زمن نبش القبور

> محمد علي محسن:

>
محمد علي محسن
محمد علي محسن
أختلف كثيراً مع القول بنسيان وإغلاق صفحة الماضي بدعوى إثارة الفتنة، حتى ولو كان هذا الماضي الذي يراد طمسه يعد مشيناً ودنيئاً ومعيباً ومؤلماً كتلك المقبرة الجماعية التي حوت رفات أشخاص مجهولي الهوية خلف معسكر الصولبان، وتفضلت «الأيام» بنشر فظاعة الجريمة على ما في الاختلاف في وجهات النظر حول التوقيت وليس في بشاعتها أو مأساويتها أو من حيث هي حاطة لكرامة وآدمية الإنسان كفعل ترفضه الفطرة الإنسانية السوية والأديان والقيم الأخلاقية.

نشر الصور كان بمهنية صحفية لا يقصد بها أية إثارة للفتنة انطلاقاً من (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) بقدر ما تعاملت معها بمسؤولية أخلاقية ومهنية على اعتبار أن الواقعة تستلزم النشر، لا بل تفرض نفسها على أية وسيلة إعلامية تحترم أدبيات الصحافة في حق القارئ في المعلومة الصحيحة والموضوعية أيا كان وضعها أو توقيتها أو الجهة المستفيدة من هكذا خبر. فلا أجزم أن ثمة ما يستدعي كل المخاوف حتى يتدافع الناس لرفض إثارتها من باب الحرص على ضحايا تلك المرحلة المؤلمة التي كان وقودها الجميع دون استثناء في الضالع وأبين أو يافع أو شبوة أو عدن أو لحج أو ردفان أو حضرموت أو المهرة وحتى جزيرة سقطرى، التي أخذت نصيباً من الأحداث والصراعات القائمة على كرسي الحكم حيذاك وليس آخرها نكبة 13 يناير 1986م.

وبالقدر ذاته الذي أجد نفسي أختلف تماماً مع هذا الرفض النابع من حرص شديد لمداواة الكلم لا يقرها مجتمع مثقل بالأوجاع والآلام، لكنني في الوقت نفسه سررت جداً بهذه القاعدة العريضة الرافضة لتوظيف هكذا جرائم مثيرة للرأي العام في مماحكات سياسية من أي قبيل وفي ما يعكر أجواء الوئام والسلام والإخاء بين أعداء الأمس أخوة اليوم، الذين لا تزيدهم مثل هذه الأفعال الآثمة والمجرمة بكل الأعراف والشرائع والقوانين الا اعتباراً وتماسكاً وتصميماً على تجاوز الماضي بويلاته ونكباته ومآسيه امتثالاً لقول الشاعر: «تحاربت يوماً فسالت دماؤها.. تذكرت القربى فسالت دموعها».

واهم من يظن أن التستر على مثل هذه الجرائم اللا إنسانية يصب في مصلحة أبناء الضالع أو أبين أو لحج أو عدن أو غيرها، فنبش مقابر جماعية يجب ألا يتعامل معه بتكتم أو تنصل وهروب، بل بالشفافية المطلقة والإدانة الجمعية ومحاسبة مسؤوليها آجلاً أم عاجلاً سواء أكانت في عدن اليوم أو في صنعاء أو إب أو البيضاء أو في غيرها في بغداد أو دمشق أو بيروت أو الجزائر أو السودان أو الصومال أو البوسنة والهرسك أو كوسوفو أو سبرنيتشا أو أرمينيا أو غيرها من الأماكن ، وقد أثبتت الأيام أن وزر هذه الجرائم أينما وجدت على البسيطة وفي كل الظروف التاريخية لا تتحمله المجتمعات إلا في حالة واحدة لا غير عندما يحصل أصحابها على الحصانة والحماية غير المشروعة أو الأخلاقية أو الإنسانية.

ومادمنا نعيش زمن نبش المقابر ابتداء من العراق ولبنان وحتى رواندا والجزائر وسوريا ودارفور وصربيا فلا يجدر بنا إهمال ملف شائك ومعقد كهذا الذي تتطلب الشجاعة مواجهته بالعقل والمنطق لا العاطفة فقط، كما لا يقبل الانتظار أو التأجيل لحين الفرصة المواتية لاستغلاله من قبل النظم السياسية أو القوى والمنظمات الدولية كما هو الحال في كثير من الصراعات المحلية التي تم تدويلها بعد النبش بماضيها، وصدقوني أن الأجدر والأنفع لنا الاعتراف والمكاشفة بهذه الجرائم اللا إنسانية، وهو أفضل بكثير من الاحتماء بوهم الظرفية أو العاطفة طالما اتفقنا جميعاً على بناء المستقبل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى