ردفــان 64-63م .. تـاريـخ ثـوري مـلـيء بـالـتضحيـات والأمـجـاد

> قائد نصر

> من أين جاءت تسمية ردفان بهذا الاسم؟ بينت عدد من الرويات في كتب عدة منها كتاب الإمام الغزالي أن اسم ردفان يعود إلى شخص اسمه ردفان، سكن في الجبل هو وأخوه صهبان وأخت لهما اسمها أمشورى، وقد حفرت بئر في منطقة الحرور سميت باسمها ومازالت إلى الآن تعرف ببئر أمشورى، ولكن ردفان انتقل إلى حيد ردفان فكان الوافدون إلى هذا الجبل يقولون نطلع حيد ردفان، ويسمون الجبال المحيطة به والمتردافة معه بجبال ردفان، وهي سلسلة جبال شاهقة ومتراصة مع بعضها البعض، ويحد ردفان من جهة الشرق يافع، ويافع الساحل، ومن جهة الجنوب يحدها الحواشب، ومن الغرب الضالع ومن الشمال سلسلة جبال حالمين المحادة.
وفي ردفان واديان هما: وداي صهيب الذي يصب فيه وادي ذي ردم ووادي مجحز والضباب ووادي بنا، وكلا الواديين يصبان في البحر العربي.
حالياً منطقة ردفان تقسم إلى أربع مديريات هي: الحبيلين، حبيل جبر، الملاح، حبيل الريدة.
ردفان ومرحلة الكفاح المسلح
اشتهرت ردفان في تاريخها المعاصر بثورة أكتوبر الخالدة فهي السباقة في إشعال شرارة الثورة، وكان رجالها هم وقودها الأوائل.
سبقت ثورة 14 أكتوبر محاولات عديدة وشرارات عدة لإشعال الثورة، منها معركة جبل الحمراء وسط ردفان مع الجيش البريطاني سقط على إثرها 9 شهداء من أبناء المنطقة.
ويعد جبل (حورية) هو أعلى جبال ردفان حيث يرتفع عن مستوى سطح البحر 1867مترا، وعلى هذا الجبل دارت أعنف المعارك بين الثوار والاستعمار البريطاني.
**(لبوزة) الشهيد الأول والشرارة الأولى**
المناضل راجح غالب لبوزة
المناضل راجح غالب لبوزة

إن ما يفتخر به أبناء ردفان هو تمثال أول شهيد للثورة الخالدة راجح بن غالب لبوزة قائد الثورة وقد قتلته قوات الاستعمار البريطاني في مسقط رأسه في ردفان بمنطقة جبل البدوي، ومن قبلها شارك لبوزة ورفاقه في ثورة 26 سبتمبر في الشمال، والإسهام في قيام الجمهورية العربية اليمنية حينذاك، عادوا بعدها إلى ردفان لإشعال الثورة الأكتوبرية هو ومجموعة من رجال الجبهة القومية حديثة التأسيس، وفور وصول لبوزة أحدث ضجة عند الإنجليز وعملائهم ولما علمت السلطة البريطانية بعودة المجاميع العائدة من جبهات الدفاع عن الجمهورية في الشمال اليمني إلى منطقة ردفان أمرت بضرورة تسليم العائدين أسلحتهم أو دفع غرامة كبيرة، وهو ما جعل لبوزة ورفاقه يلجأون إلى الجبال، وهنا يقال: “إن بعض رفاقه كانوا يسألونه عن بداية الكفاح المسلح”، وهو الخيار الذي أيدته الجبهة القومية.
إلا أن لبوزة رد عليهم بالقول: “علينا أن ننتظر التعليمات”، إذ كان الإعداد للعودة إلى الجنوب وإعداد مناطق تموين قريبة تجري على قدم وساق.
**الأيام الأخيرة للثائر لبوزة**
في أوائل أكتوبر تسلم المقاتل راجح لبوزة رسالة إنذار من الضابط السياسي البريطاني يدعى (مستر ميلان) جاء مضمونها “عليكم عدم العودة إلى الشمال حيث شاركتهم في تأسيس الجبهة القومية وأن عليكم وجماعتكم تسليم أسلحتكم وإلا فستدفعون غرامات باهظة”.
حينها كتب الضابط الإنجليزي المسستر ميلن يعرض فيها تسليم الشهيد لبوزة مبلغا ماليا وعلى الفور استدعى راجح لبوزة رفاقه وأطلعهم على الخبر وطلب رأيهم، فكان الرد هو الاستنكار بالإجماع والرفض التام، وعلى ضوء هذا الاجماع كان رد القائد البطل لبوزة بالقول: “على القوات البريطانية أن لا تتحرك ثلاثة كيلو مترات من معسكر الحبيلين”، وأضاف في رسالته التاريخية “نحن لا نعترف بأمير الضالع ولا بأوامركم ولا نقبل أي تقدم لكم من الجبهة وفوق - الجبهة اسم منطقة في ردفان - والجبهة وأسفل ووادي المصراح وإذا تقدمتم سنقاتلكم، وعن الأسلحة إنما جئنا بهذه الأسلحة لنطرد جيوش الاحتلال من بلادنا وكل من يختفي خلفهم”.
وأضاف لبوزة إلى الرد الكتابي طلقة نارية نوع (شرفاء) وضعها في مظروف الرسالة وحملها إلى الحبيلين المناضل قاسم شائف، بعدها حرض لبوزة الرجال باللجوء إلى الجبال والاستعداد للمعركة.
أمام أمير الضالع ونتيجة للتصعيد بين الإنجليز الذي يعيش تحت حمايتهم وبين لبوزة ورفاقه أضحى ذليلاً، حيث لجأ الأمير شعفل علي إلى عرض إغراءات على الثوار وهو أن يسلمهم مبلغا ماليا قدره 500 شلن للبوزة ورفاقه، وذلك لضمان عدم عودتهم إلى ردفان مجددا إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل والرفض الشديد من قبل لبوزة.
وقد كانت منطقة ردفان حينها تتبع إمارة الضالع وفق تقسيم اتحاد الجنوب العربي المنحل بعد انتصار ثورة الرابع عشر من أكتوبر في 67م، والتي خاض فيها أبناء هذه المنطقة وقبائلها أشرس وأطول المعارك ضد جحافل الاستعمار البريطاني بالرغم من قلة العتاد والتسليح والغذاء لدى الثوار المتمركزين في أعالي الجبال، حيث كانت رصاصة بندقية (العيلمان والكناد) تواجة جبروت وبطش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
لم تكن تعلم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حيذاك بأن بقتلها الثائر (لبوزة) وإطلاقها قذائف المدفعية صوبه ورفاقه ستطلق معها العنان لشرارة الثورة التحررية الجبارة المنصورة.
**ليلة استشهاده**
في مساء الثالث عشر من أكتوبر 1963م استشهد المناضل راجح غالب لبوزة جراء تعرضه لقصف عنيف من قبل مدفعية الاحتلال والمرابطة في المصراح، في ذلك اليوم وقبل الحادثة وصل النبأ إلى وادي (دبسان) بأن قوات بريطانية تحتوي على المدافع الثقيلة تتقدم باتجاه وادي المصراح بقيادة الضابط السياسي المسترميلن، وأكدت معلومة رجل الاستطلاع في مجموعة لبوزة وهو أحمد مقبل ومباشرة أطلق مقبل طلقات نارية تحذيرية في الهواء لكي يسمعها لبوزة وباقي الرفاق، وعندما وصلت تحذيرية مقبل تحرك لبوزه بنفسه هو ورفاقه إلى جبل البدوي أعلى المصراح أي أعلى التقدم العسكري البريطاني، فكانت الملحمة، وكان الاستشهاد الأول والشرارة الأولى، وفي صباح يوم الرابع عشر من أكتوبر أعلنت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن من صنعاء - حديثة التأسيس - استشهاد أحد أبرز مناضليها في قصف الاحتلال البريطاني بردفان، وبهذا يُعد الشهيد راجح غالب لبوزة أول شهيد في ثورة التحرير والاستقلال، وحينها أعلنت القومية بداية الكفاح المسلح ضد الاستعمار في جنوب اليمن المحتل.
**تفجر الثورة المسلحة بوجه الاستعمار**
جنود بريطانيين في ردفان
جنود بريطانيين في ردفان

ومنذ يوم الـ 14 من أكتوبر63م وأصوات المدافع لم يتوقف دويها وتكبيرات الثوار يتردد صداها في أعالي الجبال يوماً بعد يوم، في الوقت الذي كانت فيه جميع مناطق ومدن وقرى وبلدات الجنوب اليمني المحتل ترزح تحت وطأة الاستعمار وهدوء متفاوت ظلت ردفان 6 أشهر تقاوم حتى بدأت روح المقاومة تتفجر في المدن ومناطق الجنوب الأخرى ضد الاستعمار البريطاني. وعن هذه الثورة الأكتوبرية قال الشهيد المناضل علي أحمد ناصر عنتر: “كانت ردفان تقاتل بريطانيا لأكثر من 6 أشهر بمفردها في الوقت الذي لم تطلق فيه باقي مدن ومناطق الجنوب طلقة رصاصة واحدة تجاه الاستعمار في تلك الفترة بالذات”.
**صـمـود**
ومع كل التضحيات التي قدمها أبناء هذه المنطقة في هذه الفترة والتي كانت فيها ردفان يتيمة في ثورتها تقاوم الاستعمار لوحدها لم تعترف الملكة إلزابيث والجيش البريطاني بثوار ردفان، بل أطلقوا عليهم مفردة الـ(المنشقين) ولم تطلق عليهم ثواراً إلا في أغسطس64م حينها أسمتهم بـ (الذئاب الحمر).
وفي هذه الفترة لم تصمت بريطانيا على ما يحدث في ردفان بل أرسلت جيوشها الجرارة لخمد الثورة الوليدة في جبال ردفان.
وتُعد منطقة الذنبة وادي ذي ردم - والتي اشتهرت برجالها الثوار كالشهيد حنش ثابت، والخبجي، والزومحي، وفضل عبدالكريم الداعري، ومحمود ناصر الداعري، والفقيد سعيد صالح سالم - من أكثر المناطق خوضاً للمعارك، حيث شهدت وجبالها أعنف وأشرس المعارك مع جيوش الاحتلال البريطاني، تعرض فيها الساكنون للتهجير إبّان الثورة طوال 4 سنوات، وهو ما تعرض له كل أهالي هذه المنطقة.
وفي الذنبة حدثت أيضاً عدد من المعارك، واحدة منها كانت في صباح يوم 27/1/1964م عندما دخلت سرية من الجيش البريطاني بحثاً عن المقاتلين، وكان حينها عرس في القرية للمناضل ناصر محمد عبد نتج على إثرها اشتباكات بين رجال المنطقة من آل محلا وآل داعر مع السرية وقتل جميع الجنود مع ضابطهم، كما استشهد خلال المعركة المناضل فاضل محمد عبد.
**اندلاع الثورة في ردفان**
كان اندلاع الثورة في ردفان - بقيادة الجبهة القومية - هي بداية المرحلة من الكفاح المسلح الذي استمر ملتهبا طيلة أربع سنوات كاملة مكللاً بالاستقلال من الاستعمار البريطاني الذي دام 129م عاماً ومعلناً عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في الثلاثين من نوفمبر 1967م.
وخلال الثمانية الأشهر الأولى من قيام الثورة المسلحة من عام 64م شنت بريطانيا عمليات حربية واسعة على معقل الثورة وعرين الثوار في جبال ردفان، وأبرز تلك المعارك التاريخية هي (نتكراكر، ورستم، وردفورس)، وكانت تلك المعارك تُعد أكبر معارك في حرب التحرير مع المستعمر البريطاني، اشترك فيها آلاف من الجنود، واستخدمت فيها المدفعية والدبابات والطائرات بكثافة منقطعة النظير.
**الثورة في التقارير الاستخباراتية**
مطار الحبيلين في عام 66م
مطار الحبيلين في عام 66م

الثورة في أول تقرير للمخابرات البريطانية في 28/12/1963م، وبعد مرور ثلاثة أشهر و11يوما من انطلاق حرب التحرير حينها في قمم ردفان أرسل قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط تقرير المخابرات البريطانية إلى لندن جاء في التقرير المطول الآتي (إن آل قطيب وآل محلا (الذنبة) - قبيلتان في ردفان - تدعمهم بالذخيرة والأسلحة اليمن (الجمهوري) وأعداد كبيرة من رجال القبائل في ردفان، وقد أعلنوا العصيان على الحكومة الاتحادية في منطقة جبال ردفان، ويعد عدد المقاتلين في الوقت الحاضر بــ(200) رجل يتفاوت هذا العدد بين يوم وآخر، وهناك حوالي (1000) من رجال القبائل المسلحين في المنطقة لم ينخرطوا معهم بعد، إلا أنه يتوقع بأن أعدادا كبيرة منهم ستدعمهم.
إن أقل سلاح بحوزتهم البنادق والذخيرة، وكثير منهم يحملون البنادق الأوتوماتيكية والقنابل، وقد بلغنا بأن قواتهم قسمت إلى قسمين: قسم منها يقوم بالضرب على المراكز الحكومية والموظفين، والقسم الآخر يقوم بإقلاق أمن طريق عدن - الضالع.
**كما جاء في التقرير أن قبائل ردفان المنشقة في الوقت الحاضر هي:
القطيبي (خاصة الصهيفي، والغزالي، والواحدي) محلائي الذنبة، العبدلي، الداعري (معظمهم)، الحجيلي (معظمهم)، البطري (معظمهم) وهو كما هو موضح في المرجع (كتاب التاريخ العسكري لليمن).
كما يشير تقرير المخابرات البريطانية عن تلقي المنشقين (الثوار) في جبال ردفان دعما كبيرا، بالإضافة إلى الأسلحة والذخيرة من صنعاء، وأن الكبسي قائد لواء إب هو من يشرف على ذلك الدعم.
المهادنة ووقف الثارات بين القبائل
كان ثوار حرب التحرير الأوائل في ردفان يسعون خلال الأشهر الأولى إلى تجميد التناحر بين القبائل لما من شأنه توحيد الصراع ضد المحتل البريطاني، فقد تمكن الثوار من إنشاء الصلح القبلي بين عدد من قبائل ردفان منها: العبدلي، والداعري، والمحلائي آل الشيخ، و حالمين البطري، والقطيبي الضنبري، والقطيبي.
**شهادة تاريخية**
شهد البريطانيون بشجاعة وبسالة أبناء ردفان، وقد كانت تلك الاعترافات في أغسطس من عام 64م حيث أصبح في هذا العام البريطانيون يسمون رجال ردفان ثواراً ويلقبونهم بـ (الذئاب الحمر) وليس (المنشقين) كما كانت في السابق، ومن أبرز ما جاء في تقاريرهم خلال تلك المعارك ( إن شجاعة رجال القبائل وقدرتهم على مقاومة الأسلحة الحديثة قد ظهرتا بشكل مثير للإعجاب في هذه المعركة، فقد شنت طائرات الهنتر سلسلة متتالية من الضرب على مواقع الثوار مستخدمة الصواريخ وقذائف 80مم، ولكنها فشلت تماماً في أن توقف الثوار من إطلاق النيران إلا لبضع دقائق محدودة في الوقت نفسه، حيث سلك الثوار فيها مسلك الفدائيين الحقيقيين.
**خاتمة**
إن ما ذكر من معارك شهدتها ردفان خلال هذين العامين 63 و64م ما هو إلا غيض من فيض مما شهدته هذه المنطقة من معارك، والتي زادت من صلابة الثوار وكبدت بريطانيا الخسائر الكبيرة في العتادة والأرواح والسمعة داخل بريطانيا وخارجها، معارك شرسة واستبسال ثوري أجبر وزير الدفاع البريطاني (دنكن ساندز) أن يأتي في عز أشهر الصيف المحرقة إلى جبال ردفان ليرفع من معنويات جنوده المنهارة في تلك الحرب التي لم يعتادوها من قبل على الرغم من استخدامهم لأحدث التكتيكات الحربية في هذه الجبال، لقد أصبحت ثورة ردفان هي البداية لمرحلة الكفاح المسلح في الريف والمدينة، ولهذا تعرضت لأعنف الحملات العسكرية والقصف الجوي للطيران البريطاني، وخلال حرب التحرير سقط في ردفان وحدها (202) شهيد وما يزيد عن (255) جريحا، بالإضافة إلى اتباع سياسة العقاب الجماعي والتشريد وحرق المنازل، ممارسات وأساليب قاصية لم تزد أبناء هذه المنطقة إلا صلابة وقوة.
إنها ردفان التي تغنى لأجلها الشعراء المغنيين وألّف عنها الكتاب وغيرهم، ولهذا فردفان ليست منطقة جغرافية بل تاريخ ومدرسة للنضال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى