بنك البنوك هل يثبت في اختباره الأول أنه فعلاً كذلك ؟

> د. محمد عمر باناجه:

> بتاريخ 8 ديسمبر 2005م أصيب المودعون والمهتمون بالشأن المصرفي بالذهول والصدمة بعد سماعهم بيان البنك المركزي اليمني، الذي تضمن قراره بوضع اليد على البنك الوطني للتجارة والاستثمار نظراً لعجزه عن الإيفاء بالتزاماته - حسب البيان!

في بلاد تتسم المعاملات المالية بالشفافية في إطار القانون، وتمارس السلطة النقدية صلاحياتها القانونية على أكمل وجه، لا يمكن أن يحدث فيها ما حدث في بلادنا، لأن السلطة النقدية (البنك المركزي) لا يمكن أن يُقدم على اتخاذ إجراء يأتي في المرتبة قبل الأخيرة من الإجراءات العقابية على البنوك التجارية، إلا بعد أن يكون قد اتخذ عددا من الإجراءات السابقة له التي تهدف إلى تصحيح أوضاع البنك المتعثر في أداء عمله قبل استفحال المشكلات لديه، تبدأ - عادة- بالإجراءات الإدارية التصحيحية التي تلزمه بحكم القانون، تقديم العون والدعم لأي بنك متعثر بهدف تجاوز عثراته، فمثلاً إذا كان هناك بنك ما يعاني من شحة السيولة، فإنه يقع على عاتق البنك المركزي تقديم القروض المخصومة له.

وتلي الإجراءات التصحيحية، الإجراءات التأديبية الإدارية والمالية عبر فرض غرامات على البنوك التي تتمادى بارتكاب الخروقات، حرصاً منه (أي المركزي) على أموال المودعين والمساهمين.. الخ من الإجراءات. ولا يصل الأمر بالبنك المركزي إلى اتخاذ قرار وضع اليد إلا إذا اقتنع تماماً أن الإجراءات السابقة لم تؤت أُكُلها. وقرار وضع اليد لا يعني على الإطلاق إشهار الإفلاس، كما فهم البعض في حالة البنك الوطني، بل إنه لا يعدو عن كونه إجراء احترازياً للبنك المركزي، يعفي من خلاله مجلس الإدارة من مهامه ويشكل لجنة لحصر أصول والتزامات البنك ومن ثم تقييمها، وفي ضوء نتائج التقييم يتقرر مصير البنك المتعثر المتخذ بحقه هذا الإجراء - الذي غالباً ما تنص عليه قوانين البنوك المركزية في كافة دول العالم - فإذا كانت أصوله تغطي التزاماته، أو على الأقل هناك إمكانية في الأفق لتأمين ذلك الغرض، فيتخذ المركزي قراراً بإعادة هيكلية البنك (المتعثر)، أما إذا كانت الفجوة بين أصوله وخصومه كبيرة ويستحيل ردمها، ففي هذه الحالة لاخيار أمام البنك المركزي إلا إشهار إفلاس ذلك البنك.

هكذا يُفهم دور البنوك المركزية في دول العالم كافة، أما ما أقدم عليه البنك المركزي اليمني فإنه مفاجأة بكل المقاييس، ولم يقتصر الأمر على المفاجأة بل الأغرب منها، ما ذهب إليه المركزي في تعامله مع الموضوع الذي اتسم بشفافية حذرة لا مبرر لها، وظل - وما زال - يتحفظ على نشر المعلومات كاملة، ولا يضخ منها إلا النزر اليسير بين الحين والآخر عبر بياناته التي- وللأسف - بدلاً من أن تشفع له عند الجمهور المصرفي إقدامه على اتخاذ هذا الإجراء المفاجئ وجدناها تزيدهم ذهولاً وصدمة، وتدفع بتدفق تيار من الأسئلة، التي - ليس فقط - في مصير مدخراتهم، بل والأكثر من ذلك في تحديد المسؤولية الجنائية والمسؤولية الإدارية للشخصيات الاعتبارية والطبيعية التي أوصلت البنك الوطني إلى هذا المأزق، إذا أننا سمعنا عن تحقيق يجري لتحديد المسؤولية الجنائية، ولكننا لم نسمع بعد عن إجراء قد اتخذ بحق المقصرين من المعنيين في المركزي، الذين أسهموا - بهذا القدر وذاك - في هذا المأزق، بعد أن تهاونوا مع الخروقات التي ظل يرتكبها الوطني منذ أكثر من 3 أعوام- حسب بيانات المركزي- دون اتخاذ أي إجراء إداري أو تأدّبي تجاهه، وفقاً والصلاحيات التي خولها له قانون رقم (38) لسنة 2001م بشأن البنوك، إلا بعد أن وقع الفأس بالرأس.

إذا كان ذلكم همّ المودعين، فإن قلق الاقتصاديين ذوي الاهتمام بالشأن المصرفي يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أنهم يرون أن الأضرار المتوقعة جراء قرار المركزي جد خطيرة، ليس فقط على الجهاز المصرفي- كما يعتقد البعض- بل على الاقتصاد الوطني برمته، إذا لم يتم التعامل مع نتائجه بقرارات تراعي معطيات الواقع الاقتصادي الراهن، لأن الكل يعرف أن زعزعة الثقة بالقطاع المصرفي ينجم عنها دائماً تقاطر المودعين إلى البنوك لسحب ودائعهم، فكيف يمكن أن نتصور أثر ذلك في بلاد ما زال فيها الوعي المصرفي متدنياً أصلاً؟ لا أشك أن النتيجة ستظهر بزيادة مضطردة في العملة المتداولة وتقليص مضاعف في الودائع، الأمر الذي سيلقي بظلاله تبعاً - وبالضرورة- على متغيرات الاقتصاد الكلي من خلال التجليات التالية:

- تقليص الموارد المتاحة من قبل البنوك للإقراض بغرض الاستثمار وبالتالي انخفاض معدلات الاستثمار.

- انخفاض الودائع في البنوك يعني انكماش تضاعف الودائع- خلق نقود الودائع - الأمر الذي يؤدي إلى تقليص الاحتياطيات المصرفية المدعومة بمستوى معين من الودائع، وبالتالي تخفيض القاعدة النقدية (النقود ذات الطاقة العالية)، التي تعتبر من المصادر غير التضخمية لتغذية العرض النقدي.

- ارتفاع قيمة معامل العملة إلى الودائع (ع / و) نتيجة سحب الودائع وتحويلها إلى عملة، سيؤدي إلى انخفاض قيمة مضاعف النقود، وسيؤدي تبعاً لذلك إلى تقليص العرض النقدي في ظل قيمة معينة للقاعدة النقدية. وانخفاض المضاعف زايد انخفاض القاعدة سيؤدي إلى تقليص أكبر في العرض النقدي.

هنا يجد البنك المركزي نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، إما إحداث تغييرات جذرية في سياسته النقدية، وهذا كلفته باهظة وأثره لا يظهر بالأفق القريب، وإما ضخ مزيد من أوراق البنكنوت (العملة) إلى السوق لمجابهة أزمة ودعم النمو في العرض النقدي لمواءمة معدلات النمو الاقتصادي المنشود.

وهذا يعني العودة من جديد إلى المربع الأول الذي بدأ من الإصلاحات النقدية في 1995م بعد الفورات التضخمية الكارثية التي شهدها الاقتصاد اليمني في عامي 94- 1995 .

لعل هذا التوضيح المُبسّط لكفيلٌ باستجلاء مدى خطورة القرار الذي اتخذه المركزي فيما إذا ما تم التعامل مع نتائجه بنظرة قاصرة لا تراعي تدني مستوى الوعي المصرفي ولا حالة الاقتصاد اليمني المهدد- أصلاً- من كل جانب باشتعال وقود التضخم.

تأسيساً على ذلك فإن أي معالجة للخروج من المأزق ينبغي أن تكون في إطار تعزيز ثقة الجمهور بالقطاع المصرفي وعلى البنك المركزي أن يثبت للجميع بأنه - ليس فقط - بنك الدولة، بل وأيضاً بنك البنوك، وأذكر هنا أن تقديم القروض المخصومة، وتوريق قروض البنك الممنوحة للغير أو بيعها بسعر أقل لبنوك أخرى من الخيارات المتاحة للخروج من المأزق.

أستاذ مشارك الاقتصاد المالي والنقدي جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى