قم للمعلم..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
انتقلنا من مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية التي طالما أنشدنا لها «أنت أمنا» إلى المعهد العلمي الإسلامي زرافات ووحدانا نحث الخطى صوب بحر صيرة تحت ظلال قلعة جبل صيرة المتشحة بكبرياء الزمن كأنها أبو الهول الحارس لمدينة طيبة، وكان فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني الداعية الأشهر والأجهر والأقرب إلى قلوب الناس قد تمكن بجهد خارق وبصيرة حاذقة من إنشاء ذلك الصرح الذي كان في زمانه أعجوبة معمارية وتعليمية بمبناه الفسيح وممراته العريضة وواجهته السامقة وساحاته الواسعة وأثاثه الأنيق، والأهم من كل ذلك الهيئة التدريسية غير المسبوقة في تنوع مشاربها وانتماءاتها السياسية وقدراتها العلمية، لكأن الشيخ البيحاني، وهو المعلم الأول لأنه كان معلم المعلمين، قد أراد أن يجسد الوحدة الوطنية اليمنية في معهده ذاك الذي كان مشروع العمر، فالشيخ التقي الملهم المتقد حماساً وإيماناً لم يبن لنفسه وزوجاته منزلاً فخيما فقد كان ساكناً في شقة ضيقة بجانب مسجد العسقلاني الذي كان إمامه وخطيبه، ولكن حرص بكل الحزم والعزم على بناء روضة للعلم قدمها هدية للوطن لكي لا يقال إن العلماء يذكرون أنفسهم وينسون الناس. كان الشيخ كفيفاً ولكنه نافذ الإبصار يمتلك حاسة بدوي يقص الأثر في رمال الصحراء المتحركة، وليس ذلك بمستغرب فهو من بيحان إحدى البقاع الحارسة على الربع الخالي، ويمتلك سرعة بديهة الأزهري، وقد كان أحد خريجي الأزهر اللامعين وتتجلى هذه الموهبة في إدارته للأحاديث ما بين دنيا ودين، فهو مع العامة يسيطر مباشرة بضربة معلم يبهر حتى يجعلهم يقولون آمين الله يفتح عليك يا شيخ، وهو مع الخاصة يتحذر فيخلط الجد بالهزل حتى يقارب عقل محاوره ويروزه ويعرف من أين يدخل إليه فيُفحم أو ينسحب عنه فيُلجم. كان ابن دنيا بامتياز وابن دين بامتيازين. ولعل ذلك من فضائل كف البصر الذي يربي العبقريات من ذوي القابلية كالمعري وبشار ابن برد وطه حسين والبردوني وشيخنا البيحاني.

وكان الشيخ - المعلم يحسن ايضاً اصطناع الأيادي ورد الجميل وشكر الناس وقد أمر بتعليق صورتي رجلي أعمال محسنين من المملكة العربية السعودية على الواجهة أتذكر منهما (الشربتلي) حيث كان لهما الفضل الأكبر في تمويل بناء المعهد، كما سعى ورحب بقدوم بعثة سعودية من المعلمين على نفقة المملكة ساهمت في التأسيس بفعالية ونزاهة مشهودة وأذكر منهم معلماً يدعى الشامخ وأحمد محمد علي الاقتصادي السعودي الكبير في وقتنا هذا، ولو تعلم الناس من الشيخ فقه السياسة الواقعية وعدم الفجور في العداء ومن القرآن الكريم {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم} لكان في ذلك الخير الكبير والفضل العميم والمحبة التي لا تنمو إلا في بساتين الوفاء والتعامل بالحسنى وأحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك.

ما علينا.. لنتابع مع المعلم الأول الذي كان يزور المعهد بقامته القصيرة وعصاه الغليظة وعمامته الأزهرية وعلى عينيه نظارته السوداء فيملأ المكان بالمهابة، ولكنها مهابة رقيقة شفافة لا تثقل على أحد ولا تتوعد أحداً فقد كان سعيدا بالنجاح الذي تحقق وبأصوات التلاميذ تخترق أبواب الصفوف أو تتردد في ساحتي المعهد. كان الشيخ محل إجماع، ففي المعهد أساتذة قوميون وبعثيون وإخوان مسلمون وصوفيون وكانت عباءة الشيخ تتسع لهم جميعاً، فقد كانت عبقريته تتمثل في الجمع والاستيعاب في الطرح والاستنباذ.. وكان يرعى الموهوبين وفي مقدمتهم فناننا الكبير أيوب طارش الذي كان تلك الأيام يتعبد صوتياً في ظلال القرآن الكريم قبل أن يجتذبه عبدالله عبدالوهاب الفضول إلى وادي الضباب.. رحم الله الشيخ البيحاني، فلتة الزمان التي لا تتكرر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى