طه الهندي.. أحلق لك تالوو

> أحمد الجعشاني

>
أحمد الجعشاني
أحمد الجعشاني
في مدينة عدن العتيقه تظل الشيخ عثمان من أهم المدن المثيرة والصاخبة وفيها من كل الأجناس والأعراق والطوائف التي كانت متعايشه الى زمن غير بعيد، فهي مدينة أو ضاحية من ضواحي عدن، بل هي الضاحية الكبرى لضواحي مدينة عدن، وكان من إحدى معالمها سوقها الذي كان اثر وظاهرة ومزار تجوب الناس إليه، وكان محاط بالكثير من المحلات التجاريه والكثير من المقاهي والمطاعم الشعبيه التي كانت حول هذا السوق في وسط المدينة، وفي ذلك الزمن كان يعتبر مفخرة وإنجاز كبير لهذه المدينه.

حين كنت صغيرا، كنت اجد من المتعة والسرور حين أذهب إلى ذلك السوق، وكثيرا ما كان ابي يأخذني معه إلى ذلك السوق، وفي أحيانا كثيرة كان يضعني في محل طه الهندي، بعد ان ينتابني التعب والإرهاق من اللف والدوران في السوق، وفي محل طه الهندي الذي هو عباره عن صالون للحلاقه في وسط السوق كان يوجد سوق للحلاقين، زمان كان السوق غير السوق الان، كان سوق كبير وسط المدينة ومقسم الى مجموعة من الاسواق المتراصة والملتصقه ببعض ومبنية من الحجر الأسود الصلب ومن دور واحد، وكل سوق لديه باب رئيسي في واجهته وآخر في الخلف وبين كل سوق وسوق يوجد باب في وسط السوق مؤدي إلى السوق الآخر مترابطة ببعضها البعض، وكان هناك سوق للتمر وللحم وللأسماك وللخضار وللفواكه ولأدوات الكهرباء والسباكة وللخردة وللحلاقين وللملابس والأقمشة، وكل تلك الاسواق كانت متواجدة في سوق واحد وكبير وطويل وممتد في الشارع الرئيسي حتى آخره في وسط المدينة، وكانت منظمة ومرتبة ونظيفة.

وفي سوق الحلاقه، حيث أنا في صالون طه الهندي في محله الصغير الواقع في زاوية السوق، وأول شيء كان يلفت انتباهي إليه صور الممثلين الهنود والعرب المعلقة في حائط المحل وصورة كبيرة كانت للزعيم جمال عبدالناصر، وقد تكون هي نفس الصورة التي قد تجدها معلقة في محلات كثيرة في ذلك الوقت.
كنت أجلس أمام الطاولة الصغيرة التي عليها المجلات المصورة وأقلب صفحاتها وأمتع نفسي بمشاهدة تلك الصور، وأحاول قراءتها وفك طلاسم تلك الحروف التي تحت الصور وكأنني وجدت متعتي وضالتي فيها، في حين طه الهندي مستمر في عمله مشغولا بالرأس الذي بين يديه، لكنه يتحدث والسيجار في فمه، ثم ما يلبث أن يسحب السيجار من فمه ويضعها على طفاية السيجار فوق الطاولة التي أمامه، ويأخذ رشفة من الشاى البارد الموجود منذ فترة طويلة ثم يعود لسيجارته مرة اخرى، ويواصل حديثه دون توقف بلكنته الهندية التي أحبها الناس فيه، إضافة إلى مهارته في الحلاقة. 

كان طه في ذلك الزمان يعتبر من أفضل وأمهر الحلاقين، ولديه من القصات والتقليعات الجديدة والمعاصرة، كانت موضة العصر حينها مختلف و مميز وله مقولة مشهورة (احلق لك تالوو) فهو من أبناء عدن ومن أصول هندية وملامحه ليس طويلا ولا قصيرا فقامته معتدلة وأسمر البشرة وأنيق جدا في مظهره وعادة يرتدي قميصا أبيض وبنطلونا أسود، لم أراه مرتديا ألوانا أخرى ابدا، وشعره طويل وجميل أسود مسدول، ودائما تراه منعم لحيته ملساء مثل المرايا التي أمامه، وأكثر حديثه عن أحوال السوق وصخبه.

وفي إحدى المرات لم يأت أبي كعادته لأخذي من صالون طه الهندي إلى المنزل لكنه عاد إلى المنزل لوحده ونسي أني كنت معه في السوق، ولكن طه الهندي تكفل بإعادتي الى المنزل، ولم أعلم حينها بأنه يعرف مكان بيتنا، وأن داره قريب من دارنا، وبعدها بسنوات وفي أحايين كثيرة كنت أمر في طريقي بالقرب من دار طه الهندي وأشاهده يجلس على كرسي خشبي صغير وكعادته ينفت الدخان من سيجارته وبيده كوب من الشاي، حتى مر زمن ولم أعد أراه أمام بيته جالس كعادته، ومرت السنوات وتغير الوقت وأصبحت الناس لا تهوي إليه للحلاقة إلا قلة من أصحابه وزبائن له لازالوا يأتون إليه وأبي كان واحدا منهم ظل مستمرا يحلق عنده إلا انا والكثير من الناس بعد أن ظهر جيل جديد من الحلاقين وتغيرت الموضة، وتغير أيضا السوق عما كان عليه، وصار في كل شارع صالون حلاقة، وأقفل طه الهندي محله واختفى من بيته واختفى كرسيه الذي كان يجلس عليه أمام بيته في المساء، كما اختفت كلمته الشهيرة "أحلق لك تالوو".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى