الانتفاضة الثالثة في الضفة وبشائر الانتصار في غزة

> عبد الباري طاهر

>
عبد الباري طاهر
عبد الباري طاهر
للأسبوع الرابع تواصل مكنة الحرب الإسرائيلية الحرب الشاملة ضد غزة المحاصرة المحرومة من الغذاء والماء والكهرباء.. خلال بضعة أيام يقتل أكثر من ألفي قتيل كلهم من النساء والأطفال والعجزة – من المدنيين-، ويجرح ويهجّر الآلاف.
يقف الغزاوي معزولاً عن شقيقه العربي، ومحروماً من الدعم والتأييد والتعاطف، والإرادة الفلسطينية الحاكمة غير موحدة، والخيارات مختلفة لدى السلطة وحماس.. أما الأمة العربية فغارقة في مآسيها، و(لكل منهم – اليوم- شأن يغنيه). وأهم الدول العربية موقفها حيادي إن لم يكن أقرب إلى إسرائيل.
لا تستطيع القوة الإسرائيلية رغم جبروتها اقتلاع شعب فلسطين في غزة أو هزيمة المقاومة .
اختارت إسرائيل (لحظة شر) – حسب تعبير (غارسيا ماركيز) – لتدمير غزة، وفرض الاستسلام على المقاومة والشعب الفلسطيني، وقطع الطريق على إعادة اللحمة الفلسطينية بين السلطة وحماس، وابتلاع الأرض الفلسطينية كلها، بل وتسيد المنطقة العربية من الماء إلى الماء.
خلاف حماس مع النظامين المصري والسعودي، وتدهور تحالفها مع إيران وسوريا وحزب الله قد أغرى الصقور الإسرائيلية بشن الحرب على غزة، وتدمير أحيائها، وتخريب بنيتها التحتية، وتهجير وتقتيل أبنائها في ظل غياب عربي وانقسامات غير مسبوقة تتحمل سياسات القيادات الفلسطينية جزءاً منها، لكن علينا التمييز بين ما يجري في غزة من حرب إبادة ضد الإنسانية وبين الخلافات الحزبية والسياسية بين أحزابنا ونظمنا؛ فالقضية الفلسطينية أكبر من الخلافات العربية العربية أو الفلسطينية الفلسطينية أو بين الاتجاهات السياسية والفكرية.
الرهان على (موت) الشارع العربي رهان خاسر خصوصاً في مصر؛ فالشعب المصري يرتدى همود النيل، ولكنه إذا انطلق فلا يستطيع شيء أن يقف في طريقه - كقراءة جمال حمدان.
إسرائيل صنيع القوة؛ فهي الابنة الشرعية للجيش الإسرائيلي، وقوة إسرائيل المدججة بالأسلحة النووية تحرص ويحرص معها الاستعمار الجديد والإمبريالية الأمريكية على تفوقها على الجيوش العربية مجتمعة، بينما تحرص النظم العربية على بناء جيوش كرتونية وظيفتها الوحيدة والأساس قهر شعوب الأمة وتغييب إرادتها؛ فهي أساساً موجهة لحرب الداخل فقط، وعيون قياداتها (الأشاوس) على السلطة أكثر من أي شيء.
استطاع الجيش الإسرائيلي هزيمة جيوش دول عربية خلال بضعة أيام في حربين شهيرتين، وحققت جيوش مصر وسوريا انتصاراً جزئياً ولم يكن حاسماً، وكانت نتائجه مخيبة للآمال.
المقاومة الفلسطينية طاولت الجيش الإسرائيلي وقبلها كتائب عز الدين القسام، ولكن لاعتبارات عديدة داخلية وخارجية قومية ودولية بقي الكيان الصهيوني وتمدد عقب هزيمة 67 إلى الضفة والقطاع، وكانت بداية الانتصار الحقيقي الانتفاضة الأولى 87 والثانية 89.
كانت الانتفاضتان الشعبيتان السلميتان رداً على النتائج الخائبة للكفاح المسلح وما رافقه من أعمال مسيئة للمقاومة والكفاح الوطني، ورداً أكثر على المساومات السياسية غير المدروسة وغير المحضر لها واللا مبدئية أيضاً والتي مثلت تنازلات خطيرة عن الأرض الفلسطينية والحقوق المشروعة.
لقد كرس المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد كتابيه (غزة – أريحا سلام أمريكي) و( أوسلو سلام بلا أرض) نقداً مريراً لهذه التنازلات، كما مثلت تفريطاً في الحق الفلسطيني ومراهنة على السلام الكاذب والخادع، وخلقت أوهاماً أضعفت التعاطف العربي والدولي.
تنازلت قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في الجزائرعام 1975 عن الكفاح المسلح وعن الحق في استخدام السلاح، وهو الحق الذي تقره وتمنحه الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
رفض المناضل الجنوب أفريقي (نلسون منديلا) وهو في سجن (الأبارثيد) التنازل عن هذا الحق بعد مساومات وإغراءات استمرت عدة سنوات.
خلال بضعة أشهر حققت الانتفاضة ما لم تحققه الجيوش العربية أو الكفاح المسلح أو المساومات السياسية والمبادرات والاتفاقات المتعددة الأسماء واللا مبدئية خلال أعوام وأعوام.
تنبأ الفنان الشهير ناجي العلي بالانتفاضة عبر العديد من كاريكاتيراته الرائعة.. الحاج الفلسطيني يجمع في منى الأحجار ويقول: إنه يريدها لرجم الشيطان الحقيقي (إسرائيل) الذي يحتل أرض فلسطين .
أما الثاني حنظلة يحمل صخرة كبيرة وتحته: "وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم"، وقد سميت الانتفاضة بثورة الحجارة.
بنت إسرائيل سمعتها عالمياً على أنها واحدة الديمقراطية في محيط بربري ومتوحش، وجاءت الانتفاضة لتسقط ورقة التوت عن سوءة أبشع نظام فصل عنصري، ولكنها بالقدر نفسه كشفت إفلاس الشعارات الثورجية الخائبة والمساومات السياسية اللامبدئية.
عندما حقق المفاوضون باسم الانتفاضة في واشنطن نتائج مهمة مع إسرائيل فتحت قيادات فتح خطاً سرياً مع الموساد بزعامة أبو مازن، وأوقف تفاوض الداخل الفلسطيني الذي مثله الأكاديمي حيدر عبد الشافي والدكتورة حنان عشراوي، وكانت بداية الالتفاف على الانتفاضة، وإقصاء قياداتها الميدانية في الداخل..
خاضت المفاوضات قناة أمنية سرية من الجانبين: الإسرائيلي والفلسطيني..
ما ميز المفاوض الفلسطيني الجهل الفاضح بالخارطة الفلسطينية، وعدم الخبرة التفاوضية، وعدم الاستعانة بالكفاءة الحقوقية والسياسية، وهو ما يؤكده الباحث إدوارد سعيد، ويشهد عليه الصحفي العربي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقدمته لكتاب : (غزة - أريحا سلام أمريكي) .
كانت القيادات الفلسطينية محكومة بهاجس الخوف من قيادات الداخل، وهي على كل قيادات فتحاوية في معظمها، وذات كفاءة وخبرة، ومن قيادات الانتفاضة، ويصعب التلاعب بها أو الضغط عليها وابتزازها..
عادت هذه القيادة الفتحاوية بزعامة (أبو عمار) إلى الداخل، وتسلمت الإدارة الذاتية تحت الاحتلال، وبدأ الخنق الإسرائيلي والمضايقات والحصار ضدها، وتصاعد قضم الأرض، ونهج الاستيطان، وتجريف الأرض الزراعية، ونهب الموارد المائية، وتدمير الأحياء والقرى، وتهويد القدس، وصولاً إلى خنق الزعيم الفلسطيني أبو عمار بالحصار في ظل صمت عربي مميت حتى استشهاد الزعيم الفلسطيني مسموماً.
بدأت الانتفاضة الثانية، وسرعان ماجرى عسكرتها؛ فتحولت إلى صراع مسلح استطاعت إسرائيل إخماده في الضفة، ليتصاعد في غزة التي تسيطر عليها قيادات حماس التي بدأ بروزها بعد الانتفاضة الأولى، وليست لإسرائيل أي دعاوى فيها.. فالأرض الموعودة تاريخياً لدى القيادات الصهيونية هي: يهودا والسامرة (الضفة الغربية).
عجزت آلة الحرب الجهنمية عن حسم المعركة في غزة، وتمنى شامير أن يغمض عينه ولا يفتحها إلا وقد ابتلع البحر غزة، وانتصرت غزة عبر صمود أسطوري استمر بضعة أعوام.. اضطرت إسرائيل للانسحاب تحت ضراوة الكفاح المسلح (الحق الفلسطيني الذي تنازلت عنه بسخاء قيادة منظمة التحرير في الجزائر عام 1975).
في الضفة الغربية عجزت إسرائيل عن قمع الانتفاضة، وظهرت صورتها كوحش يفتك بالأطفال الفلسطينيين، وقتل المئات والآلاف في الانتفاضة (البداية الحقيقية للربيع العربي) في الأسابيع الأولى للانتفاضة سئل (إسحاق رابين) عن ثورة الحجارة فقال: إنها لعبة أطفال سيقضي عليها خلال شهر أو أقل! ومضت الشهور، والانتفاضة تشتد وتتصاعد؛ فسأله الصحفيون: فحدد للقضاء عليها عاماً، ولما انقضى العام، والانتفاضة محتدمة والوجه النازي يزداد بشاعة وقبحاً، أطلق رابين مقولته الشهيرة: "إن الانتفاضة بحاجة إلى جيش عربي" .
عاد أبو عمار وقيادات حركة التحرير الفلسطيني التي لا تختلف كثيراً عن النظام العربي .. عادت بأجهزة أمن متعددة وسلطة أمنية وإدارية لا علاقة لها بنبض الشارع في الداخل الفلسطيني، وكان همها ومسؤوليتها ترويض الاحتجاج الوطني السلمي ضد الاحتلال بعد عجز الغاصب المحتل الإسرائيلي عن قمعه وترويضه .
تشهد فلسطين الآن تمايز شكلين للكفاح الوطني الفلسطيني: المقاومة الفلسطينية في غزة والتي تتشارك فيها ثمانية عشر منظمة، وتتصدى ببسالة للعدوان الصهيوني رغم الخذلان العربي والدولي، وبداية الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية وفي فلسطين الداخل، وهي في جوهرها نضال وطني للخلاص من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ورد أيضا على نهج القيادات الفلسطينية في السلطة المراهنة على عدالة أمريكا وأوهام السلام الإسرائيلي المعمد بالدم..
الشكلان الثوريان: التصدي بالسلاح في غزة، والانتفاضة في الضفة والداخل الفلسطيني نضال مشروع وكفاح وطني يعبر عن روح الربيع العربي الذي نرجو أن يغمر الأرض العربية كلها.
راهن الجيل الأول - جيل 48 - على الجيوش والأنظمة التابعة للاستعمار القديم: فرنسا وبريطانيا، وكانت الثمرة الكريهة نكبة 48، وراهن جيل الثورة القومية على جيوش الثورة القومية؛ فكانت الخيبة الكبرى هزيمة 67، وتمدد المحتل الصهيوني إلى الضفة والقطاع واحتلال الجولان وسيناء وغور الأردن .
بالاعتماد على النفس وعبر المزاوجة بين المقاومة المسلحة في غزة، والانتفاضة الشعبية السلمية في الضفة وفلسطين 48 (فلسطين الداخل الفلسطيني)- سوف تحرر آخر مستعمرة استيطانية محكومة بالاحتلال وبنظام فصل عنصري أقسى وأبشع من (الأبارثيد) في جنوب أفريقيا، وسوف تسقط الرهانات والمساومات الخاسرة التي أعاقت التحرير، وعطلت طاقات الشعب، وخدعت العالم المتضامن لأكثر من ثلث قرن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى