمن)، فهذا لا يعطيه الحق في إلغاء الشعوب الأخرى بتمايز هوياتها الوطنية والادعاء بأنها جزء منه بمجرد أنه سمى نفسه بالاسم الجهوي العام لجغرافية المنطقة.
لنأخذ نموذجين في العالم العربي يتشابهان في المقدمات ويختلفان في النتائج: النموذج المغربي والنموذج اليمني. كلاهما أخذا بالجهوية الجغرافية اسماً لهوياتهما الوطنية. فالمغرب العربي أخذ بالجهوية الجغرافية اسماً لهويته (المملكة المغربية) ولكنها لم تجعل من التسمية مدخلاً للادعاء بتبعية شعوب ودول المغرب العربي (الجزائر، موريتانيا، ليبيا، تونس) لدولة المغرب والدخول في حروب لبسط سيطرتها على هذه الدول على غرار ما فعلته أنظمة الحكم المتعاقبة في اليمن. لهذا نجد حضوراً قوياً للمشكلة في الحالة اليمنية وغياب شبه كلي للمشكلة في الحالة المغربية.
في عشرينيات القرن العشرين أقدم إمام صنعاء على تغيير اسم مملكته إلى المملكة المتوكلية الهاشمية إلى المملكة المتوكلية اليمنية واتخذ من هذا التغيير مدخلاً للادعاء بتبعية أراضي شعوب جنوب الجزيرة العربية (اليمن العربي أو الجنوب العربي الكبير)، تبعيتها جميعاً لمملكته، أي أنه جعل من التسمية الجديدة غطاء يخفي خلفه أطماعه التوسعية على حساب التنوع الشعوبي والتعدد السياسي داخل جغرافية جنوب الجزيرة العربية (اليمن)، فأشعل بذلك فتيل الحروب التي لم تتوقف الى اليوم رغم مرور ما يقرب المائة عام على ذلك التغيير. فبعد الإعلان عن تغيير التسمية في عشرينيات القرن الماضي أشعل أمام صنعاء الحرب مع المملكة العربية السعودية للاستيلاء على أراضي جنوب المملكة، انتهت بهزيمة الإمام وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بينهما في 1934. وجنوباً وبدوافع الرغبة في التوسع وبسط السيطرة على أراضي الجنوب أشعلت صنعاء الحرب مع سلطنات الجنوب العربي التي كانت حينها تحت الاحتلال البريطاني، فانتهت الحرب بهزيمة الإمام والتوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود مع سلطنات الجنوب العربي في نفس العام 1934.
صنعاء وتبنى أساليب جديدة لتمرير اطماعها تجاه الجنوب
بعد هزيمة صنعاء العسكرية وتوقيع اتفاقيات ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية شمالاً وترسيم الحدود مع سلطنات الجنوب العربي جنوباً لم تتخلَ عن أطماعها تجاه الجنوب فانتقلت من أساليب القوة إلى تبني غلاف الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية. وبالتعاون مع خلاياها التي زرعتهم في الجنوب رفعت شعارات الوحدة اليمنية خطوة على طريق الوحدة العربية وفيما بعد شعار الوحدة اليمنية خطوة في طريق توسيع رقعة النفوذ الاشتراكي، وبعد تراجع المشروعين القومي والاشتراكي رفعت شعار الوحدة اليمنية خطوة في طريق الوحدة الإسلامية.
نجحت خلايا صنعاء التي توغلت في النظام السياسي الحاكم في الجنوب من إقناع الجنوبيين في تبني تسمية اليمن اسماً لهويتهم الوطنية. فكان إعلان دولة الجنوب المستقلة باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 1967، ثم بعد سنتين ألغيت منها صفة الجنوبية واستبدلت باسم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، ثم تلى ذلك شعارات شعب واحد، يمن واحد. لقد كان ذلك الخطأ القاتل الذي قاد إلى إعلان صهر وتذويب الدولتين في دولة واحدة سميت بالجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990. إعلان اصطدم بالواقع وأشعل حروبا لم تتوقف إلى اليوم، فشعب الجنوب اضطر منذ 1990 لليوم إلى أن يخوض حروب الدفاع عن وجوده وبقائه كشعب.
الآن بعد سقوط أطماع القوة وانهيار الأيديولوجيات على اختلافها آن الأوان لإعادة وضع المسارات في الطرق الطبيعية الصحيحة وإعادة تسمية الأشياء بمسمياتها وتصويب الأخطاء التي ارتكبت خلال العقود الماضية.
هوية شعب الجنوب وإشكالية التسمية:
هناك ثلاثة عوامل مهمة تلعب دورا حاسما في تحديد مسمى الهوية الوطنية للشعب والدولة.
العامل الأول: إذا التسمية التي يحملها السكان واحدة والأرض لا تحمل أسماً واحداً، يؤخذ بمسمى السكان اسماً لهوية الشعب والدولة (روسيا مثالًا).
العامل الثاني: إذا التسمية التي تحملها الأرض واحدة والسكان لا يمتلكون اسماً موحداً، يؤخذ باسم الأرض اسماً لهوية الشعب والدولة (أمريكا مثلا).
وستكون الحالة مثالية إذا الاسمان متطابقان للأرض والشعب.
العامل الثالث: إذا الأرض لا تحمل اسماً موحداً والسكان أيضاً لا يحملون اسماً موحدا فتؤخذ حينها تسمية المكون الأكبر مساحة وسكان اسماً لهوية الشعب والدولة.
ففي حالة الجنوب حضرموت هي المكون الأكبر مساحة وسكان بين المكونات الوطنية لشعب الجنوب، وهو السبب الرئيس الذي يجعل الأخذ بمسمى حضرموت اسماً لهوية الشعب والدولة، وهناك أيضاً أسباب أخرى داعمة للأخذ بهذه التسمية نوجزها بالآتي:
1 - حضرموت إحدى الممالك الكبرى لحضارات جنوب الجزيرة العربية احتفظت بتسميتها حتى اليوم والأخذ بهذه التسمية اسماً لهوية الشعب والدولة تكسبها عمقا تاريخيا تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ.
2 - حضرموت في الكثير من مراحل التاريخ امتد حكمها ليشمل الجغرافية الجنوبية كلها.
3 - معظم سكان محافظات الجنوب الأخرى يدخلون في التركيبة السكانية لحضرموت، وكذلك يدخلون أبناء حضرموت في التركيبة السكانية لكل محافظات الجنوب الأخرى ويشكلون نسبة مهمة في تركيبة سكان العاصمة عدن، مما يجعل وحدة النسيج الاجتماعي لشعب الجنوب حاضرة بقوة وصفة مميزة لدولة الجنوب الجديدة، واختيار حضرموت مسمى لهوية دولة الجنوب الجديد وجعل عدن عاصمة لها يقوي الوحدة الجنوبية ويعزز الترابط الجغرافي والاجتماعي والسياسي بين جميع المكونات الوطنية لشعب الجنوب.
4- القوة الاقتصادية لحضرموت تجعل دولة الجنوب الجديدة قوية اقتصادياً ويعطي الموقع الاستراتيجي لمدينة عدن وخصائص مينائها الفريد أهمية جيواستراتيجية للدولة الجديدة.
5 - تسمية حضرموت تطلق على كل المغتربين الجنوبيين في المهجر تمييزاً لهم عن اليمنيين.
6 - تخليص الجنوب من التسميات الجهوية سواء كانت اليمن أو الجنوب العربي التي تشترك معه في هذا الاسم هويات وطنية لشعوب أخر.
*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد، كلية الآداب جامعة عدن
تقوم جميع الأشياء في وجودنا على نظام طبيعي صمم بحسب منهج رباني، التقيد به من قبل بنو الإنسان، واجب ديني وأخلاقي.
يتأسس هذا المنهج المعرفي على بعدين: بعد الخلق وبعد التسوية، بعد الخلق وبعد الجعل، فخلق الأشياء يعني إيجادها، وهو أمر يرتبط بالشق الوجودي، أما التسوية فترتبط بالتنظيم البنيوي الذي يقوم عليه وجودنا الطبيعي والإنساني الذي يجعل هذا العالم قادرًا على تأدية وظائفه وتحقيق غاياته. قال تعالى ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))[الحجرات:13]
على هذا النحو يتبين أن المنهج الرباني يقوم على عمودين يختزلان في جوفهما فكرة الوجود والتنظيم البنيوي لهذا الوجود المتضمن أيضًا الفعل الوظيفي الذي ينبغي اتباعه لحماية الوجود وتأمين أسباب البقاء.
وتأسيسًا على ذلك يمكننا استنبات مجموعتين من الخرائط المفاهيمية:
1 - الخارطة المفاهيمية المرتبطة بالأصول (الخارطة الوجودية).
2 - الخارطة المفاهيمية المرتبطة بالفروع (الخارطة الوظيفية) وهي المعنية بحفظ الوجود وتأمين أسباب البقاء.
تتحدث هذه الخرائط على اختلافها عن بنيتين، البنية الوجودية، والبنية الوظيفية، ويمكن تسميتهما ببنى التنوع المعبرة عن الشكل الخارجي للموجودات، وبنى التعدد الداخلي المعبرة عن المركب التعددي الداخلي لهذه الموجودات.
يصح القول إن هذه البنى التي يقوم عليها النظام الطبيعي تصح تمامًا على النظام الإنساني، حيث تنتمي إلى الخارطة المفاهيمية الأولى مفاهيم الإنسانية والشعوب والأمم، وهي المكونات البنيوية للنظام الإنساني (البنية الخارجية)، فيما تنتمي مفاهيم المجتمع المدني والدولة واتحاد الدول إلى الخارطة المفاهيمية الثانية المرتبطة بآليات الفعل الوظيفي الرامي لحفظ الوجود وتأمين أسباب البقاء.
يلزمنا هذا المنهج بمبدأ تبعية الفرع للأصل، وتتحدد بحسب هذه التبعية وظيفة الفرع في حفظ الوجود، وتأمين أسباب استمرار البقاء بالتنظيم الوجودي تحددت حدود الحق واقتسامه بين المكونات الوجودية، فيما تحددت أهداف التنظيم الوظيفي ببناء القوة اللازمة لإحقاق الحق وبناء التوازن الضروري لحفظ الحق وتأمين حدوده بين المكونات الوجودية يبين كل ذلك أسبقية الحق على القوة وتبعية القوة للحق، فللحق حاكمية على القوة، وبوصف أن إحقاق الحق هو العدالة ذاتها، فإن الفضاء المسموح لحركة القوة هو الفضاء الواقع بين نقطتي الحق والعدالة.
إن قصور القوة وعدم بلوغها نقطة التناغم مع الحق يعد إهدار للحق، وتجاوزها لنقطة العدالة يعد إهدارًا للحق وتفويض العدالة، الأمر الذي يعني أن القوة هي بلوغ لحظة الانسجام، والتطابق بين الحق والقوة التي هي أيضًا لحظة العدالة، وتمثل هذه العلاقة الثلاثية في معادلة الحق والقوة والعدالة أساس الحكم.
تأسيسًا على ذلك تقوم الهياكل البنيوية التي تعد تجسيدًا لهذه الثلاثية وأوعية حافظة لمتطلبات القانون العام للوجود والبقاء.
1 - البنية الوجودية تعبر عن اقتسام الحق وتأسيس العلاقات الحقوقية بين المكونات الوجودية وخلق توازن يحفظ حدود الحق وحدود العلاقات الحقوقية بين مكونات البنية الوجودية.
2 - البنية الوظيفية (البنية الوسطى) ووظيفتها بناء القوة اللازمة لإحقاق وبلوغ العدالة.
3 - البنية الخاصة بالحكم والإدارة (الهياكل السياسية) ووظيفتها إدارة العلاقة بين الحق والقوة وجعلهما في حالة تناغم وتطابق مستمرين وعدم السماح بالقصور أو التجاوز للحظة تحقيق العدالة.
كل ذلك يعطينا أساس تناول الجذور المعرفية للهوية بكل أبعادها الفردية والجزئية والكلية، حيث تعود هذه الجذور إلى حقيقة الترابط بين الجغرافيا والاجتماعي والسياسة، هناك مقولة علمية شائعة أن الجيولوجيا تصنع الجغرافيا والجغرافيا بدورها تصنع الاجتماع والثلاثة معًا يصنعون السياسة.
الهوية والانتماء
الهوية بمعناها اللغوي تعني "التمايز عن الأغيار" وتشتق منها الألفاظ هو، هي، هم، بما تحمله من معاني التمايز للإنسان هويتان: هوية شخصية وهوية وطنية.
الهوية الشخصية أنه ينتمي إلى أبوين محددين وإذا هم معًا يشكلون أولى حلقات المجتمع البشري (الأسرة).
أما الهوية الوطنية فتتحدد بانتماء الشخص لأرض محددة ولتجمع بشري محدد ومركب الانتماءين يسمى الشعب وبالانتماء للشعب تتحدد الهوية الوطنية للإنسان الفرد، وبالهويتين تتحدد الحقوق والعلاقات الحقوقية للأشخاص داخل انتماءاتهم الأسرية والوطنية.
تمثل الهوية الثابت الحقوقي الأول الذي عليه تتحدد ثوابت حق الوجود والبقاء البشري المتمثلة بحق السيادة على أرض محددة وحق تقرير المصير على حدود الهوية تتحدد حدود السيادة وحدود ممارسة حق تقرير المصير، والترابط بينهما ترابط وجودي وشرطي، فلا حديث عن حق سيادة على أرض بدون هوية ولا حديث عن حق تقرير المصير بدون الهوية والسيادة، فكل حق محدد يشترط الحق الذي قبله.
إننا أمام بنيان أساسه الجغرافيا ووسطه الاجتماع البشري وقمته العقل والسياسة.
الحق العقل والسياسة:
للعقل عينان، عين يقرأ بها الواقع، وعين يحقق بها وظيفة تغيير هذا الواقع، بكلمات أخرى، العقل يشكل وعي الناس لواقعهم ويشكل إرادتهم للتعامل مع هذا الواقع وثنائية الوعي والإرادة يشكلان معًا السياسة ومركب هذه الثنائية يشكل المضمون العقلي للسياسة.
بوعيه للحق والعلاقات الحقوقية التي يقوم عليها الواقع المتعامل معه العقل يصيغ الاتجاهات العامة للسياسة ويجعلها تمثل الإمتداد التطبيقي للحق وثوابت الحق الوطني للشعب، فالسياسة ينبغي أن تكون تعبيرًا عن الحق وإحقاقًا له في الواقع العملي ومتغيرات السياسة ينبغي أن تحفظ التناغم الدائم بين ثلاثية الحق والعقل والسياسة بهذا التناغم وحده تكتسب السياسة مشروعيتها، وإذا فقدت هذا التناغم وذهبت السياسة صوب الابتعاد والانفصال عن الحق والعقل فقدت مشروعيتها وصارت تتحكم بها الأطماع والأهواء وتتحول إلى سبب مباشر لعدم الاستقرار والصراع والحرب.
بثوابت الحق الوطني المحكومة بحدود محددة تتمايز الهويات الوطنية للشعوب، وتمايز الشعوب عن بعضها لا يعني القطيعة بل أساس للتعاون والتكامل، حيث تجتمع عدد من الشعوب في أمة واحدة وتجتمع الأمم بكل مكوناتها في الكل الإنساني، ويحمي هذا التمايز الهويات (الشعوب) ويحفظ استقلاليتها ويمنع صهرها وذوبانها في الكيانات الأكبر وتضيع حقوقها، وتتحدد على هذا التمايز شراكتها في المستويين الإقليمي والدولي.
على هذا النحو يتبين أن الهوية بحقوقها الثابتة تجمع بين التمايز عن الأغيار والاستقلالية من جهة والشراكة مع الأغيار من جهة أخرى. وطبقًا لذلك تتحدد العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم مع بعضها من جهة وعلاقاتها بالكل الإنساني من جهة أخرى.
الهوية تمثل الأساس المرجعي الأول الذي عليه تتحدد الحقوق الثابتة للشعوب والعلاقات المتبادلة بينها، لذلك أن تحديات تقويض هوية شعب ما تمثل تحديات وجودية تضع هذا الشعب أمام تحدي الكينونة يكون أو لا يكون، إذا قوضت هويته تسقط كامل حقوقه في الوجود والبقاء، يسقط حقه في السيادة على أرضه يسقط حقه في قراره السيادي المستقل وحين يصبح شعب بلا أرض يتحول أبنائه إلى شتات وذوبان كأفراد في شعوب الأرض المختلفة.
كل ذلك يعني أن شعب الجنوب واجه ومازال يواجه هذا التحدي الوجودي المتمثل في تقويض هويته وإلغاء سيادته على أرضه وحرمانه من إدارة ذاته وإذابته في تكوين شعب أو عدد من الشعوب الأخرى وتمكين الغزاة من البسط والسيطرة على أرضه وثرواته واستكمال التغلب على هذا الخطر لا ينتهي إلا بإعادة بناء الهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب.
إن المفتاح العام لإعادة بناء الهوية الوطنية لشعب الجنوب تتم بتبني سياسة واضحة تبدأ بالإقرار بثلاث حقائق ثابتة:
1 - الحقيقة الأولى أن البنية الوجودية داخل ما بات يعرف بالحالة اليمنية تقوم على ثنائية الشعبين والدولتين بحدودهما الدولية المعترف بهما قبل 22 مايو 1990.
2 - الحقيقة الثانية أن الاتفاق السياسي بين منظومتي الحكم الذي قاد إلى إعلان صهر وتذويب الشعبين والدولتين في دولة واحدة في مايو 1990 كان اتفاقًا بين أحزاب سياسية أيديولوجية ليس له مصوغ حقوقي قانوني، لقد كان خروجًا فجًا عن قواعد القانون الدولي وعن السنن الذي فطرنا عليها، فالشعوب لا تذوب ولا تنصهر. لقد جعلنا الله في شعوب وطبقًا لهذا القانون الإلهي تم اقتسام أقاليم الأرض بين شعوب الأرض، ثم جاء القانون الوضعي وشرعن هذا القانون واعترف بالشعوب وهوياتها المستقلة واعترف بحقوقها الثابتة، فالحق ثابت لا يصح إلغاؤه.
3 - الحقيقة الثالثة أن الاتفاق الأيديولوجي السياسي بين الأحزاب الحاكمة في الدولتين الذي ألغي الشعبين والدولتين بهوياتهما المستقلة وما ترتب عليه من إلغاء لسيادتهما كل على أرضه وإلغاء استقلالية قرار كل منهما، أسس بذلك للصراعات والحروب واضطرابات لم تتوقف إلى اليوم.
ولرسم سياسات واستراتيجيات واضحة لإعادة بناء الهويات الوطنية ووضع نهاية للاضطرابات والحروب وإعادة وضع التطور في مساره الطبيعي الصحيح ينبغي فهم الخروج عن المسارات الصحيحة وفهم السياسات التي اتبعت في إحداث كل هذا الخلل المروع وكيف استخدمت المفاهيم الجهوية غطاء لتدمير الهويات الوطنية داخل الجهويات الجغرافية.
مفهوم اليمن اللفظ والمعنى
إن فهم المدلول اللغوي لكلمة "اليمن" يفتح ألغاز هذه التسمية، ويساعد على الوصول إلى حلول لمشكلات التسمية والهويات داخل الجغرافيا اليمنية (جغرافية جنوب الجزيرة العربية).
تشير النقوش التي عثر عليها من الحضارات العربية الجنوبية القديمة إلى الاستخدام الواسع لكلمة "اليمن" بلفظة "يمنت" فقد وردت في اللقب الملكي لملوك حمير، ووردت لفظة يمنت في النقوش بوصفها كلمة مقابلة للفظة "شأمت" التي تعني الشمال في الإشارة إلى جنوب الجزيرة العربية وشمالها. ومازالت الكثير من الشواهد المستمرة إلى اليوم تؤكد هذه الحقيقة مثلا الباب الجنوبي لمدينة صنعاء القديمة يطلق عليه "باب اليمن" والباب الجنوبي لمدينة صعدة القديمة يطلق عليه "باب اليمن" وتنقسم مدينة بيت الفقيه الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى قسمين، حيث يطلق على طرفها الجنوبي "الطرف اليماني" وطرفها الشمالي "الطرف الشامي".
ويشار في العديد من مراجع التاريخ القديم للجزيرة العربية إلى التقسيم الجغرافي الذي يسبق الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية إلى شمالها بالشام، وجنوبها باليمن ووسطها بالحجاز المنطقة الفاصلة بين الجنوب والشمال.
كل ذلك يعني أن الألفاظ "اليمن" و "الشام" و "الحجاز" هي ألفاظ جهوية جغرافية لا علاقة لها بالتكوينات الاجتماعية والسياسية (الهويات الوطنية) التي تشكلت عبر التاريخ داخل هذه الجهويات الجغرافية.
تؤكد ذلك حقيقة أن إذا قسمنا الجغرافية العربية بين الجهويات الأربع يصبح لدينا:
1 - الشام العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
2 - اليمن العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول (الجنوب العربي).
3 - المغرب العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
4 - المشرق العربي الكبير بما فيه من شعوب ودول.
وعليه، فإن مما تم عرضه يتبين أن مفهومي الجنوب العربي الكبير واليمن العربي الكبير يحملان نفس المعنى ومدلولهما اللغوي يشير إلى الجهوية المشمولة في المنطقة الجنوبية من جغرافية الوطن العربي الكبير، وليس لهذه التسمية أي مدلول اجتماعي أو سياسي، ما يعني أن فيها مجموعة من الهويات الوطنية المستقلة عن بعضها وليست هوية وطنية واحدة.
مفهوم اليمن في جدلية العلاقة بين الشكل الجغرافي الخارجي والمحتوى الاجتماعي والسياسي الداخلي:
لليمن الجغرافي الكبير تقسيمات داخلية جغرافية واجتماعية وسياسية أثمرها تاريخ علاقة الإنسان بالجغرافيا داخل هذا الحيز الجغرافي المسمى اليمن العربي أو الجنوب العربي، ووحدة الجهوية الجغرافية لا تلغي التنوع الاجتماعي (الشعوب وهوياتها)، أو التعدد السياسي المعبر عن هذا التنوع (الدول الوطنية بحدودها السيادية المعروفة).
هذه النتيجة التي أفضى إليها المسار العام للتاريخ الإنساني في هذه المنطقة وظهور الشعوب ودولها الوطنية المستقلة شكل من الناحية العملية البنيتين الوجودية والوظيفية التي تظم في تكوينها شعوب ودول هذه المنطقة وهي:
1 - الأجزاء الجنوبية من شعب ودولة المملكة العربية السعودية.
2 - شعب المملكة المتوكلية الهاشمية الذي أصبح فيما بعد شعب ودولة الجمهورية العربية اليمنية.
3 - شعب ودولة الجنوب العربي الذي أخذ فيما بعد بتسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
4 - شعب ودولة سلطنة عمان.
5 - شعب ودولة الإمارات العربية المتحدة.
6 - شعب ودولة قطر.
بهذه التكوينات البنيوية تحددت الحقوق والعلاقات الحقوقية بين شعوب المنطقة ودولها الوطنية وطبقاً لذلك تحددت الهويات الوطنية لهذه الشعوب وحقوقها في مناطق سيادية محددة وحق كل شعب في تقرير مصيره. وبحسب هذه التحديدات الحقوقية نالت هذه الشعوب استقلالها ونالت دولها الوطنية الاعتراف الدولي وأصبحت دولاً كاملة العضوية في مؤسسات الشرعية الدولية وفي الجامعة العربية.
إن الهويات الوطنية لشعوب ودول جنوب الجزيرة هي نتاج التقسيمات الداخلية للأرض الواقعة داخل هذه الجغرافيا. وبكون احد هذه المكونات اخذ بالجهوية الجغرافية اسماً لهويته الوطنية (اليمن)، فهذا لا يعطيه الحق في إلغاء الشعوب الأخرى بتمايز هوياتها الوطنية والادعاء بأنها جزء منه بمجرد أنه سمى نفسه بالاسم الجهوي العام لجغرافية المنطقة.
لنأخذ نموذجين في العالم العربي يتشابهان في المقدمات ويختلفان في النتائج: النموذج المغربي والنموذج اليمني. كلاهما أخذا بالجهوية الجغرافية اسماً لهوياتهما الوطنية. فالمغرب العربي أخذ بالجهوية الجغرافية اسماً لهويته (المملكة المغربية) ولكنها لم تجعل من التسمية مدخلاً للادعاء بتبعية شعوب ودول المغرب العربي (الجزائر، موريتانيا، ليبيا، تونس) لدولة المغرب والدخول في حروب لبسط سيطرتها على هذه الدول على غرار ما فعلته أنظمة الحكم المتعاقبة في اليمن. لهذا نجد حضوراً قوياً للمشكلة في الحالة اليمنية وغياب شبه كلي للمشكلة في الحالة المغربية.
في عشرينيات القرن العشرين أقدم إمام صنعاء على تغيير اسم مملكته إلى المملكة المتوكلية الهاشمية إلى المملكة المتوكلية اليمنية واتخذ من هذا التغيير مدخلاً للادعاء بتبعية أراضي شعوب جنوب الجزيرة العربية (اليمن العربي أو الجنوب العربي الكبير)، تبعيتها جميعاً لمملكته، أي أنه جعل من التسمية الجديدة غطاء يخفي خلفه أطماعه التوسعية على حساب التنوع الشعوبي والتعدد السياسي داخل جغرافية جنوب الجزيرة العربية (اليمن)، فأشعل بذلك فتيل الحروب التي لم تتوقف الى اليوم رغم مرور ما يقرب المائة عام على ذلك التغيير. فبعد الإعلان عن تغيير التسمية في عشرينيات القرن الماضي أشعل أمام صنعاء الحرب مع المملكة العربية السعودية للاستيلاء على أراضي جنوب المملكة، انتهت بهزيمة الإمام وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بينهما في 1934. وجنوباً وبدوافع الرغبة في التوسع وبسط السيطرة على أراضي الجنوب أشعلت صنعاء الحرب مع سلطنات الجنوب العربي التي كانت حينها تحت الاحتلال البريطاني، فانتهت الحرب بهزيمة الإمام والتوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود مع سلطنات الجنوب العربي في نفس العام 1934.
صنعاء وتبنى أساليب جديدة لتمرير اطماعها تجاه الجنوب
بعد هزيمة صنعاء العسكرية وتوقيع اتفاقيات ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية شمالاً وترسيم الحدود مع سلطنات الجنوب العربي جنوباً لم تتخلَ عن أطماعها تجاه الجنوب فانتقلت من أساليب القوة إلى تبني غلاف الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية. وبالتعاون مع خلاياها التي زرعتهم في الجنوب رفعت شعارات الوحدة اليمنية خطوة على طريق الوحدة العربية وفيما بعد شعار الوحدة اليمنية خطوة في طريق توسيع رقعة النفوذ الاشتراكي، وبعد تراجع المشروعين القومي والاشتراكي رفعت شعار الوحدة اليمنية خطوة في طريق الوحدة الإسلامية.
نجحت خلايا صنعاء التي توغلت في النظام السياسي الحاكم في الجنوب من إقناع الجنوبيين في تبني تسمية اليمن اسماً لهويتهم الوطنية. فكان إعلان دولة الجنوب المستقلة باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 1967، ثم بعد سنتين ألغيت منها صفة الجنوبية واستبدلت باسم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، ثم تلى ذلك شعارات شعب واحد، يمن واحد. لقد كان ذلك الخطأ القاتل الذي قاد إلى إعلان صهر وتذويب الدولتين في دولة واحدة سميت بالجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990. إعلان اصطدم بالواقع وأشعل حروبا لم تتوقف إلى اليوم، فشعب الجنوب اضطر منذ 1990 لليوم إلى أن يخوض حروب الدفاع عن وجوده وبقائه كشعب.
الآن بعد سقوط أطماع القوة وانهيار الأيديولوجيات على اختلافها آن الأوان لإعادة وضع المسارات في الطرق الطبيعية الصحيحة وإعادة تسمية الأشياء بمسمياتها وتصويب الأخطاء التي ارتكبت خلال العقود الماضية.
هوية شعب الجنوب وإشكالية التسمية:
هناك ثلاثة عوامل مهمة تلعب دورا حاسما في تحديد مسمى الهوية الوطنية للشعب والدولة.
العامل الأول: إذا التسمية التي يحملها السكان واحدة والأرض لا تحمل أسماً واحداً، يؤخذ بمسمى السكان اسماً لهوية الشعب والدولة (روسيا مثالًا).
العامل الثاني: إذا التسمية التي تحملها الأرض واحدة والسكان لا يمتلكون اسماً موحداً، يؤخذ باسم الأرض اسماً لهوية الشعب والدولة (أمريكا مثلا).
وستكون الحالة مثالية إذا الاسمان متطابقان للأرض والشعب.
العامل الثالث: إذا الأرض لا تحمل اسماً موحداً والسكان أيضاً لا يحملون اسماً موحدا فتؤخذ حينها تسمية المكون الأكبر مساحة وسكان اسماً لهوية الشعب والدولة.
ففي حالة الجنوب حضرموت هي المكون الأكبر مساحة وسكان بين المكونات الوطنية لشعب الجنوب، وهو السبب الرئيس الذي يجعل الأخذ بمسمى حضرموت اسماً لهوية الشعب والدولة، وهناك أيضاً أسباب أخرى داعمة للأخذ بهذه التسمية نوجزها بالآتي:
1 - حضرموت إحدى الممالك الكبرى لحضارات جنوب الجزيرة العربية احتفظت بتسميتها حتى اليوم والأخذ بهذه التسمية اسماً لهوية الشعب والدولة تكسبها عمقا تاريخيا تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ.
2 - حضرموت في الكثير من مراحل التاريخ امتد حكمها ليشمل الجغرافية الجنوبية كلها.
3 - معظم سكان محافظات الجنوب الأخرى يدخلون في التركيبة السكانية لحضرموت، وكذلك يدخلون أبناء حضرموت في التركيبة السكانية لكل محافظات الجنوب الأخرى ويشكلون نسبة مهمة في تركيبة سكان العاصمة عدن، مما يجعل وحدة النسيج الاجتماعي لشعب الجنوب حاضرة بقوة وصفة مميزة لدولة الجنوب الجديدة، واختيار حضرموت مسمى لهوية دولة الجنوب الجديد وجعل عدن عاصمة لها يقوي الوحدة الجنوبية ويعزز الترابط الجغرافي والاجتماعي والسياسي بين جميع المكونات الوطنية لشعب الجنوب.
4- القوة الاقتصادية لحضرموت تجعل دولة الجنوب الجديدة قوية اقتصادياً ويعطي الموقع الاستراتيجي لمدينة عدن وخصائص مينائها الفريد أهمية جيواستراتيجية للدولة الجديدة.
5 - تسمية حضرموت تطلق على كل المغتربين الجنوبيين في المهجر تمييزاً لهم عن اليمنيين.
6 - تخليص الجنوب من التسميات الجهوية سواء كانت اليمن أو الجنوب العربي التي تشترك معه في هذا الاسم هويات وطنية لشعوب أخر.
*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد، كلية الآداب جامعة عدن