عدن وأحوال أهلها في عام 1945م

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

>
صورة لمدينة عدن في الاربعينيات من القرن الماضي ويبدو المجلس التشريعي فيها
صورة لمدينة عدن في الاربعينيات من القرن الماضي ويبدو المجلس التشريعي فيها
الحديث عن المدن وأحوال أهلها، رحلة في الذاكرة والوجدان ومسافات من الزمن نفتش على مفترقاتها على وجوه وأمكنة غابت عن الناظر بفعل يد الايام وما تطوي من صفحات لحكايات الانسان والمكان، فلا تبقي من ذلك البعيد سوى بقايا ذكريات وحنين لأطياف الامس.

في هذه المادة عودة الى بعض الملامح والاحداث في مرحلة معينة من تاريخ عدن وأحوالها نستشف منها سيرة مدينة وحياة انسان ونقرأ في سفر التاريخ طموحات وأحلام من سعوا الى جعل عدن فكرة في العقل وإحساساً في الضمير ومسؤولية في الشعور وعشقاً في القلب، فكانت لهم عدن وكانوا منها.

الشيخ عثمان
في السنة السادسة من صحيفة «فتاة الجزيرة» العدد 258 بتاريخ 11 فبراير 1945م الموافق 28 صفر 1364هـ وعلى صدر الصفحة الاولى نشرت مادة تتحدث عن الشيخ عثمان وأحوالها في تلك الحقبة من التاريخ، وتبدأ المادة الصحفية بالحديث عن الدكتور احمد سعيد عفارة، الطبيب الذي لم تعرف الجزيرة العربية طبيبا غيره في ذلك الوقت وكذلك المستشفى الذي يديره وكان ملحقا بإرسالية كيث فالكنر، حيث كان يستقبل عددا من المرضى في كل يوم من كل انحاء عدن والمحميات واليمن، وقد كان الكل يشكره على عطفه وتقديمه الخدمات للناس من ابناء العرب.

كذلك كان يوجد في الشيخ عثمان مستشفى البلدية الذي كان يديره الدكتور ساركار البنجالي وكان يتمتع بتقدير واحترام الاهالي بما عرف عنه من تعاون مع الناس الذين يقصدونه من اجل العلاج، وكان عدد زوار هذا المستشفى كل شهر أكثر من 1500 مريض.

توصف مدرسة الشيخ عثمان بأنها مفخرة لحكومة عدن وكذلك لإدارة المعارف في عدن، فقد كانت عمارة جميلة صرفت عليها الحكومة 250 الف روبية وعمرتها من الحجر الاسود (المنجور) والرخام وكان عدد طلابها 220 طالبا وفيها عدد من الاساتذة كل واحد منهم قدم ما لديه في سبيل جعل تلك المدرسة في مستوى ما تطمح له الحالة التعليمية في ذلك الوقت.

تخطيط عدن الجديدة
في العدد 294 من «فتاة الجزيرة» الصادر في 28 اكتوبر 1945 الموافق 22 ذي القعدة 1364هـ اجري هذا الحوار مع المهندس المدني المستر م.م. بارمر، خريج جامعة لندن حول الكيفية في وضع خطط لجعل عدن مدينة بمستوى اهميتها الاقتصادية والاجتماعية وهذا هو نص الحوار:

«1- ما هو رأيكم في تخطيط عدن الحاضر؟

- يبدو جليا في الوقت الحاضر ان تخطيط عدن كان قد وضع في بداية امره بصورة حقيرة، والسبب انه لم يكن يخطر ببال احد أن اهمية عدن الاستراتيجية ستبلغ ما بلغت إليه اليوم.

2- ما هي الاصلاحات المعمارية التي تقترحونها؟

- هذه الاصلاحات يجب ان تشمل التوسع في الطرقات أي جعلها عريضة، وإدخال نظام صحي حديث على البلاد وتحسين المساكن بعمارة بيوت حديثة من آخر طراز وحدائق عمومية وتشجيع الجنائن في البيوت وعمارة طرقات سطحها يمنع تراكم الغبار، وأخيرا في الترتيب لا في الاهمية منتزه جميل يحوي تسهيلات للتجديف على القوارب البحرية.

3- هل المسافات الحاضرة التي تعطى لبناء البيوت كافية؟

- نظرا لزيادة السكان في عدن بسبب كثرة عدد المهاجرين اليها من البلدان المجاورة، فإن المساحة المعطاة لبناء البيوت في الوقت الحاضر هي بلا شك مناسبة، وميسر الحصول على مساحات كبيرة وإذا رأت الحكومة ان نفكر تفكيرا جديا في هذه المعضلة فإن كثيرا من المساحات في البلاد ممكن استغلالها لغرض العمارة والمساحة الحاضرة المخصصة للبناء وإسكان الناس فيها إذا خططت من جديد بصورة فنية فإنها سوف تكفي سكان البلاد.

4- هل يتيسر اضافة أراض صالحة لبناء البيوت عليها حتى يمكننا في عدن أن نعمر بيوتا منارة حسنة التهوية بشكل صحي؟

- نعم من الممكن توسيع نطاق العمران لاعطاء الفرصة للناس ليقوموا بعمارة مساكن حديثة منسقة تنسيقا على نظام جديد يوافق مناخ عدن وأهلها.

5- هل يمكن بدون تعرض لخسارة كبيرة ان ندخل على عدن نظام المجاري الحديثة؟

- نظام المجاري الموجود الآن في عدن وضع أول الامر لتنظيف البلاد من الاوساخ المائعة، أما إدخال نظام مجاري حديث صحي فلا يمكن ادخاله على طول الخط لاول وهلة ونظام تدفق الماء ممكن ادخاله على البلاد بثمن معقول في الايام العادية ايام السلم غير ان هذا النظام لا بد من البحث فيه بدقة، والحكومة لا تقدم على امر الا بعد التثبت منه انه سيكون ناجحا».

كيف تصبح عدن بلدا طيبا؟
بالعودة الى مقالات الاستاذ محمد علي لقمان والتي تعد من المراجع الهامة في معرفة احوال عدن وأهلها في تلك الحقبة من التاريخ المنشورة في صحيفة «فتاة الجزيرة» ومنها هذا المقال الصادر في السنة السادسة العدد 301 تاريخ 23 ديسمبر 1945م الموافق 19 محرم 1365هـ والذي يطرح فيه الكاتب عدة تصورات لجعل عدن في حالة افضل حتى تدخل في مستوى المدن التجارية والمعتمدة على حركة الملاحة البحرية المتواصلة عبر الخطوط العالمية في ذلك الوقت.

وعدن كانت تحصل على دخل سنوي كبير من ضرائب تجارة الملح غير أن الاستاذ محمد علي لقمان يشير إلى أن مستقبل هذه السلعة في العملية التجارية غير مضمون، لأن استهلاك الهند من الملح قد ينقطع متى ما اعتمدت على انتاج مناطقها كالبان في مقاطعة بمباي، وكانت ضرائب الارباح من الملح في عدن تغل مبلغا وافرا وقد بلغ في أحد أعوام الحرب العالمية الثانية 1939-1945م (8) ملايين روبية، ويحدد الكاتب بأن عدن كقاعدة بحرية للاسطول البريطاني وكثغر ومطار للملاحة الجوية ما بين الشرق الادنى والاوسط وأفريقيا والهند، سوف يكون لها مكانة بارزة في فترات متقدمة من ذلك العهد، وبالرغم من وضع عدن المناخي الحار في معظم ايام السنة وعدم تمتعها بالمناظر الخضراء يرى الاستاذ لقمان بأن الموقع الجغرافي المتميز الذي تتمتع به هذه المدينة سوف يساعد الى حد كبير في جعل عدن مدينة متصلة بكل وسائل العصر التي تساعد على حركة التقدم، ويذكر أنه لم يعد أحد من الناس يفكر في الهجرة الى خارج عدن بعد أن لمسوا رغبة صادقة من قبل الحكومة البريطانية في تحسين وضع عدن وذلك عبر منحها مبلغ 800.000 جنيه إذ شملت تلك المنحة تبدلها العمراني على أحدث الطرق وأسلم الاذواق.

يقول الاستاذ محمد علي لقمان حول هذا الموضوع : «إن املنا في تقدم البلاد مازال حبيسا داخل نفوسنا لا نستطيع الجهر به ونحن لا ندري ما سوف يلاقي عند أصحاب الحل والعقد من القبول أو الرفض ولا ندري ان جهرنا بآمالنا وطالبنا بتحقيقها ماذا ستكون قيمتها العملية عند الخبراء الفنيين.

المجلس التشريعي لم يفتتح حتى اليوم، والانتخابات للمجلس الاستشاري بسلطة الضواحي مازالت رهن التفكير، والمستر ونتز الخبير المعماري مستمر في تحقيقاته الفنية وكلية اللورد جورج لويد لم يبدأ في بنائها، والمستشفى الكبير المرموق لم تختر له الحكومة البقعة اللائقة به، ومدرسة البنات مازالت فكرة لم تخرج من حيز النظر الى حيز العمل، وهكذا فإن الحكومة على حد تعبير العدني (حبالها طويلة) وتعست العجلة فإن في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.

مادام على الحكومة ان تنفذ جميع هذه المشاريع فمن العبث أن نضيف الى مسؤولياتها مسؤوليات أخرى تصبح ضغطا عليها فتصاب بسوء الهضم كما يقول الانجليز في أمثالهم فنضحي ونحن كما قال القدامى لا ذا تأتى ولا ذا حصل، ولكن ما دامت الاقوال لا تصبح أفعالا إلا اذا شاب الغراب فلنعبر عن رغائبنا آملين أن لا نكون كما استشهد بشارة واكيم بقوله: انا من ضيع في الاوهام عمره.

سألنا مرة المهندس المدني المستر بارمر عن نظام المجاري في عدن فقال ان هذا النظام يتطلب مالاً كثيرا فكتب (راجي خير) يسأل وهل يكثر علينا نحن العدنيين هذا المال؟

صحيح اننا لم نجد ولم نجد لعلم واسع وحياة سعيدة إلا اننا قد ارسلنا ببعض أبنائنا الى معاهد العلم في الخارج يدرسون العلوم ويشاهدون الرقي والحضارة الجديدة، وأرسلت حكومة عدن نفسها بالأمس احد شبابنا الى لندن، وقبلت حكومة لندن ان تشجع العلوم العالية، وبعثت ادارة المعارف عددا من الطلبة الى السودان والى جامعة بيروت وكل هؤلاء سوف يعودون من بغداد وبيروت والقاهرة والخرطوم ولندن ليسكنوا في عدن».

شكوى الموظف العدني
في العدد 397 الصادر بتاريخ 25 نوفمبر عام 1945م الموافق 20 ذي الحجة 1364هـ وتحت هذا العنوان يكتب الاستاذ محمد علي لقمان عن المستوى الاداري الذي كان فيه الموظف العدني، وما هي الحقوق التي يجب ان تمنح له مقابل اسهاماته في مجال الخدمة الادارية التي اخذت سنوات عديدة من عمره وجهده العملي.

والموظف العدني كما يصفه الكاتب هو العربي والهندي المسلم وبعض ابناء الصومال وعدد صغير من ابناء الفرس والمسيحيين، أما يهود عدن فكانت مجالات الاعمال الحرة هي سبلهم في الكسب بعيدا عن وظائف الحكومة.

ضآلة المرتبات: حول هذا الموضوع يذكر الكاتب بأن الناس كانت تتساءل عن سبب ضآلة الرواتب ويكون رد الدوائر المسؤولة بانها تدفع الاجور المرتفعة لاصحاب الكفاءات من مهندسين وخبراء فنيين ومحاسبين ورجال إدارة، وبين كل هذا يطرح الاستاذ لقمان سؤاله عن من هو المسؤول عن تأخر العدني؟

ويأتي رده على ذلك السؤال بأن الدولة هي من يقع عليها الواجب الاول في رفع مستوى رعاياها الثقافي والعلمي والاجتماعي، وعلى الناس ان يختاروا وينتفعوا بما تسخره لهم الحكومة من الوسائل المساعدة على تهذيب الذهن، ويذكر أن حكومة عدن قائمة ببعض واجباتها وكان التطلع الافضل في هذا المجال هو أمل الكاتب فالحكومة كما يرى معنية بالمساكن دون الساكن، مهتمة بتخطيط عدن الجديدة، وفي هذا الاتجاه توضح كلمات الاستاذ لقمان حال عدن ووضع الموظف العدني والاجنبي والفرق بينهما في المعاش حيث يقول: «يأتي الى عدن الاجانب كموظفين فلا يجدون من اهلها وبنيها الترحاب والتكريم شأن الدخيل في كل بلاد وهم إذا أتوها ضيوفا أو زوارا وجدوا عندهم الضيافة وحسن القبول وذكرى زيارة زعماء فلسطين لعدن خالدة في الاذهان، وإذا قارنا بين سعادة الاجنبي النفسية في هذه البلاد وشقاء المواطن نجد شكوى مريرة من الجانبين، الغريب يشعر انه أسعد من غيره ولكنه يجد أنه اكفأ وأنه في بلد ليس فيها حياة اجتماعية .. ولكن العدني لا يستطيع ان يخلق حياة اجتماعية وهو يسكن بيتا فيه غرفة واحدة هي غرفة المطالعة وغرفة الاستقبال وصالون الاكل وغرفة النوم ومدرسة ولده يجمع فيها عيال الحارة يعلمهم فيها تقليدا لاستاذه وينهي التعليم بنشيد يصم الآذان وإذا جاء زائر أو قانص البعوض اضطرت الزوجة الى الاختفاء تحت السرير أو الفرار الى بيت الماء.

الموظف الاجنبي
متعلم يحمل شهادات جامعية في الهندسة والطب والزراعة والعلوم على اختلافها.

وهو الخبير الفني والخبير التجاري والمالي والمحاسب القدير والمسجل الكبير، ولذا فإن اكثر الدوائر تقع تحت اشراف هؤلاء، وهؤلاء يوظفون ابناء العمومة لأنهم لا تتجاوب نفوسهم مع غيرهم ولأنهم يفهمون بعضهم ويسترون عيوب بعضهم وتصبح هذه المشاريع والمحسوبية سببا للتذمر العام حتى قال احدهم:

إن الاجانب بيننا سعداء

يا ليت شعري ليتنا غرباء

يتحكمون بنا كما شاء الهوى

فترى الغريب كأنه الزباء

ليس بدعا أن يطالب العدني بالاسبقية وان يأمل في عدل حكومته في توظيفه في الادارات التي تدر اللبن والعسل، ونحن نشاهد النضال من اجل الاستمتاع بالحقوق الوطنية في الشرق الاقصى والهند وكل مكان.

مستقبل الموظف العدني
اذا كان الموظف العدني قد عاش فاشلا حتى اليوم فإن المدرسة الآن آخذة في النشاط لتعد رجالا قادرين على تحمل المسؤوليات وإدارة الادارات والاستغناء بشهاداتها عن شهادات امتحان الحكومة لمعرفة كفاءة الكتاب الذي سنته على طالبي التوظف.

بماذا يطالب الموظف؟

بلسان الموظف العدني نطالب:

1- الضمان الاجتماعي.

2- رفع مستواه الادبي ومضاعفة راتبه ليبدأ بـ 100 روبية.

3- مساعدته على التقدم بإرساله الى الخارج للدرس اذا رأت الحكومة ان في وسعه أن يدير ادارته لأن في ذلك توفيرا عظيما للخزينة ورفع مستوى الوطن.

4- أن لا يجلب من الخارج موظف سوى بمعاهدة لمدة معينة كما فعلت ادارة المعارف».

في عام 1945م كانت مساحة عدن تبلغ 75 ميلا، أما عدد السكان في نفس العام فكان قد وصل الى اكثر من 60 الفا، كذلك ظهرت نتائج الامتحان المشترك للمدارس الابتدائية وكانت النسبة المئوية للنجاح في المدارس كالتالي:

مدرسة التواهي: 100%.

مدرسة المعلا: 90%.

مدرسة الشيخ عثمان: 82%.

مدرسة عدن-كريتر : 52%.

في عام 1945م كان عدد سكان الشيخ عثمان ما يقارب عشرين الف نسمة، وكانت عامرة بالحدائق التي جعل منها اهل عدن مصيفا لهم، غير أن بعض الظواهر غير المستحبة جعلت احد الاقلام الصحفية توجه النقد الى تلك الحالة وقد نشرت صحيفة «فتاة الجزيرة» في العدد 292 بتاريخ 14 اكتوبر 1945م الموافق 8 ذي القعدة عام 1364هـ مادة صحفية عن تلك الاحوال ومن جملة ما يطرحه في هذا الاتجاه قضية المباني حيث يقول:

«فمدينة الشيخ عثمان تكاد تكون محرومة من العمارات الفخمة اللهم اذا استثنينا اسواق البقول واللحوم والتمور وقد انشئت على احدث طراز، ولكن مع الاسف الشديد أن البنايات التي تقابلها على الطريق العام هي قذى في العين وقديمة، وملاك هذه البنايات لم يخطروا بتجصيص الجدران الخاوية وترميمها وهي عرضة للسقوط وبرنداتها، فهي مبنية من الحطب والهدم.

شوارعها مكدسة بالرمال تحجب المدينة، وبمجرد هبوب الرياح تثور هذه الأتربة فتغمر الوجوه والمنازل وأثاثها ولا نعرف ما الذي يمنع ادارة البلدية من تسوية هذه الشوارع وتشجيرها وجلب سيارتين أو أكثر لرشها بالمياه».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى