فضل الليالي العشر من ذي الحجة

> علي بن عبدالله الضمبري:

> منذ ما يربو على أربعة آلاف عام بنى الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) الكعبة المقدسة في مكة المكرمة مركز الكرة الأرضية لتكون {مثابة للناس وأمناً} للبشرية.. وفي ذلك اليوم المجيد أذّن إبراهيم بالحج، وكان أجدادنا اليمنيون هم أول من لبى ذلك الأذان، وأجاب تلك الدعوة - كما ذكر القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن 2/128).

في العراق

في موئل الحضارات، وموطن الخيرات نشأ إبراهيم الخليل وترعرع في عناية إلهية عصمته من ضلالات الشرك وسياسات الظلم.. وما إن أُترع قلبه بالتوحيد الخالص حتى واجه جبروت السلطة النمرودية التي ادعت أنها تحييى وتميت!! فجابه الصنمية الملكية العاتية.. ثم قاوم الصنمية الوثنية الضالة وأعلنها بكل يقين {أسلمت لرب العالمين} البقرة 131 . ولم يكتف بذلك بل أسس اسرة قائمة على التوحيد والحب والتماسك والتكافل والحفاظ على إرث العقيدة {يا بَنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132 .

وفي هذا الزمان العربي الرديء، أقول لأحبتي في العراق: تذكروا هذه القيم الجميلة والشيم النبيلة التي رسخها جدكم الخليل إبراهيم داعياً إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.. واحذروا نمرود الاستكبار الدولي الذي يزعم أنه يحيي ويميت.. ولا تقتلوا أنفسكم فإن الله الرحمن منع وحرم التضحية بالإنسان لأنه بنيان الله في أرضه.. فهل أنتم منتهون؟

إلى الشام ومصر

وغادر إبراهيم إلى الشام، وبالذات فلسطين، ثم ذهب إلى مصر كنانة الله.. وتزوج (هاجر) التي أنجبت له (إسماعيل).. وخلدت مناسك الحج هذه المرأة التي وعت دورها ورعت أسرتها، ونبع ماء (زمزم) بعد ترددها بين (الصفا) و(المروة).. لنتعلم منها معنى السعي الواعي، والوعي الساعي نحو الخير والحب..

وبعد العودة من مصر يؤمر الخليل إبراهيم بالذهاب مع عائلته الصغيرة إلى مكة.. وهناك يبني الكعبة لتكون {أول بيت وضع للناس} آل عمران 96 .

وتنصهر حضارات العراق والشام ومصر في بوتقة التوحيد، وينثال من ذلك المحتد الأصيل والشرف النبيل ذرية طيبة: اسماعيل، واسحاق، ويعقوب والاسباط.. حتى موسى، وعيسى.. ويكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم { رسول الله وخاتم النبيين} الأحزاب 40.

وبعد أربعين عاماً يؤسس الخليل ابراهيم قلعة شامخة وحصناً حصيناً آخر لعقيدة التوحيد يتمثل في «المسجد الاقصى المبارك» الذي ندعو الله له بالخلاص من الصهاينة الذين {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا} المائدة 64.. وأن ينصر هذه الأمة العربية على النماريد والقوارين والفراعين {الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد} الفجر 12.

وفي (مكة) يبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحنيفية السمحة استجابة لدعوة ابراهيم الذي دعا الله بعد أن أنجز بناء الكعبة فقال : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم} البقرة129. ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم « أنا دعوة أبي ابراهيم».. ومع هذا الوعي الثري بالمواقع الجغرافية والمشاهد التاريخية لمناسك الحج، تبدو (الوسطية) من خلال قبلة الصلاة ومقصد الحج في الكعبة الثابتة في مركز ووسط قلب الكرة الارضية لتكون علامة مميزة وسمة ثابتة تشير إلى توازن هذه الأمة واعتدالها لتقوم بوظيفة الشهادة على كل حضارات البشرية {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} البقرة 143 . ونلاحظ أن هذه الآية تقع في وسط وقلب سورة البقرة التي يبلغ عدد آياتها 286 .. وقد وقعت آية (الوسطية) في قلب ومركز السورة كما وقعت مكة والكعبة في وسط الكرة الارضية.

الليالي العشر

يستخدم القرآن لغة الترميز الإشاري أو العددي فمثلاً {التين والزيتون} ترمز لزمن نوح $ و{طور سينين} لحقبة موسى صلى الله عليه وسلم.. و{البلد الأمين} لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ويجيء الرقم «عشرة» في {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} و{تلك عشرة كاملة} و{من جاء بالحسنة فله عَشْر أمثالها} و{فإن أتممت عشراً فمن عندك}.. وغير ذلك.

لكن ما يعنينا هنا هو الليالي العشر التي أقسم الله بها في مطلع سورة (الفجر). فقال : {والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر. هل في ذلك قَسَم لذي حِجْر؟} الفجر 1-5 . وقد علق ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) ص (2) قائلاً: «فهو فجر يوم النحر وليلته التي هي ليلة عرفة، فتلك ليلة من أفضل ليالي العام، وما رؤي الشيطان في ليلة أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فيها، وذلك الفجر هو يوم النحر الذي هو أفضل الأيام عند الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أفضل الأيام عند الله يوم النحر. رواه أبو داؤود بسند صحيح، وهو آخر أيام العشر».

ويمكن العودة إلى كتب التفسير للتوسع في شرح هذا الموضوع الهام مثل (فتح القدير للشوكاني 5/433) أو (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20/39)، أو( البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 8/468)، أو (مجمع البيان للطبرسي 6/160 ).. وغيرهم.

ولبيان مزايا وفضائل هذه الأيام العشر فقد أخرج البخاري في صحيحه (كتاب العيدين) 2/457، والبيهقي في السنن الكبرى 4/284، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام.. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».

أهم الأعمال

مفهوم (العمل الصالح) في الاسلام يؤطر في حناياه كل الممارسات العبادية المخلصة لله وحده والموافقة للشرع المقدس، والنافعة المجدية للفرد وللمجتمع على حد سواء.. ولهذا اقترن (الإيمان) و(العمل الصالح) في اكثر من 300 موضع في آيات القرآن الحبيب، لأن العمل الصالح هو الثمرة الحتمية للإيمان الذي عرّفه الحسن البصري بأنه (ما وقر في القلب وصدّقه العمل).

ولعل أهم الأعمال الصالحة تتمثل في هذه الأيام المباركة كما يلي:

أولاً: الصيام والقيام، فقد روى الترمذي 3/122 وابن ماجه 1/551 عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من أيام احب إلى الله أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة بقيام ليلة القدر».

ثانياً: ذكر الله فقد أخرج الطبراني في الكبير 6/246، والبيهقي 4/284 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من أيام عند الله أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير» وزاد البيهقي «وإن صيام يوم منها يعدل بصيام سنة، والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف».

ثالثاً: صيام يوم عرفة، فقد أخرج مسلم في صحيحه 2/818 في (كتاب الصيام) والترمذي في سننه، عن أبي قتادة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم عرفه، فقال: يكفر ذنوب السنة الماضية والباقية».

رابعاً: ذبح الأضحية: ويكون ذلك في يوم العيد فقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذبح الأضحية فقال: سنّة أبيكم ابراهيم، لكم بكل شعرة منها حسنة، وذلك لأن ابراهيم الخليل قد علم البشرية كلها ان زمن التضحية بالانسان قد تولى إلى غير رجعة.

إن هذه الأيام العشر المباركة تجعل المسلم يعيش عبق التاريخ، وألق الذكريات، ويتذكر موكب الأنبياء الذين قال الله عنهم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} الأنعام 90 .

اللهم داو علتنا، واشف غلّتنا، وبرّد لوعتنا، واكشف كربتنا، وآنس وحشتنا، واغفر زلّتنا، واقبل توبتنا، وأقِِل عثرتنا، وأجب دعوتنا.. آمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله الطاهرين..

مدرس بكلية التربية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى