من التراث الادبي في منطقة يرامس بأبين

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> تعد منطقة يرامس من المناطق التاريخية العامرة بالإرث الحضاري والزراعي والاجتماعي والأدبي، المتميز عن بقية مناطق المحافظة، فقد ذكرت في الكتب القديمة والحديثة، أهمها: كتاب (جزيرة العرب) للهمداني، وكتاب (تاريخ القبائل اليمنية) للأستاذ حمزة علي لقمان.

ما يميزها كثيراً، ويجعلها حافلة بالحياة والحركة مواسم الزراعة والحصاد، ولا سيما موسم (الصيف)، ففي هذا الموسم يزرع (البكر) المتعارف به ليس على نطاق مناطق أبين، بل يأتون لحصاده من محافظة لحج التي تميزت أيضاً في موسم الشتاء بزراعة (الغربة). وهنا في يرامس يعم الفرح والتعاون والتعارف بين الناس، وتسير الحياة بسذاجة الريف وبساطته، بعيداً عن الكلفة والتعقيد والحدود .. وتكثر الأفراح والأعراس في هذا الموسم الخصيب، ويلاحظ الكل العادات والتقاليد في يرامس ومنها: الأعراس التي تقام فيها مراسيم كثيرة أهمها (الشرح) الذي يعد ملتقى أدبياً للشعراء والناس عامة، وهو تهيئة للزفاف، ويستمر أكثر من أسبوع، تقرع فيه الطبول والرقص من قبل الرجال والنساء من بعد صلاة العشاء حتى مطلع الفجر، وقد لاحظ هذه العادات الناس الذين يفدون من خارج المنطقة لموسم الحصاد، ولا سيما الشعراء الذين جاشت مشاعرهم وأحاسيسهم بالارتياح والسعادة، فعبروا عن هذه اللحظات أصدق تعبير، ومن هؤلاء الشاعر الفحل (ابن الدولة ) من منطقة (الحصن - الرواء) يقول:

والحصن ما باه دي اتعبني ونكد بحالي

باسير باحرقه حتى ولا وهي زراعه معانا في الطين

وادي يرامس به العنبا وبه ليم حالي

حلفت ما فارقه لو بايسو لي ثلاثة مراكب مشاحين

والشاعر حيدرة عقيل الفليسي من منطقة (عبر الشبعة) ويدعونه بشاعر الحكمة في السلطنة الفضلية يقول:

روحي بوادي يرامس بتنقصينه طيوره

ومن معه محبوب لا حبه يهون

الرزق علاّ بين السما والمثوره

علوا وجيبوا الرزق يا دي تعلون

فهذه شهادات من شعراء فحول قدامى من خارج يرامس، حلقوا في سمائها وصوروها في حلتها القشيبة آنذاك، وهي شهادات تحفظ وتسجل معها تغير الزمان والمكان، فالشعر ديوان العرب، سجل لأخبارها ومغازيها وأيامها.

وإذا اتجهنا إلى شعراء يرامس في تلك المواسم التي تعقد بالخير والأفراح نرى كوكبة من الشعراء عاشوا تلك المرحلة، جميعهم قد رحلوا (رحمهم الله)، منهم: أحمد عبدالله حسن الحاكم، والدبيشي بن ماطر، وجعبل (أمذيب) وعلوي عمر مبلغ، وزين عبدالحبيب، وعلي بن جابر، وفرج صالح، وآخرون، ولا يسعني هنا إلا أن أقف عند بعض المساجلات الشعرية التي كانت تتم في (الشرح) وهي عبارة عن بدع (بدء) وجواب.

فقد قيل إن بعض شعراء يرامس شاركوا في زواج في منطقة الحصن بدعوة من أحد أعيان المنطقة، وعندما عادوا إلى يرامس مباشرة أحيوا زواجاً، فدارت بينهم في اليوم الثامن من الشرح مساجلات، فقال أحدهم هاتوا آخر صوت وقفتم عليه في زواج منطقة الحصن، فتقدم الشاعر جعبل امذيب قائلاً، بدع:

تعبت وانتي تعبتي يا خيل من حفة الميدان

والحصن ما بعذره شيء لو بايشلوني توكّأ على العيدان

جواب: أحمد عبدالله الحاكم:

يا محسن الشرح وأهله ومحسنك يا غصين البان

أسود كما الليل حالك جابوك من خوره ومن بيحان

لا شي تخفّوا على أحمد وما تخفى بان

خليل من جبر خله وما تمناه بايقع له وهوه طربان

بدع جعبل:

القابله ثوري وثورك باشلهم عطوة الرحمن

بطلق لهم في الخضيرة يغيّبوا من عيون الحاسد الشيطان

بدع الدبيشي:

قال الدبيشي من الله ذا وقتنا ما تخفي بان

يا ذيب تعوي فجاره على الغنم دي تخيلها مع الرعيان

جواب الحاكم:

الناوه المثقلة يا الله عساها على ريبان

ورأس مكعيل شله يسقى المصانع ويسلى قاسم الجردان

بدع جعبل:

يا ليت ليه محبة ولاّ في الأرض لي حبان

باحل في قصر عالي لما يرووني الدولة قبب سيلان

ثم تتغير القافية بحسب الصوت المطلوب للشرح، فيتقدم الشاعر علي بن جابر قائلاً، بدع:

مدّ لي يا البعير الكبير المحمل مدّ لي من حمولك تجمل

دي عليك المقدم متسمل سيرتك كلها الاّ تطراح

جواب الحاكم:

نشروا شرحكم من عشيه واظهرونه مع قرب لصباح

شرع لذياب تسري نام لك نام يا ثعل قواح

يا الهلي رد عقلي عليّه لا تشله مع طيب ورياح

وأن قده من ضري شي ضريه باضربك قفل من غير مفتاح

الدخيلة سقيه سمينه في المداره ترمح ترماح

توكل الاّ ذرة عوبلية مستقرة لسكين ذباح

لقد حاول الشعراء في مساجلاتهم أن يوظفوا الصورة التشبيهية (يا فيل، يا غصين البان، اسود) والصورة الاستعارية (يا البعير، نام يا ثعل، الرخيلة) والصورة الرمزية (ثوري وثورك، يا ذيب تعوي، الناوة المثقلة)، وكانت الصور جميعها توحي بالحبيبة عدا بعض الصور التي توحي بالحبيب (نام يا ثعل، يا ذيب تعوي) وعلى الرغم من الحسن والبهاء الذي تثريه الصور، غير أن الشاعر الحاكم قد عاب على الشاعر علي بن جابر التصريح بذكر الحبيبة في قوله: (مدّ لي يا البعير الكبير المحمل...) حيث شبه الحبيبة وهي حامل بالبعير المحمل، ولم يفهم الناس تلك الصورة الجميلة لعلي بن جابر سوى الحاكم، فقال له: (نشروا شرحكم من عيشه وأظهرونه مع قرب لصباح) فهو عرف - مباشرة- يقصد من النساء اللاتي يشترحن، لذا يعيب عليه التصريح بذلك في أول الشرح ويجيز له في آخره (لصباح).

وهذه هي طبيعة المساجلات مهما كانت الصورة رائعة يحاول الطرف الآخر الطعن فيها، ليظهر حذقه وبراعته.

أما المعجم الشعري، فقد كان معظمه عاميا، غير أنه أثرى المساجلات بالدلالات والصور، فكان معبراً عن المعاني أحسن تعبير، فالمفردة (فجارة) عامية ولا تفسر إلا بالعامية (شبعة) فإذا فسرناها بالفصحى (البغي)، قد تخرج عما أراده الشاعر، لذا تبقى المفردة كما وظفها الشاعر لا نمسها بشيء، فهي تحمل حساسية ودلالة على المعنى أكثر مما تحمله الفصحى في هذا المقام.

وكذلك في الناوة: السحابة، متسمل: البعير الجميل المزين بالحلة الخضراء على مكان الركوب، والقواح: كثير الصياح. فضلاً عن أسماء أماكن في منطقة يرامس (عطوة الرحمن، رأس مكعيل، المصانع، ريبان) فكل مفردة لها دلالة معبرة عن معنى أراده الشعراء.

فذلك نموذج حي للتراث الأدبي في يرامس، ولنا وقفات أخرى - إن شاء الله- مع شعرائها.

وقبل أن أختم أحب أن أذيل هذه المقال ببيت شعري مشهور عن يرامس يتناقله كل أبنائها، وهو صدى لتلك الأصوات المجلجلة للشعراء الذين وفدوا على يرامس وشاركوا في مراسمها وأفراحها، وهو على أصح الروايات للشاعر الدبيشي بن ماطر، إذ قال:

يرامس حن له قلبي وذكرني السلى دي كان

ونا ما بفرقه لو بايسولي في السنة دكان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى