الجاوي الاستثناء

> كتب/ د.هشام محسن السقاف

>
​الجاوي عمر بن عبدالله بن محمد السقاف (1937 - 1997م) من قلائل في الوسط النخبوي السياسي يفيض - دائما - عن حواف الحوض الحزبي التنظيمي والايديولوجي المنتمي إليه، ليشكل وحده حالته الوطنية الخاصة، أكبر من حزب هو... نعم، وحده حزب أيضا.. نعم، وفي كل الأحوال هو حالة من التماهي في «الوطني» الذي عادة ما يضمحل مقابل «الحزبي» أو يبقى تابعا له عند كثيرين من غلاة التحزب... إلا الجاوي.

كان للنشأة في الوهط دورها في الإعداد النفسي للشاب عمر، في وقت كانت المدينة الثانية قد حملت على عاتقها الجوانب العلمية والدينية والتعليمية التي تضاهي - وربما ضاهت حوطة العبادل، باتساق مع دعوات الإصلاح في السلطنة عبر نواد وكتابات ناقدة حفلت بها (فتاة الجزيرة) وبأقلام لحجية تلتقي مع رياح التغيير التي هبت على عدن ولحج غداة الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م). وقد ينسى الناس أن مردود الهجرة (الوهطية) إلى الحبشة قد عاد بآثار رافضة للوضع القائم في السلطنة.

كان الفتية يسبقون زمنهم.. عمر الجاوي وأبوبكر السقاف والرهط المتفوق ممن رضع الأفكار الوطنية والقومية من ثدي المدرسة (الجعفرية) على عهد أستاذ التنوير والتثوير ابن مصر عزت مصطفى منصور أمثال: أحمد سالم عبيد وطه زين أبوبكر ومحمد عيدروس يحيى وعبدالرحمن البصري ومحمد جعفر زين وعلي عبده همام وسالم أحمد معدان ومحمد فضل مطر ومحمد صالح حمدون وآخرون.

في (الجعفرية) يختط الجاوي أولى خطوات مساره مدرسا إلى جانب عزت وأستاذ الفكر الإسلامي النير عمر سالم طرموم والشاعر المفلق حسن علي حسن صاحب قصيدة:
أنا ما حسب حساب الدهر إن مر
رضعت المر من عهد الولادة
وأساتذة آخرون كل كان له شأنه وفضله.

وتستقبل أرض الكنانة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي الوافد الجديد عمر الجاوي، وهي تغلي بمراجل الثورة التي قادها عبدالناصر في كل اتجاهات التحرر من الاستعمار في الوطن العربي وأفريقيا، ليصطف الجاوي على ذلك المنحى الثوري المتقد مع التيارات الماركسية لا على الطريقة الناصرية مما عرضه ومن هم على شاكلته للأذى ثم الطرد من القاهرة بعد أن أفلحت جهود الطلاب من التيارات القومية واليسارية تأسيس أول رابطة طلابية موحدة على مستوى الشمال والجنوب، وكان الجاوي أحد ركائزها الأساسية وتولى رئاستها ابن الوهط محمد عمر اسكندر السقاف.

وعلى منوال رابطة الطلاب في القاهرة أسس الطلاب رابطتهم الطلابية في روسيا وترأسها عمر الجاوي، وكعادته جعل الجاوي الرابطة واجهة للعمل السياسي الموجه ضد الداخل اليمني دون أن يغفل دورها النقابي الطلابي خالقا حركة ديناميكية بين الأوساط الطلابية العربية ومع الجهات الأكاديمية والأدبية الروسية، وظل محافظا على تلك العلاقة حتى وفاته. بينما كنا نرى عدم انسجامه مع التراكيب الحزبية الحاكمة في الاتحاد السوفييتي من خلال مرافقتنا له في معظم زياراته السنوية إلى موسكو أثناء دراستنا هناك.

يقطع عمر الجاوي دراسته ويعود إلى صنعاء بعد قيام الجمهورية واشتداد المعارك مع الملكيين. ويضطلع بدور نضالي بارز سياسيا وإعلاميا وحزبيا لفترة في حزب العمل.
وبرز في معارك الدفاع عن صنعاء إبان حصارها الشهير من الملكيين في الفترة من نوفمبر 1967م وحتى فبراير 1968م وكان أحد القادة المدنيين في الدفاع عن المدينة وشوكة في حلق القادة العسكريين الكبار من أن يعقدوا صفقات مع العدو تؤدي إلى تراخي همة المدافعين عنها وتفت في معنوياتهم.

وكان الجاوي في صميم نشاطه المتنوع يؤسس الوكالة الرسمية، ويعود لموسكو لينجز رسالته لنيل شهادة الماجستير عن الصحافة العمالية في عدن قبل الاستقلال 1967م، ويضع بين أيدينا كتابه القيم والمهم (حصار صنعاء)، وهو ريبورتاج يومي لوقائع الحصار أرخ لمعركة من معارك المدن المحاصرة التي قل أن نحضى بمثله بلغة أشاد بها يوما الشاعر الكبير عبدالله البردوني في سياق حديث معه عن الجاوي في موسكو.

على أجيال اليوم الاقتراب من كنه وماهية (الصوفي) السياسي عمر الجاوي، الذي يتعاطى السياسة بروحانية الوطن وبنبل الأخلاق التي لا تدنسها إفرازات السياسة والحزبية، ويحتفظ بمسافة واحدة من الجميع ضمن طرحه الوطني الثابت الحرية والوحدة والديمقراطية.
وعندما تفيض احتياجات الجاوي الوطنية عن قوالب الأحزاب، يتجه بمهارة القائد المثقف لتوحيد أدباء و كتاب اليمن في اتحاد طلائعي مطلع السبعينيات الماضية ويمضي به قدما نحو مفاهيم الوحدة والديمقراطية والحرية متحديا به السلطتين في صنعاء وعدن.

لقد رسخ الجاوي قيم الديمقراطية كحارس للوحدة التي تمت بين الشطرين في مايو 1990م، ولذلك كانت أولى رصاصات إرهاب الدولة تتوجه إلى صدر الجاوي وتحصد روح رفيقه الشهيد حسن علي الحريبي في سبتمبر 1991م على بوابة دار «الأيام» في صنعاء.
وعندما اجتاحت جحافل الاحتلال الشمالي لعدن في 7/71994م كان صوت الجاوي يتردد من قنوات العالم منددا بذلك الغزو وأن المدينة العريقة تتعرض للنهب والسلب.

وكان في طليعة المشاركين في الهبات الشعبية المبكرة والمظاهرات الرافضة للاحتلال في حضرموت وعدن، وتظل مقالته الشهيرة (سقوط الشرعية في المكلا) واحدة من مقالاته النارية ضد الاستبداد، مما عجل برحيله باكرا في الحادي والعشرين من ديسمبر 1997م.
يقول الجاوي في قصيدة (مرفأ النجمات):

حتى المصابيح التي كانت على اكتاف شارعها
تهاوت في عيوني
تلك المصابيح الهزيلة
من ألف آلاف السنين
تحيا على رئة عليلة
يا ضوئها المهموم
اني أكره الضوء المسجى
كسلان يفلت من مصابيح بلا صوت لها
لا عمر يرجى
يا مرفأ النجمات
ابسط في الدجى
ضوءا لعمري
فانا وشعري
ماتت امانينا
وجف الحرف
شح الدمع فينا
املأ دمي قمرا.. نجوما
فالثلج في قدمي
وقد ماتت بوجداني
قناديل الهموم
وذوت شجوني
أما المصابيح التي كانت
على اكتاف شارعها
توارت في عيوني.


> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى