خطاب الموت في الشعر الجاهلي (2-2)

> أحمد الحسين

> ​اللذة والموت
وفي ظل هذه الحقائق التي كونها الشاعر الجاهلي عن طبيعة الموت، وحتميته، وشموله، أيقن أن مواجهة الموت باللذة هي شكل من أشكال التعبير من وجوده، ولهذا دعا إلى فلسفة أو طريقة وجودية في العيش تقوم عناصرها على تحقيق أكبر طاقة ممكنة من المتع الحسية. التي يرد بها على الموت، ويبادر بها المنية:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
على أن مفهوم اللذة لا يقتصر على المتعة الحسية التي تخلق السعادة أو البهجة في النفس فالشاعر الجاهلي إذ يطلب المتعة الجسدية، فإنه يشير من جهة أخرى إلى اللذة المعنوية التي تحققها أفعال هيبة كالشجاعة، والكرم، وبذل المعروف، فهو، يحرص أن يشتري في حياته الحمد، والثناء، لأن ذلك يحقق له متعة في حياته، ويبقر أثره حيا بعد مماته كما يقول عروة بن الورد مخاطبا امرأته:
ذريني ونفسي أم حسان إنني
بها قبل ألا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة تحت صير
وحين نتأمل دوافع الخوف من الموت كما عبر عنها الشعر الجاهلي، نجدها تنطق من إدراك الشاعر أن الموت يحول بين الإنسان، والملذات الحسية والمعنوية، ولولا أن الموت يحرم الإنسان منهما لما وجد الشاعر رهبة في مواجهة المنية:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصر يوم الدجن، والدجن معجب
ببهلنة تحت الطراف المعمد
ولا يغيب عن البال أن الحاح الشاعر الجاهلي على اتنزاع الملذات، واغتنام المكرمات يصور اعتقاده باستحالة الخلود من جهة، وعدم الإيمان بالحياة بعد الموت من جهة ثانية فهو ومن خلال رؤية وثنية، مادية يؤمن بالحاضر المدرك على حساب المستقبل المجهول وهذا ما عبر عنه طرفة إذ قال:
كريم يروي نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غدا أينا الصدى؟

 الموت النفسي
وخطاب الموت في الشعر الجاهلي لا يقتصر على موت الجسد فحسب فهنالك نلمح إشارات إلى معنى الموت النفسي، وقد ناقش أكثر من شاعر هذه الفكرة، وقارنوا بين موت الجسد، وموت النفس، وبدا لهم أن موت النفس أقسى، وأشد مرارة من فناء الجسد على نحو ما يذكر عدي بن وعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الإحياء
إنما الميت من يعيش ذليلا
سيئا باله، قليل الرجاء
والمعنى الذي يريده الشاعر هنا أن الذليل عاجز من تحقيق وجوده، إذ هو مسلوب الإرادة والحرية، وهو بالتالي لا يختلف من الميت، بل يزيد عليه في معاناته، وإحساسه بالدونية، والإذلال لأنه حي، ويعيش بين الناس.
والموت المعنوي الذي نبه إليه الشعراء الجاهليون يشكل منعطفا خاصا في إدراك معاني الموت، ونلاحظ أن الاهتمام بفكرة موت الروح أخذت اهتماما واسعا في نقاشات الفلاسفة، وتأملات المفكرين، وأصبحت هذه الفكرة موضوعا أساسيا خاصة لدى شعراء الرومانسية الذين تفنوا بالرود وموتها في قصائدهم الشاكية، ومناجاتهم الذاتية.
وتجدر الإشارة إلى أن الموقف من الموت لم يكن ثابتا. فهو يتبدل من طور إلى آخر، وكما وجدنا أكثر القصائد الجاهلية تصور كره الموت، وتعبر عن الرغبة في الحياة، ودوامها فإن بعض النصوص تحمل موقفا آخر، يبدو من خلاله الشاعر وقد ضاق بالحياة، فهو يشكو طولها، ورتابتها المملة بلا معنى.
وغالبا ما تكون هذه التحولات مرتبطة بأطوار نفسية، وزمنية يمر بها الإنسان ولا سيما حين تداهمه الشيخوخة، ويصل إلى مرحلة أرذل العمر، وما يصاحب ذلك من تغير الزمان وتبدل الأقران، وعندئذ تفقد الحياة معناها، ويصاب المرء بالسأم، ويشعر أن حمل الحياة أصبه عبئا ثقيلا كالذي نجده في قول المستوغر بن ربيعة:
ولقد سئمت من الحياة وعلوها
وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مئتان لي
وزددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إلا كما قد فاتنا
يوم يكر، وليلة تحدونا
ولعلنا مما سبق نكون قد وقفنا على جانب من خطاب الموت في الشعر الجاهلي، وقفة موجزة بدا لنا من خلالها أن الشاعر الجاهلي قد ساغ لنا رؤيته للموت على أنه حتم، يشمل الناس كافة، ولا مطمع للإنسان في خلود يرتجى.
وكانت تلك التصورات والتأملات التي عبر عنها الشاعر الجاهلي وثيقة الصلة بالحياة البدوية وبينتها الفكرية التي تقوم على التجربة، دون التوغل في متاهات الفكر، والمناقشات الفلسفية العميقة التي تبحث في عالم الموت الغامض والمجهول. ولهذا لا نجد غوصا في طبيعة هذه الظاهرة ولا تصورا عن إمكانية الانتصار على الموت بالبعث. والحياة الثانية كما جاء في الديانات التوحيدية وهذا ما جعل صورة الموت قاتمة، ورحلة الموت نهائية لا عودة لغائبها، وبذلك يمكن أن ندرك عمق الجزء النفسي الذي يسري في أعماق الشاعر الجاهلي في مواجهة فكرة الموت، والتعبير عنها في قالب مز الحكمة الشعرية، والخطرات التأملية المتشحة بالقلق، وهواجس الخوف والاضطراب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى