رحيل رائدة الشعر الحر نازك الملائكة

> د. هشام محسن السقاف:

> رحلت بنت بغداد الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة عن 85 سنة قضتها في محراب الشعر ناسكة، فاضت روحها الطاهرة بعيداً عن بغداد والعراق وعن دجلة والفرات، وماتت هناك في القاهرة المعزية - أو قاهرة الشعب المصري كما يحب المفكر أبوبكر السقاف أن يقول -، ماتت بالقرب من النيل - هبة مصر العظيم- على وسادة من حزن وشجن وألم، بعد صراع مرير مع المرض الخبيث، حيث أسلمت روحها لبارئها يوم الخميس الـ 20 من يونيو 2007م، بعد ستين عاما بالتمام من بداية مشروعها الحداثي في الشعر العربي، الذي كان سبقاً في الريادة الإبداعية عندما نشرت قصيدتها الجديدة في المبنى الشعري غير المألوف قصيدة (كوليرا) التي نظمتها في العام 1947م، لتصبح أشهر وأشعر العربيات بعد الخنساء، ولكنها كجدتها التي عاصرت الجاهلية الدينية والإسلام ولم يرق لجهابذة الشعراء في سوق عكاظ أن يعترفوا بريادتها ويدلُّوا قصيدتها - مكتوبة بماء الذهب - في أستار الكعبة، كما هو حال كثير ممن نالوا هذا الشرف من الرجال أمثال: امرئ القيس، والنابغة، والأعشى (ميمون بن قيس)، وعنترة، وزهير بن أبي سلمى، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد.. وغيرهم من الرجال، عانت أيضا نازك الملائكة من الجحود وعدم الاعتراف بريادتها وقيل ما قيل من أن السياب قد سبقها في كتابة قصيدة من الشعر الحر لكنه لم ينشرها في حينها، وأياً تكن الحقيقة فإن الذي لا خلاف عليه هو أن مجتمع نازك الملائكة العراقي والعربي لم يزد على كونه مجتمعاً ذكورياً لا يسمح بريادة المرأة، مثله مثل مجتمع ما قبل الإسلام قبل ألف وخمسمائة سنة. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو هل كانت القصيدة العربية - وحدها - بحاجة لتحريرها من قيود وكوابح الكلاسيكية الخليلية القديمة؟ أم أن العقل الإبداعي العربي كان ومازال في أمس الحاجة لتحريره من كوابح وتراكمات البداوة المزمنة؟ وأياً تكن الحقيقة في أن نازك الملائكة قد كتبت قصيدتها الرائدة (كوليرا) قبل أو بعد الشاعر العملاق بدر شاكر السياب فإن هذه المرأة الانطوائية الحزينة قد فجرت براكين كامنة - أو كانت كامنة - في جوف القصيدة العربية، مكملة زوبعة التجديد في الشعر العربي في العصر العباسي، التي بدأها ذاك الذي يقول:

لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هند

واشربْ مع الورد من حمراء كالوردِ

أو ذاك الذي شغل الناس والزمان القائل:

أنامُ ملء جفوني عن شواردها

ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ

لقد كانت ثورة الشعر في العصر العباسي كافية لأن ترقى بالشعر العربي، وتحرره من البكاء على الأطلال ووصف المفازة والذئب إلى الاقتراب به أكثر فأكثر من روح العصر، وإسقاط الكثير من أحماله الثقيلة التي جرى تدويرها واجترارها عبر قرون بحكم العادة. ثم تظهر بعد ذلك بزمان طويل ثورة شعرية رائدة من أرض العراق نفسه ومن بيت بغدادي محافظ، تَسمّى أهله بـ (الملائكة) لعفتهم ومحافظتهم وتقليدتهم، حيث لا تخرج نساؤهم من بيوتهن إلا إلى بيت الزوجية الجديد، أو إلى القبر، إلا ما كان من أمر فتاتهم الشابة نازك التي أشعلت ثورة أخرى في دنيا الشعر العربي في أربعينيات القرن العشرين، ولم تكتف بقصائد التجديد كاختطاط في بنيان الشعر العربي غير مسبوق بالكيفية التي ظهرت بها قصيدة كوليرا وما بعدها، بل مضت نازك في طريق النقد والتنظير للقصيدة الجديدة، والإيغال في وضع الضوابط لها من خلال كتابها الرائد (قضايا الشعر العربي المعاصر) وكتاب (التجزيئية في المجتمع العربي) و(سيكلوجية الشعر) وغيرها من الكتب، لكن يظل الكتاب الأول تنظيرياً وضابطاً لمقاييس الشعر الحر وقصيدة التفعيلة، ذهبت فيه نازك - من وجهة نظر الكثيرين - مذهبا (خليلياً) إذا جاز التعبير، بتعقيد وتقييد القصيدة الجديدة بجملة اشتراطات لا تقل حديدية عن اشتراطات الشعر الكلاسيكي السابق. ولعل مرجع ذلك كامن في الأساس للموجة الهابطة لمتشاعرين استسهلوا الشعر الحر دون دراية أو موهبة فأساؤوا إليه في مشرق الوطن العربي ومغربه، وهو ما حدى بنازك أن توغل كل هذا الإيغال المعقد في كتابها الفريد (قضايا الشعر العربي المعاصر) لتسد المنافذ (التحررية) في جسد القصيدة العربية الجديدة، دون أن يمنع ذلك تألق قمم عربية شامخة في إتيان مورد القصيدة الحرة كأحسن ما يكون الورود والإتيان ومنهم بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وسعيد يوسف من العراق، ونزار قباني من سوريا وخليل حاوي من لبنان، وأدونيس من سوريا أيضاً، وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي من مصر، ومحمود درويش وسميح القاسم من فلسطين، وعبدالعزيز المقالح من اليمن.. وغيرهم كثير.

ظل الحزن طابعاً يتكرر في قصائد نازك الملائكة، تعبيراً صادقاً عن وضعها النفسي المعقد وحالة الاغتراب الداخلي لشاعرة رأت وعبرت بتلك النبرة الحزينة عن تبدل الأزمنة العربية في وطنها الصغير (العراق) ووطنها العربي الكبير من حالة سيئة إلى أسوأ، تفصح هذه الحالة عن نفسها في دواوين نازك ومنها: (عاشقة الليل) و(شظايا ومرايا) و(قرارة الموجة) و(أغنية للإنسان) وغيرها من الأعمال الشعرية التي جمعت في كتاب واحد. وكان العراق الصوت القادم من قرارة القلب في انفعالاتها الشعرية الحية، تسطره بمداد الروح، ويخرج معها - العراق- إلى الكويت حين ذهبت إليها في خمسينيات القرن العشرين، أو عند مغادرتها العراق إلى مصر أثناء حرب الخليج الأولى لتظل حائرة ترقب أوضاع وطنها المتقلبة، وتصارع المرض الخبيث على مدى السنوات الماضية، قبل أن تسلم روحها للباري العظيم في مصر العربية، والعراق لما يزل في قلبها.

رحم الله الشاعرة العملاقة الرائدة نازك الملائكة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى