الأمانة والخيانة في ديمقراطية الحكم والإدارة

> أمذيب صالح احمد

> (10) النتائج الإجرامية والإفسادية للكذب في المجتمع والدولة....بما أن الكذب يتبدى في عشرات الصور من التصرفات والسلوكيات والأعمال الظاهرة والباطنة للإنسان قولاً وفعلاً وحركة، فإن جميع مخالفاتنا، للأخلاق والأعراف والقوانين والنظم المشتركة وإخلالنا بها ومخالفتنا لها، التي تنظم العلاقات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تنطلق من الكذب والتكذيب بجميع صوره التي تحولت في وعينا الاجتماعي إلى منكرات وأخلاق مذمومة ومخالفات وجنح وجرائم بحكم الشريعة والقانون يعاقب عليها الفاعل أدبياً ومعنوياً ومادياً، لما لها من تاثيرات سيئة ومخربة ومدمرة على بنيان الأسرة الواحدة أو البنيان الاجتماعي للعلاقات بين الناس أو البنيان السياسي للدولة داخلياً وخارجياً.

إن جميع عقودنا الاجتماعية صغيرها وكبيرها، المعنوية منها والمادية، مبنية على أساس الصدق والأمانة والوفاء والإخلاص في التعامل والتنفيذ، وكل خلل أو اختلال بالكذب والخيانة والغدر والغش والنصب والاحتيال والخداع والاغتصاب والسرقة والرشوة والابتزاز والتقصير والغلط والباطل والظلم، يؤدي الى انفراط عقود التفاهم والوئام والسلام للحياة الانسانية على مستوى الأسرة وعلى مستوى المجتمع وعلى مستوى الدولة. ولذلك فإن الدول والمجتمعات البشرية في العالم تتطور وتتمدن وتتحضر بالقدر الذي يكون فيه الصدق والأمانة والوفاء والإخلاص أساس العمل والمعاملة بين جميع الأفراد والأطراف والهيئات في المجتمع والدولة. وإذا اهتدينا بما جاء في القرآن العظيم، فإن بعض صور الكذب كالنفاق مثلاً يؤدي الى الفتنة والخروج عن الطاعة والفسوق والظلم والاستغلال والطغيان والإفساد والأمر بالمنكرات والتخلف عن الجماعة والجهل والذل واتباع الهوى والغرور والتكبر والضلال وغير ذلك من الصفات والصور للحياة في المجتمعات التي يروج فيها الكذب شعبياً ورسمياً بين الناس وعلى مستوى العلاقات في الأسرة أو المجتمع أو الدولة أو العالم. إن الفساد الذي نشكو منه اليوم في مناحي حياتنا ما هو إلا جريمة واحدة من عشرات الجرائم والكبائر والمنكرات الناشئة عن الكذب بمختلف صوره، التي تلوث المجتمع والدولة في دولة ناشئة كاليمن، فتكبح تطورها وتعرقل قدراتها على النهوض الحضاري. فلماذا يتشدد بعضنا ويشتط في اتهام المخالفين بالرأي والفكر بالخيانة وأوصافها الأخرى بينما الديمقراطية الإسلامية ترى أن الخيانة هي في الإخلال بأمانة المسؤولية والسلطة من جانب الذين يتحملونها رسمياً ويكلفون بها قانونياً وليست في اختلاف الرأي بين القوى المختلفة على المستوى الشعبي.

(11) محاربة الكذب ومقاومة الخيانة للأمانة في المجتمع والدولة
إذا كان القرآن العظيم يقرر أن الفساد والطغيان والظلم والاستغلال والضلال هي من منتجات الكذب وعواقبه، فإن محاربة الكذب ومقاومة الكذابين في المجتمع والدولة يصبح فرض عين وأمراً واجباً على الجميع لإصلاح الدولة والمجتمع، لأنه أساس البلاء والشر ومنكر تتعاظم كبائره وتتكاثر شروره كل يوم. ولذلك فإن معرفة الكذابين الخطرين على المجتمع والدولة هو الخطوة الأولى للوقاية من أكاذيبهم، ولتجنب منحهم الفرص اللازمة لممارسة الكذب في العمل والمعاملة، وأحسن دليل هو ما تجمع لدينا من أحكام الكتاب والسنة بهذا الصدد، وما تراكم أيضاً من التراث الفكري في هذا الشأن. فليس ثمة وصف أحسن مما قرره أحكم الحاكمين في القرآن المجيد عن صفات النفاق وصوره الذي يعتبر الكذب الأساسي والخيانة الكبرى، رأينا ترتيبها في ثلاث مجموعات على النحو التالي:

(الأولى): مرض القلب مثل (الريبة وسوء الظن والوهم)، الغرور، التكبر، الطغيان، الظلم والفساد، الاستغلال، الفسوق، الأمر بالمنكر، النهي عن المعروف، التستر بالإصلاح، التخلف عن الجماعة، التخلف عن الجهاد، تحكيم غير الله، استبطان الكفر، موالاة الكافرين.

(الثانية): الغيظ، البغضاء، الخصام، الشماتة، الاستهزاء، ابتغاء الفتنة، اتباع الهوى، إخلاف الوعد.

(الثالثة): الذل، البخل، التذبذب، الرياء، الكذب، الضلال، الخداع، الخوف من الموت.

وقد فسر بعض صور وصفات النفاق الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) في أقواله بأن أضاف صفات فرعية للأوصاف القرآنية مثل: الجبن والوقاحة والغباء والمداهنة والحسد والحقد وفقدان الحكمة وتهزيع الأخلاق (تحطيم الأخلاق).

وإذا كانت الأسرة التي هي النواة الأساسية للتكوينات الاجتماعية فإن الاخلاق والعادات والشريعة الإسلامية وقوانين الدولة تتحكم في بنائها وحسن نظامها وعلاقاتها. أما المعاملات والعلاقات في المدرسة والشارع والمجتمع فتتحكم فيها أيضاً الأخلاق والعادات والقيم الإسلامية وقوانين الدولة. ولذلك فإن أجهزة الدولة وهيئاتها الدستورية وسلطتها القضائية تعمل على محاربة انتهاك القوانين ومخالفتها من أفراد المجتمع، أي أنها جميعاً تقوم بمحاربة الكذب في خيانة القوانين، لكن أخطر أنواع الكذب والخيانة للأمانات المؤدي الى الفساد العام هو ناشئ عن سوء اختيار القيادات المختلفة في أجهزة الدولة وسلطاتها الدستورية، التي تصدر الفساد الى المجتمع بسلوكياتها وأعمالها وتستورد ما ينفع مصالحها الخاصة منه وتضر بها المصالح العامة. وبهذا فإن الدولة بأجهزتها وسلطاتها تفسد بفساد شخصياتها وتنصلح بصلاح شخصياتها التي تبدأ بصغار موظفيها العموميين وتنتهي بكبار شخصياتها وأفراد قياداتها المختلفة في جميع أجهزتها وهيئاتها وسلطاتها الدستورية. ونحن نعلم أن الفساد سببه ممارسة الكذب بمعناه الواسع المتعدد، وقد وضع في الدستور شرط الأمانة والاستقامة (الصدق) كصفة لازمة لكبار الشخصيات في الدولة ولكن العيب هو في طرق تحقيق وتنفيذ هذا الشرط كصفة لازمة لأخلاق وسلوكيات أعضاء أجهزة الدولة.

إن الديمقراطية الإسلامية سواء تلك التي مورست في أشكال الحكم والمعاملة في التاريخ الإسلامي، أو تلك التي نشأت لدى الغير في الشرق والغرب وفق القيم الشرعية للإسلام هي التي يجب اقتباسها ووضع قواعد منظمة لتطبيقها في الحكم والإدارة.

وكما نعلم حالياً لا توجد قواعد لتطبيقها ولا ضوابط ولا إجراءات منظمة تضمن وجود صفة الأمانة والصدق في شخصيات الدولة وأجهزتها فحصاً وتوصيفاً وتطبيقاً ومتابعة ومراقبة، لأن البناء الديمقراطي للحكم والإدارة يفتقر الى كل ذلك بسبب هيكلته على عصبية جاهلية وافتقاره لقيّمه الإسلامية الأصيلة وتلبسه بتقاليد أوربية شكلية واجتراره باطنياً لموروث من القهر والتسلط والإذلال.

في الدول الديمقراطية - غرباً وشرقاً - توجد لجان مختصة ومتخصصة محايدة من الخبراء المستقيمين لفحص واختيار الكوادر والمدراء والقيادات في أجهزة الدولة، أما القيادات في الهيئات الدستورية فتتعرض للفحص والمساءلة عن أعمالها وسلوكياتها عند ترشيحها لتولي المناصب السياسية أو القيادية في الدولة، كما ان الهيئات الانتخابية تقوم بفحص ومساءلة نواب المجالس النيابية المركزية والمحلية عند ترشيحهم للدخول في الانتخابات قبل مبايعتهم، ناهيك عن تحقيق الصحافة ووسائل الإعلام في كافة نشاطاتهم التي تتصف بعدم الأمانة أو الخيانة في الماضي وما نتج عنها من عواقب.

إن ما نحتاجه الآن هو إعادة النظر في النظم والتركيبات التي تؤدي الى الاختيار الصحيح لأهل الأمانة والصدق والكفاءة في قيادات الدولة والمجتمع، وفق منظومة للديمقراطية التي تتناسب مع قيم الإسلام في الحرية والمساواة والعدل والشورى والرقابة والمساءلة لخيانة الأمانة. أما أن تبقى الأمور عامة محكومة بالأهواء والمحسوبيات والوصوليات والتعصبات وتظل القوى المتخفية لمراكز وقواعد الفساد والإفساد مؤثرة وموصية ومرشحة في اختيار الكوادر والقيادات في مختلف الوظائف العامة والمناصب السياسية التي سوف تجر البلاد والعباد بهذه الأساليب الكاذبة والمنافقة الى المذلة والهوان والخراب والسقوط التام في حضيض التخلف، الذي هو في نفس الوقت خيانة لأمانة الحكم ببناء أجهزة وسلطات ضعيفة للدولة في عصر تتسابق فيه الشعوب وتتصارع الدول من أجل تثبيت هويتها وتقوية كيانها وتطوير وطنها، بينما نحن ننتظر كل يوم شهادات حسن السيرة الديمقراطية والسلوك في الحكم وفق معايير أوروبية وقيم إفرنجية لم تتأصل في حياتنا الثقافية وتراثنا الإسلامي العربي عملاً أو سلوكاً، ويظل تطورنا في الحكم والإدارة مرهوناً باستجاباتنا للوعز والوخز والبهز من الخارج.

(12) الخلاصة
وخلاصة القول، فإن الديمقراطية الحقيقية يتجلى مضمونها في الأمانة والصدق لحقوق الإنسان وحرياته العامة، ويتجلى شكلها في إنشاء علاقات صادقة وأمينة في الشورى بين الحكام والمحكومين لإقامة العدالة في الوطن بين الناس وفق عقد اجتماعي دستوري وقانوني وضعت الشريعة الإسلامية أسسه ومبادئه لتأسيس ديمقراطية صادقة في مضمونها وصادقة في شكلها، وكل خيانة بالكذب في مضمون الديمقراطية أو شكلها ينتج فساداً وظلماً وباطلاً وتخلفاً. ولذلك كان الخليفة العظيم ابوبكر الصديق ] مدركاً لجوهر ديمقراطية الحكم حينما أسس للحكم بقولهً: « إن الصدق أمانة والكذب خيانة»، لأن مبادئ الشريعة الإسلامية في الحرية والمساواة والعدل والشورى والرقابة حين تخان بالكذب تفسد الدولة وينهار المجتمع بالتخلف الدائم الناشئ عن خيانة الحرية وخيانة المساواة وخيانة العدل وخيانة الشورى وخيانة الرقابة بالأكاذيب وعدم الالتزام بالصدق والأمانة في حياتنا ومعاملاتنا الرسمية والشعبية. وإذا نظرنا اليوم الى الديمقراطيات الناجحة في الدول المتطورة لعرفنا سحر الصدق وفعالية الأمانة في تطوير الدول والشعوب.

مارس 2005م

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى