الـهـروب إلـى الـمـوت

> أحمد حمزة

> تتعانق في السماء أصوات دوي المدافع وهزيم الرعد، يهطل المطر مشبعًا بطعم البارود.. وبين الفينة والأخرى تتعالي صرخات الألم الممزوجة بآهات الانكسار.
ومن فناء بيتي القابع فوق الربوة ألمح حشود الفارين من وطيس المعركة، منهم من يستطيعون أن يعبروا إلى الناحية الأخرى ملتحقين بفلول الناجين من زملائهم، ومنهم من تخذلهم آلامهم وجراحهم، يفلتون بصعوبة من بين براثن الموت يجرون وراءهم أذيال الهزيمة، وجوههم شاحبة، ضامرة، وعيونهم زائغة مملوءة بالرعب والارتباك والحيرة، تتبعثر ظلالهم المشوه في كل الاتجاهات، تتبعهم الكلاب الضالة التي تحوم حولهم، تدنو منهم تارة، وتبتعد تارة أخرى، بانتظار أن يضعف أحدهم بسبب جراحه أو تعبه أو جوعه لتنقض عليه وتفترسه.
القليلون منهم يستطيعون الوصول إلى بيتي، كانا اثنين هذه المرة رميا بنظراتهما الواهنة من فوق الجدران المنخفضة نحو الفناء الواسع، فوجداني واقفًا أتطلع إليهم في شفقة، أحدهما قفز من فوق الجدران، والآخر دفع الباب بما تبقى له من قوة ودلف إلى الداخل.
افترشا الأرض تحت أشجار الدوم غير مباليين بالطين والماء الآسن، في البداية طلبا الماء، ثم الطعام، تمتم أحدهما بصوت تطارده حشرجة مكتومة: “لم أرَ الطعام منذ ثلاثة أيام” أكل فغط في النوم، وطلب الآخر سيجارة جذب نفسًا عميقًا، تقلصت حدقات عينيه، رمى الأفق الموحش بنظرة مرتعشة، غاص في بطن التاريخ قبل أن يخرج بحكمة: “هذه حرب بلهاء عبثية لا نهاية لها المنتصر فيها اليوم مهزومًا غدًا” !
ثم نظر إليَّ قائلاً: “أمك قريبتي، هكذا قال لي أبي” .. أومأت برأسي علامة الإيجاب وعيوني الشاخصة إليه تستحثه أن يكمل عله يأتيني بجديد خلاف ما تعودت على سماعه منذ نعومة أظافري.
يستطرد قائلاً: “أما أبيك فمن الجانب الآخر المنتصر اليوم المهزوم غدًا، وأقرباء أبيك ينتظروننا حتى نخرج فأنا أشعر بدبيب أقدامهم، وهم يحومون حول المكان، لن يعمدوا إلى قتلنا هنا احترامًا لذكرى أبيك، تمامًا كما نفعل نحن معهم احترامًا لذكرى أمك”.
ثم أضاف بصوت متقطع: “سأخرج أنا في البداية لا توقظ زميلي الآن دعه يأخذ قسطًا من الراحة قبل أن يلقي مصيره المحتوم”.
يطرق برأسه قليلاً ويقول بصوت خفيض يلفه الحزن: “أتعلم، لدي ثلاثة بنات الأخيرة لم أرها، ولدت وأنا في طريقي إلى هنا”، لتقفز من عينه دمعة قبل أن يشيح ببصره ويتمتم قائلاً: “كأني أشتم رائحة القبر”.
ينهض بصعوبة، يقبل رأس صديقه، ويشكرني على ما قدمته لهما، يعطيني ظهره ويمضي، لحظات ... ويتناهي إلى سمعي صوت رصاصة وارتطام جسده بالأرض.
القدر جعلنا نقطن هذه الأرض، والقدر هو ما جمع أبي وأمي أيضًا، تكمن المشكلة أن كلاً من الفريقين المتحاربين يجزم أن هذه الأرض تابعة له، تعود أصول أمي إلى أحد الفريقين، وتعود أصول أبي إلى الفريق الآخر، ومنذ سنوات طويلة تدور رحى المعارك بينهما للسيطرة على هذه المنطقة، وتارة تكون الغلبة لهذا وتارة أخرى تكون لذاك.
ولأن أبي ينتمي إلى فريق وأمي إلى الفريق الآخر لم يتعمد أي من الفريقين إيذاءنا، ولكنهم تركوا لنا هذه المهمة الصعبة، وهي دفن من يقوم باللجوء إلينا بعد أن يتم قتله بمجرد أن تطأ قدماه أرض الشارع.
ككل مرة أحمل الجثة وأقوم بدفنها في المقبرة خلف الربوة، لا أتقيد بشيء، أدفنهم إلى جوار بعضهم البعض، بلا شواهد أو علامات أو حتى أرقام، أعود إلى البيت منهك القوي أغفو قليلاً قبل أن انتفض على أزيز الرصاصة التالية !!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى