دعوة للنقد: قراءة في رواية (زهافار) لياسر عبدالباقي

> «الأيام» جمال الشريف:

> في البدء أستميح كل النقاد عذراً, لأنني سمحت لنفسي بالكتابة عن رواية (زهافار) التي صدرت مؤخراً للأديب المتميز ياسر عبدالباقي, فرغم أنني لست ناقداً, لكنني قارئ يتمعن في الكلمة, في النص الأدبي, وفي وضع الجملة, وصياغة المعنى, وأيضاً في التأمل العميق للشكل أو القالب الأدبي الجميل الذي يسعى في البحث والتفتيش المستمر والدائم لإيجاد مكان مرموق له ومتميز بين الكثير من المحاولات ومختلف المصنفات الأدبية والفنون الإنسانية التي تظهر على الساحة الأدبية كل يوم.

إنها مجرد ملاحظات أضعها, وليس نقداً بالمعنى العلمي والعملي لأساليب النقد المعروفة ومفهومها المنهجي ومدارسها المختلفة، وأيضا ليس هو التحليل الأدبي والطبيعي, أو التتبع النفسي لعناصر الأحداث المتتالية في هذه الرواية (زهافار).. إنه البحث والتحري عن وسائل الإبداع الإنساني الذي يبدو مغايرا وهو يسعى في خلق مقوماته الخاصة والمناسبة لإظهاره مختلفا عن باقي النصوص والمصنفات التي اعتدنا على أسلوبها المألوف في طرح وعرض الأحداث الروائية التي تتناولها، وأيضا ليتمكن ذلك المصنف المغاير من الخروج من ذلك الحيز الضيق للفكر والعقل المحدود والخيال المسترخي والمتردد في ملامسة الواقع المدرك فقط, أو الدوران في فلك الصارم بجمود أو تثاقل.

إنها بلا شك محاولة إعطاء صورة واضحة بعض الشيء عن ماهية الإبداع الروائي وحقيقته, واستشفاف الكثير من الأحداث التي تنجم عنه, وعن محاكاته للواقع, وأيضاً للمكان والزمان, وكذلك الوقائع التي تنجم عنه وتشير إليه.. ومهم جداً أن يكون المبدع جريئاً, يمتلك القدرة الفذة على الطرح لكل تصوراته التي يستخلصها من عمله, وينتهي إليها من خلال تجسيد غاياته وأهدافه التي وضعها, وأرادها من خلال ذلك المصنف الأدبي, دون ذلك الخجل أو التردد، والتي يمتلكها الأديب وتدعم ثبات ورسوخ الفكرة المراد طرحها أو مناقشتها في ذلك المصنف.

والحقيقة, فإن الأسلوب المتميز والمميز للرواية الجيدة والحديثة لايمكن تحديده فقط من خلال رص الكلمات وطريقة تنسيقها داخل سياق الجملة الغنية بالتعابير الفنية الخلابة, والتي تسمح للأديب بالقدرة على الاستفاضة وتوالي الجمل والمقاطع، وأيضا تسلسل الأحداث والوقائع المختلفة والمتتالية على كل المستويات والتي تشكل ذلك النسيج الهائل للأفكار المطروحة والرؤية الخاصة المتفردة لكل أديب يصنع روايته أو مصنفه الأدبي.

ويمكن اختيار الأسلوب أو الشكل وتحديده من خلال النظم والعروض التي يسلكها الأديب والتي تسعى لها الرواية الحديثة وتعرف بالتقنية وخصوصية الصنعة لتتحول إلى مهارة خاصة يمتلكها الأديب أو القاص، ويستطيع بحنكته أن يخفيها داخل سياق النص.

والحقيقة, أن رواية (زهافار) التي بين أيدينا قد اعتمدت منذ بدايتها على ما يعرف بالسرد التشكيلي, ذلك السرد الذي يعتمد على وضع البطل, بطل الرواية, والذي يقوم بمواجهة العالم الموضوعي الذي يبدو له وكأنه ينهار في نظره، ويحاول هو إعادة تشكيله بصورة أفضل, ومن خلال استشراف ذهنه وفكره وحتى رغبته التي ربما تكون محاطة بالضبابية والغيوم.

لذلك نجد في هذه الرواية تقنيات السرد تشكل ذلك النسيج الفني الذي يعكس بواقعية ضياع شخصياتها في شراك المتاهات المختلفة كالحرب والغربة والاستلاب.. لذلك فهي رواية لاتقدم لنا أبطالا حقيقيين بالمعنى الروائي أو الاجتماعي أو السياسي للكلمة.. إنها تعرض لنا شخصيات ضائعة حائرة, شخصيات قلقة ومضطربة, تتعرض لأنواع مختلفة من الضغط والكبت والعنف, واللاإنتماء.. ونستطيع أيضا من خلال ذلك أن نرى بوضوح ذلك التصدع الكبير الذي أصاب الكاتب، وانتقل إلى شخصيته الرئيسة في الرواية.. ومن خلال النتائج الارتجاجية التي سببتها الحرب اللعينة بين الأشقاء، وأعني بها حرب صيف 1994, وما تلاها من الإحساس بالهزائم النفسية والمعنوية والمادية الكبيرة التي كان لها الأثر السلبي على بطل الرواية، وانعكس على شخصيته التي بدت حائرة ومهتزة في تصرفاتها وتعبيراتها, وهي الشخصية المحورية في الرواية.

وأعتقد أن ياسر عبدالباقي نجح في تصوير نتائج الحرب النفسية على مستقبل الإنسان اليمني, ورسم شخصية الإنسان المهزوم بدقة, ولأنه أيضا كان حريصا على النقل الواقعي والموضوعي للأحداث التي مرت بها البلاد من جهة, ولأنه فنان يعي من جهة أخرى استخدام أدواته الفنية, ويدرك صعوبة نقل الجزء الخفي للمشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية في ترجمة معنى الخيبة والإحباط الذي أصاب الإنسان, وعن طريق الكلمات فقط, وفي الوصف والتصوير، فقد اكتفى برسم المظهر الخارجي لبطله, وإظهار سلوكه المنكسر, وتصرفاته المترددة, وإشارة مقتضبة ولغة سريعة، استطاع ياسر تصوير مزاج بطله المتوتر، وطبيعته المنقادة واستجاباته الانفعالية نحو العاطفة, دون التصالح مع العقل من خلال اللا شعور في أعماقه السحيقة, وفي أغوار نفسه المصابة بالجروح والتقرحات الاجتماعية من جراء الحرب التي خاضها دون هدف أو معرفة بتفاصيلها الجانبية.

لذلك, فرواية (زهافار) لاتمتلك أبطالا حقيقيين.. إنهم مجرد ممثلين, يقومون بعرض الأدوار الجامدة التي رسمت لهم بالقلم الرصاص, دون محاولة استخدام الدقة في وضع الألوان المعبرة عن حقيقة العمق والبعد الجمالي للتلقائية في قيامهم بالفعل ورد الفعل الإنساني للحدث من حولهم.. إنهم أبطال مبرمجون, مأمورون بقيامهم بحركات يؤدونها برتابة, وفي تحركهم البطيء داخل أسوار النص والسرد وحدود الرواية التي بدأت تضيق وتنحصر في إيقاع الرتابة والملل, وبرقابة شديدة وصارمة من الكاتب على شخوصه, تصل أحيانا إلى الحصار لهم وسجنهم في رقعة صغيرة محدودة للواقع المفروض على مجريات الأحداث في النص الروائي.. إنهم أبطال يجهلون تماما ماذا يجب عليهم أن يفعلوا بأنفسهم, تجدهم يتحركون خلالها, أعني الرواية, وفي سطورها وهم خاضعون ومستسلمون لمصيرهم, ومكثفون بما يشير عليهم الكاتب من القيام بالحركات التي يريدها أو التوقف عنها.. إنهم حقا قانعون بأدوارهم تلك، ليس لهم من رغباتهم شيء.. فقط هي رغبة الكاتب التي تبدو واضحة من خلال سيطرته عليهم، الأمر الذي يمنعهم ويحرمهم إبراز جوانب شخصياتهم المتعددة والمناسبة في توافقها مع الحدث, أو الأحداث الجارية من حولهم.

إنني أرى بوضوح ذلك التوجيه الصارم, ومحاولة الإمساك بزمام الأمور بشكل مفرط في النص.. الأمر الذي يجعل معرفة الكاتب بكل الأمور والأحداث في السرد الروائي أشبه بالفعل الخارق أو الأمر المستحيل على استطاعة الإنسان الطبيعي وقدرته المحدودة والممكنة وتواجده في الأماكن المتعددة في نفس الوقت والإحاطة والعلم بكل الأحداث المختلفة وبوقت واحد, وكأنه إله وليس بشرا عاديا يروي حكايته المنقولة عن الواقع.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى