رجال في ذاكرة التاريخ.. صالح فقيه: الجهبذ الذي أخرج القمندان من أسر (المحبة عذاب)

> نجيب محمد يابلي:

> مدينة حبيش: إحدى مديريات محافظة إب، وكانت حبيش تسمى قديما مخلاف الحبيشية في العهدين الإسلامي والعثماني وتتبع قضاء رداع وفي عام 1357هـ سلخ الإمام يحيى حميد الدين من قضاء رداع مخلاف الحبيشية وبعض مخلاف الرياشية وجعلهما ناحية، مركزها دمت.
مساحتها 228كم2 وتعداد سكانها (105) آلاف نسمة بحسب تعداد 2004م.
نجيب محمد يابلي
نجيب محمد يابلي
**السلطنة اللحجية: يعرف العطر الذكر عبدالرحمن جرجرة السلطنة اللحجية في كتابه المرجعي (هذه الجنوب أرضنا الطيبة): “تقع سلطنة لحج بين سلطنة الحواشب واليمن شمالا وغربا وولاية عدن جنوبا، ثم ولاية الفضلي شرقا، ومساحتها تقدر بثمانية آلاف ميل مربع.
تنقسم سلطنة لحج إلى:
1 - منطقة الحوطة.
2 - منطقة طور الباحة
3 - منطقة الشط
4 - منطقة العارة
5 - منطقة كرش
أما منطقة الحوطة التي عاش فيها شاعرنا صالح فقيه، وهي العاصمة، فتشمل: الوهط ودار الأمير وعمران جنوبا والمجحفة والحمراء والثعلب شرقا والشقعة والدكيم شمالا والحبيل والنوبة والشظيف غربا، ومن القبائل التي تسكن هذه المنطقة قبيلة آل سلام والعزيبة وآل البان والمساودة”.
**الولادة والنشأة**
ورد في كتاب (100 شاعر و600 أغنية يمنية) للعطري الذكر أحمد سيف ثابت وسالم علي حجري، يرحمهما الله (ص241): “صالح أحمد فقيه من مواليد عام 1903م في منطقة حبيش لواء إب شمال الوطن، غادرها واستقر في حوطة لحج، وكان قد تلقى دراسته الأولى في المعلامة (الكتاب) وواصل التحصيل في حوطة لحج بجهود ذاتية بعيدا عن الدراسة المنتظمة مقسما وقته بين العمل الشاق الذي اضطر إلى القيام به لتوفير لقمة العيش وبين الدراسة التي ارتبط بها طموحه متحديا الظروف...”.
كما ورد في ديوان صالح فقيه الذي أعده د. علي مهدي كرد ومحمد حسين الدرزي وعمر سعيد لرضي وكمال حسين منيعم (ص13): “نشأ الشاعر صالح فقية يتيما، أتى لحج قبل الحرب العالمية الأولى وعمره يربو على العاشرة فتكفله الأمير علي بن أحمد بن علي محسن العبدلي قبل أن ينصب سلطانًا على لحج (لم تمكث ولايته سوى سنة وبضعة أشهر، حيث قتل كما قيل عن طريق الخطأ على أيدي الإنجليز المتربصين بالأتراك المهاجمين سنة 1915م وهو في طريقه إلى عدن)، لكن أبناء السلطان لم يتخلوا عن صالح فقيه، بل ظل فيهم حتى عام الاستقلال 1967م.
**صالح فقيه مثقف موسوعي**
جاء في مقدمة ديوان صالح فقيه (ص13): “عندما قدم صالح فقيه إلى لحج كان ملما بالقراءة والكتابة، ترعرع في كتاتيبها وأروقة جوامعها وازداد علما واكتسب ثقافته الواسعة التي تميز بها لشغفه بالاطلاع وذكائه اللماح، فعاش كأبناء المنطقة الوسطى متمتعا بتقدير واحترام أبناء الشعب اللحجي، صار صالح فقيه لحجيا تربية ولهجة وعادات، بل أتقن اللهجة اللحجية واستوعب الأمثال الشعبية والقصص والحكايات الشفاهية ونهل بالاطلاع الذاتي، ما ميزه عن أقرانه.
**صالح فقيه مديرا لبلدية دارسعد**
شغل صالح فقيه عدة مناصب رسمية في السلطنة اللحجية العطرة الذكر، وكان آخر تلك المناصب مدير بلدية دارسعد التي سكنها العديد من أبناء السلطنة ومن أبناء عدن وفي غالبها لقضاء إجازة نهاية الأسبوع، وتوسعت دائرة معارف صالح فقيه بأبناء عدن سواء في دارسعد أو في عدن نفسها.
وبحسب كتاب (100 شاعر و600 أغنية) ص 242 فإن “صالح فقيه الشاعر الأديب البارز شخصية متواضعة لطيف المعشر ومحبوب، ولا غرابة أن تتسع دائرة فقيه الاجتماعية من خلال المقيمين في السلطنة أو القادمين إليها من عدن وللسلطنة وعدن حضور مشترك في مناشط عديدة.
مارس صالح فقيه مهام عمله في دار سعد حتى منتصف 1967م، حيث نزح إلى تعز حتى وفاته في العام 1978م، وكانت تعز ملاذاً أو منفى اختياريا لعلي لقمان وعبدالله هادي سبيت وعبدالحميد عبدالكريم.
**صالح فقيه يفك أسر القمندان في (المحبة عذاب)**
كان صالح فقية معاصرا لأمير الشعراء والطرب أحمد فضل القمندان، وكما ورد في كتاب (100 شاعر و600 أغنية) وللتأكيد على مكانته نذكر هذه القصة: “ظل القمندان ثلاثة أيام بلياليها يردد مطلع أغنية (المحبة عذاب) ولم يستطع إضافه كلمة واحدة إلى هذا المطلع، ولما ضاق صدره ونفذ صبره أرسل في طلب صالح فقيه، ولما جيء به قال له يا صالح (المحبة عذاب) فأكملها صالح : (من صابه الله بها صاب) فانطلق القمندان مكملا: (قد كشفنا النقاب يازين ليه التقلاب)”.
**وبعد وفاة الأمير أحمد فضل القمندان (1885 - 1943) تداعى عدة شعراء إلى لحج وألقوا قصائد عصماء في وفاة هذا العملاق، ومنهم صالح فقيه الذي رثاه بقصيدة جاوزت الـ(35) بيتا مطلعها :
مصاب عظيم ما لواصفه حدا
وخطب يفوق القول والحصر والعدا
ويقول:
له الفضل في نشر العلوم فكلنا
مدين لآراء الأمير وما أبدى
عظيم إذا أم العظام بسوحنا
تراه عظيما بينهم علما فردا
**المرشد والقمندان**
كان الرجل الكبير محمد مرشد ناجي (1929 - 2013م) صديقا حميما ومعجبا بالشاعر الأديب المثقف صالح فقيه، والمرشد كمتحدث وكإنسان متميز، ولذلك كنا لا نمل حديثه وما أحلى مجالسه، وحدثني في مناسبات عدة عن هذا الرجل وقال: التقيته عدة مرات في تعز وقلت له مرة: يا حاج الأغنية الفلانية التي ظهرت مؤخراً كلماتها فيها نفس صالح فقيه.. ضحك صالح فقيه وقال: “يا محمد مسحنا بها غبرة”.
كان الجهبذ صالح فقيه يخزن في ذاكرته مواضيع عديدة لم يبح بها من قبل، وقال للمرشد: يا محمد عندي أشياء كثير أشتي أقولها لك، وسنلتقي إن شاء الله وسأتحدث إليك وأخزنها عندك. إلا أن الموت لم يمهل صالح فقيه وغيبه ومات ومعه أسراره، وندم المرشد كثيرا ومات وهو في حسرة على موت صالح فقيه قبل أن يذيع أسراره.
**الدكتورة حفيظة الشيخ وصالح فقيه**
الدكتورة المتألقة دوما حفيظة صالح الشيخ، أمين عام مساعد اللجنة الوطنية للثقافة والتربية والعلوم قدمت الديوان من خلال ست صفحات عرضت فيها الإطار الخاص لصالح فقيه من حيث النشأة والثقافة ومن خلال الإطار العام كالتزام الشاعر بقضايا وطنه وقوميته ودينه ورقة شعره العاطفي وطرقه لمواضيع متفردة كمعايير اختيار الصديق، وما هي سمات الصديق الحق، وجودة فقيه في اختيار وتوظيف الرمزية في شعره: (قال بوفضل) و(قال بوزيد).
**الصورة الشعرية عند فقيه التي هيجت لطفي أمان**
حكى لي أخي وصديقي وزميلي العزيز المغفور له بإذن الله الأستاذ عوض علي باجناح (1935 - 2009م) حكاية ظريفة وهي أنه كان في زيارة معتادة للراحل الكبير لطفي جعفر أمان (1928 - 1971) في منزله بحي القطيع بكريتر في نهاية ستينات القرن الماضي، وقال لصديقه المقرب إلى قلبه باجناح: يا عوض أشتيك تسمع معي هذا المقطع من أغنية (سقى الله روضة الخلان) ومؤلفها صالح فقيه.
**وصلت الأغنية إلى هذا المقطع:
وأطلق سهم من عيناه نفذ من غير ما شفناه
ولا حتى أثر له بان
قتلني والقضا براه لأن الفعل دي أجراه
ولا قارح ولا دخان
يحكي لي الأستاذ باجناح بأن الأستاذ لطفي صرخ عند الوصول إلى هذا المقطع: الله أكبر ما قد شفت صورة مثل هذه الصورة في الشعر العربي.. وبقى يردد ما قاله فقيه.
**رسالة فقيه في (قال بوزيد)**
كان صالح فقيه رحمه الله واسع الاطلاع وصاحب حب ثقافة نوعية صقلت حسه الوطني والقومي والإسلامي، وتجلى ذلك في القصائد الواردة في الديوان، فهذه قصيدته (قال بوزيد) وهي من ألحان عبدالله هادي سبيت ومطلعها:
قال بوزيد جاني علم ما هو سوا
نكد علي صيح اشجاني وعطل مزاجي
يوم قالوا عجمتوا ما تردوا الجواب
ماهكذا كان ظني وا رجال المحاجي
أوصل صالح فقيه رسالته لتشمل مناطق الجنوب الأخرى
عندما قال:
في العبادل ويافع وأهل فضل الرجا
والعولقي والكثيري عادني اليوم راجي
يا (الإمارات) جملة منعكم كلكم
لاترهبوا الموت ما واحد من الموت ناجي
**صالح فقيه رابطي الهوى**
يتضح من قصائد الديوان أن صالح فقيه صاحب مواقف إيجابية تجاه السلوك العام للفرد والدولة والأمة، ففي قصيدته (الشبيبة) (ص 153) حيث يشحذ فقيه همم الشباب في مستقبل منير ويقول:
منهم هم المسؤول عما صابنا عزا وذلا
يا نخبة العرب الكرام وخيرهم فرعا وأصلا
**القصيدة طويلة، ومن أبياتها التي اقترب بها إلى شيخان الحبشي، عندما قال:
يا حبذا شيخان من
حمل اللواء يوما وأبلى
شيخان لا تحزن فأما
النفي بالأرواح أولى
**نرى صالح فقيه يقترب من السادة آل الجفري في قصيدة (شوقي يساري) ص 114 ومناسبتها أنه كان مع السيد محمد الجفري وعدد من السادة آل الجفري والشاعرين أحمد عبدالله باهدى وعبدالله هادي سبيت، واختتمها بهذا البيت:
والماي جاري ومعنا خيرة الصحب من آل بيت النبي حياهم الله ربي
الديوان شمل عددا من القصائد العاطفية والحكمية والوطنية والقومية ومن شعره الحكمي قصيدة (اسأل مجرب) ص 52 وفيها يقدم فقيه عرضا للنفس البشرية في تناول جميل.
صالح فقيه في سجل الخالدين
انتقل صالح فقيه الى جوار ربه في تعز عام 1978م ووري جثمانه الطاهر ثرى الحالمة تعز عن عمر ناهز الـ(75) عاما بعد مشوار مديد قدم فيه ولم يأخذ، تاركا وراءه سؤالا سرمدياً إلى متى سيظل الصمت يطويني؟ وفي اعتقادي أن صالح فقيه رحل وعلى شفتيه عبارة “ملعون أبوك بلد”!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى