عفواً أيها العلم

> د. محمد عمر باناجة:

>
د. محمد عمر باناجة
د. محمد عمر باناجة
ليس بخاف على أحد أن مبلغ نجاح الأمم وتقدمها أضحى مرهونا أولاً وقبل كل شيء بموقفها من العلم والتعاطي مع منتجات المعرفة. بيد أنه بالرغم من إدراك الجميع لتلك الحقيقة إلا أن مظاهر الاستخفاف بالعلم ما برحت تتجلى في سلوكيات نفر من الناس ممن أخذتهم العزة بالإثم فأبوا إلا أن يتمادوا في غيهم ويبتدعوا من الأساليب والمداخل كل ما يسيء للعلم وأهله.

والإساءة للعلم إن كانت مصيبة ووبالا أياً كان مصدرها، فالمصيبة تصبح أعظم والوبال يصير أعم عندما يتم تأسيس هذا الموقف والتشريع له.

ذلك للأسف الشديد ما حدث في بلادي في غفلة من الزمن عندما تم التجني على مؤسسة الجامعة والتخطيط لاغتيال خصوصيتها بالإجهاز على تشريعات ونظم كانت قد راعتها، وجسدت الرغبة والفعل العقلاني للدولة نحو ترسيخ احترام العلم ومؤسساته، واستُبدلت بها تشريعات تنتزع تلك الخصوصية من سياقها الطبيعي وتجسد قمة الإساءة للعلم بل وتنسف كل التقاليد الأكاديمية المكتسبة لديها والمتعارف عليها في كل جامعات العالم.

ففي حين يتم رفض مشروع قانون الاستقلالية المالية والإدارية للجامعات أكثر من مرة نجد أنه يتم إلغاء التشريعات الخاصة بالجامعات بمجرد سنوح الفرصة، حيث ألغي تباعا مبدأ انتخاب عمداء الكليات ورؤساء الأقسام العلمية، نظام الأجور والمرتبات، ونظام الإحالة إلى التقاعد (وإن كان على ما يبدو قد علق أمره). ويتجه العزم حاليا صوب الإجهاز على نظام الترقية (الذي يتم وفق آلية متبعة في كل جامعات العالم)، بعد أن أعلنت الخدمة المدنية عدم اعتمادها لأي ترقية إلا بعد المرور عبرها. وهكذا يراد اختزال نشاط 4 هيئات علمية بكافة أعضائها (مجلس علمي بالكلية، مجلس الكلية، المجلس الأكاديمي بالجامعة، مجلس الجامعة)، بتوقيع شخص واحد فقط من وزارة الخدمة المدنية. تصوروا إذن إلى أي مصير تقودنا البيروقراطية الطاؤوسية؟!

ولما تم التغاضي عن تلك الأمور حصل التمادي، وإلا كيف نفسر الاستعجال باتخاذ تلك الإجراءات السمجة وغير القانونية بحق ما يزيد عن 120 من أعضاء الهيئة التعليمية ممن أرسوا مداميك مؤسسة الجامعة في اليمن، التي لاقت استنكارا واسعا من قبل الرأي العام ليس فقط لخلوها حتى من لمسة وفاء لمن نذروا أنفسهم لخدمة العلم بل أيضا لخلوها من أي سند قانوني، كما ثبت بحكم المحكمة.

نعم انتصر القضاء للحق الشخصي لهذه النخبة بإطلاق رواتبهم لكن ذلك ليس نهاية الحكاية ولا أصل القضية، فهم ونحن وكل منتسبي مؤسسة الجامعة في اليمن ومحبي إعلاء مكانته بالعلم مازلنا ننشد انتصارا آخر. انتصار للموقف العقلاني من العلم، انتصار لخصوصية مؤسسة الجامعة التي يراد اغتيالها بحجج ليست فقط عديمة المنطق بل هي أيضا تتناقض مع اتجاهات وسياسات وزارة التعليم العالي الرامية إلى تحسين معايير الاعتماد الأكاديمي وتجويد مخرجات التعليم العالي في بلادنا.

إذن هنا قضيتنا قضية الموقف من العلم، وليس - كما يُصوَر لنا - قضية الرواتب الموقوفة وإن كانت هذه نتاجاً لتلك.

إن الإحالة إلى التقاعد مسألة لا خلاف فيها، فتعاقب الأجيال والإحلال سنة من سنن الحياة .لكن عندما يأتي ذلك في إطار التفكير العقلاني والأسس المنطقية التي لا يمكن تعميمها على المشتغلين في الحقل الإبداعي الفكري والحقول الأخرى على حد سواء.

أما القرار الانفعالي بالإحالة الجماعية إلى التقاعد على ذلك النحو الذي أريد له أن يتم فهو استخفاف صارخ بالعلم وخطره على التعليم والتنمية لو تعلمون عظيم.

للاستدراك

بحسبة يسيرة لعدد السنوات التي يقضيها المرء من عمره في التحصيل العلمي بدءاً بالمرحلة الابتدائية، ومرورا بالمرحلة الثانوية، وانتهاءً بالدراسة الجامعية الأولية وما يليها إلى حين حصوله على الدكتوراه نجد أنه في الغالب يتراوح بين 20-25 سنة وإذا أضفنا إليها سنوات ما قبل الالتحاق وما بعد التخرج قبل الالتحاق بالحقل الأكاديمي سنجد أن عمر الفرد سيبلغ ما بين 32-35 سنة قبل أن يلتحق بالعمل في الحقل الأكاديمي، إذن بالمنطق لا يمكن لأي منهم أن يكمل 35 سنة في الخدمة إلا بعد أن يزيد عمره عن 60 عاما بحدود 7-10 سنوات. ما دون ذلك فلن يحظى أي منهم عند تقاعده على ذلك النحو بمعاش كامل 100% . من هنا لا نجد نظاما في أي جامعة في العالم يؤسس للإحالة إلى التقاعد وفقا وانقضاء 60 عاما من العمر، فلماذا في اليمن فقط؟.

والأمر هنا لا ينبغي النظر إليه فقط من زاوية الضيم الذي سيقع على عضو الهيئة التعليمية لأن العمر لم يسعفه لإكمال 35 سنة في الخدمة، بل يجب النظر إليه من زاوية خطورته على التنمية التي تتجلى بالاستخدام السيئ للموارد وانخفاض عائد الدولار المستثمر في الموارد البشرية الذي ما من شك سيصل إلى أدنى مستوياته.

في بحر 30 عاما من عمر جامعة عدن وصل إجمالي عدد الحاصلين على الألقاب العلمية العليا حوالى 20 أستاذا، 100 أستاذ مشارك، الأمر الذي يجعلها من حيث معايير الاعتماد الأكاديمي في درجة دنيا مقارنة بجامعة صنعاء وجامعات عربية.

فهل تصورنا كيف سيكون وضعها في ذلك التقييم بعد أن تفقد، بفعل الإحالة الجماعية الحمقاء إلى التقاعد، أكثر من 120 شخصا من منتسبيها جلهم إن لم يكن كلهم ممن يحملون لقب أستاذ وأستاذ مشارك؟! وخلال كم من السنوات يمكن أن يخلق التوازن والإحـلال النوعي لمصلحة الجامعة؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى