مدينة الديس الشرقية

> مبارك سالمين:

> مدينة الديس الشرقية واحدة من أهم مدن حضرموت، فهي من المدن التي تقع في صدارة عنقود المدن الحضرمية .. مدينة البحر والنخيل والوادي والسلاحف والحصون والمساجد والبساتين وعيون المياه الساخنة .. مدينة الأمس الجميل واليوم والغد، وشم بدوية طازج، ريح ما قبل السيل، سلطانه الشرق، بيداء المحبة والدفء ،مخزن الزراعة والشعراء والتراث.

في هذه المدينة تأسست بجهود مثقفيها جمعية للتراث والآثار، وصلتني باكورة إنتاجها البحثي بواسطة الاستاذ الفنان عبدالله أحمد الصنح، وهي عبارة عن دراسة لبعض ملامح المدينة التراثية قام بها الاساتذة: سعيد عبدالرب الحوثري، محمد صالح باشعيب، عبدالباسط سعيد الغرابي، صلاح عبدالحافظ الحوثري، محفوظ عبدالرحمن العماري، وهذه الدراسة تفرض على أبناء الديس الشرقية والمهتمين بشؤون التراث عامة أن يحيوا القائمين بها، فهي جهد يشكرون عليه، ولعل هذه السطور تبلغهم كتحية مني هي أقل بكثير من مجهوداتهم الرائعة التي يقدمونها.

مضمون الدراسة
الدراسة إطلالة على محاور متعددة من إرث المدينة الجميل والزاهي زهو ابنائها، ويمكن القول انها بانوراما أولية على مشهد التراث الديسي، دعوة خالصة النية للاهتمام الرسمي والشعبي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من درر الموروث المادي والروحي، وتأكيد على ضرورة ربط الأمس باليوم. وقد توزعت الدراسة التي سنقدم مخلصا لها على النحو التالي:

1- الحصون أو الأكوات
من الآثار التي تؤكد عظمة الانسان وحكمته تلك الحصون التي تقارب العشرين حصنا وهي حصون بنيت بأساليب عسكرية وفي موقع استراتيجي لتحمي الحاضر من غزوات البدو المناوئين للسلطات في ذلك الزمان (القرنين التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين). وفي هذه الحصون توجد فتحات صغيرة (المشاويف) ذات اتجاهات متعددة، رأسياً وافقياً ويميناً وشمالاً، تمكن من في الداخل من رؤية القادم إليه من كل الاتجاهات.. ومن أشهر هذه الحصون (حصن البلاد والعيينة والغارق والصيق والتحتي والخليف وغيرها..).

حصن البلاد
ويسمى أيضاً حصن الدولة ويوجد في قلب المدينة تم بناؤه عام 1822 ويعتبر مركز الحكم في المدينة قبل الاستقلال ومقر إقامة حاكم البلاد (القائم)، وهو ما يعادل المأمور في الوقت الحاضر، كما يوجد فيه أيضاً مقر قاضي البلاد، وهو أيضاً مكان للقاءات والمناسبات والاجتماعات الرسمية إلى فترة قريبة، ونتيجة للإهمال انهار الجزء الخلفي منه.

2- المياه المعدنية
الينابيع الساخنة والعلاجية التي يرتادها الزوار من داخل البلاد وخارجها للاستشفاء بعناصرها، من أهم ملامح هذه العروس المسماة الديس. وقد ذكرت دراسة (عثمان 1989) أن اكاديمية الطب في جمهورية بلغاريا قامت بتحليل عينة من مياه العيون المعدنية المنتشرة في ضواحي المدينة، وأكدت نتائج التحليل قيمتها العلاجية العالية، ومن أشهر هذه العيون (ثوبان والصيق وصويبر وصنعه) غير أن انخفاض منسوب المياه في هذه العيون أمر يثير القلق ويبعث على الحيرة من أمر الجهات الرسمية في الوزارات ذات الاختصاص كوزارة الصحة والسكان ووزارة الموارد المائية.

3- البحر
لمدينة الديس نوافذها البحرية ففي محيطها تقع موانئ (شرمة والقرن وخلفه وراس باغشوة) وهي هبة الخالق لعبادة في تلك الواحة، ولأن الحديث يطول عن عشق الديس للبحر وعن تاريخ تلك الموانئ ودورها المحلي والوطني، سنكتفي بحديث موجز عن ميناء شرمة.

ميناء شرمة
يتميز ساحل شرمة بجمال أخاذ يضاهي أجمل شواطئ الدنيا. كما يتميز بوجود السلاحف النادرة التي تضع بيضها في رماله الفضية، وشرمة ميناء موغل في تاريخه، وقد ذكر الغرابي (2001) أن بعثة فرنسية اكتشفت وجود مدينة اثرية تحتوي على بعض المعالم الاثرية التي يعود تاريخها الى ما قبل (1400) سنة، وهي عبارة عن مجموعة من المنازل (65) منزلاً تقريباً وسور طوله (49) متراً ومحراب مسجد.

التراث البحري
لأجدادنا في الديس الفيحاء تراث بحري لا يقدر بثمن، ويحتاج وحده إلى العديد من الدراسات والبحوث، وفي هذا المجال اعد الاستاذ عمر عبدالرحمن المقدي المكنى بأبي هند دراسة أشار فيها إلى أن أبناء الديس الشرقية أصحاب باع من الوزن الثقيل في علاقتهم بالبحر والملاحة، وكان منهم النواخيذ الفطاحل الذين جابوا البحار شرقاً وغربا وهم يزيدون عن (122) ناخوذة، بعضهم درس في الخارج وعمل على قيادة بواخر حديثة. كما تتعرض دراسة المقدي إلى دور ابناء الديس في صناعة السفن وتجهيزها وصيانتها وقوانين تسييرها...إلخ، كما أشارت الدراسة إلى اعرق العائلات الديسية المشتغلة في صناعة السفن. وقد تميزت دراسة المقدي بغزارة معلوماتها وسعة حدودها القطاعية على مستوى المضمون والمكان، حيث شملت إلى جانب الديس مناطق اخرى (قصيعر شرقاً وحتى بروم غرباً).

4- العلم والتعليم
للتعليم في مدينة الديس الشرقية عراقته، فمدرسة الاصلاح المسماة (مكارم الاخلاق) تأسست عام 1935م وهي مازالت ماثلة للعيان كطود أخرج من معطفه الكثيرين من العلماء والادباء والشخصيات الاجتماعية التي اسهمت بأدوار قيادية في المنطقة وخارجها. كما أنشئت المدرسة الغربية في الاربعينات من القرن الماضي، وما تزال شاهدة على عصر الاهتمام بالتعليم والمعرفة وهي سمة اهل حضرموت كافة. وإلى جانب الاهتمام بالعلوم الحديثة، اهتم الناس أيضاً بالعلوم الشرعية، منهم من تصدر الفتوى على مستوى الوطن أمثال الشيخ العلامة مبارك باراشد والشيخ سالم عمر المقدي والشيخ أحمد باظريس والشيخ محمد أحمد باصلعة والشيخ محمد شيخ بن اسماعيل ورئيس مجلس القضاء العالي بحضرموت الشيخ عبدالله محفوظ الحداد وغيرهم.

كما تأسست في الديس الاندية التي حملت هي الاخرى لواء الثقافة والادب كنادي الإخاء والمعاونة (1941) وهو النادي الذي استضاف ضمن انشطته الاديب العربي الكبير علي أحمد باكثير والعلامة السلطان صالح القعيطي والاديب والمؤرخ صلاح البكري والشيخ سعيد القدال وغيرهم (الحوثري 2000).

التراث الابداعي
الشعر الشعبي (العامي) والرقص: اشتهرت الديس بشعر المدارة والدان والغناء، ومن الشعراء على سبيل المثال لا الحصر فهم كثيرون: بن سبيتي وباعمر والمقدي وباوزير وباجعالة وبن محروس والغرابي واليزيدي وبن عبود وبن سلم ومول الدويلة وحميدان وسالم مفلح وبا يمين، وليس من السهل إعداد بيبلوجرافيا للشعر الديسي ما لم تتوفر همة البحث وعدته العلمية والمالية. وقد سجل بامطرف (1982) لابن سبتي نموذجا من عيون شعر العامية.. يقول فيه:

نا شقيق الليل تشهد لي الزواهر

وغيب الزاهرة

والقمر والفجر يشهد لي نسيمه

والبيح والصبح لا بان

وقد أبحرت الدراسة في تناول الكثير من نماذج وأنواع الشعر الذي تزخر به مدينة الديس وضواحيها مما يقوله الرجال والنساء شعراً وغناء. بالإضافة إلى أحاديث موجزة عن الرقص الشعبي (الشبواني ، الخابة، الغية، المشاعيل، الكنابير...الخ) وتوجت الدراسة كأي عمل بحثي بخاتمة وتوصيات نتمنى أن تصل الى آذان أصحاب القرار في المحافظة وفي الوزارات ذات العلاقة. وفي الأخير لا املك إلا أن أشد على ايادي الاساتذة الكرام واهنئهم على هذا الجهد الرفيع.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى