غزوات وأحداث رمضانية

> إعداد/ هاشم الخضر السيّد

>
معركة البويب
امتلك المسلمون الفاتحون قوة دفع كبيرة جعلتهم يخرجون بالدين الإسلامي من حيز الجزيرة العربية إلى العالم رغبة في نشر هذا الدين، ورغم ضعف الإمكانات فإنهم استطاعوا أن يواجهوا أكبر قوتين في العالم في وقت واحد، وأن يخوضوا ضد الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية حروبا متزامنة وعلى جبهات متعددة، وأن يحرزوا انتصارات باهرة في الوقت ذاته.
وقد لعب الإسلام دورا بارزا في هذه الانتصارات؛ لأنه أعطى العرب القوة النفسية لقتال هذه القوى الكبرى؛ إذ كان العرب يعيشون على أطراف العراق والشام، وكانوا أشبه بالمرتزقة قبل الإسلام؛ فلما جاء الإسلام استطاع أن يغيرهم تغييرا جذريا في وقت قياسي.

تذكر كتب السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل طلبا للنصرة والحماية حتى يبلغ الإسلام، وكان ممن عرض عليهم ذلك بنو شيبان بن ثعلبة، فأخبره سيدهم «مفروق» أنهم «يؤثرون الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله».
فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ودار حديث طويل بينه وبينهم، وكان فيهم المثنى بن حارثة، وكانوا يلقبونه بشيخ الحرب في شيبان، وكان مما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم: «وإنا (بنو شيبان) إنما نزلنا بين صَرَيين؛ أحدهما اليمامة، والآخر السمامة»، فقال له النبي: «وما هذان الصريان؟» فقال المثنى: «أنهار كسرى، ومياه العرب؛ فأما ما كان من أنهار كسرى؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى؛ أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا».

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: «اللهم فلك ذلك».
ولم يمض وقت طويل حتى أسلم المثنى بن حارثة، وأسلمت شيبان وغالبية العرب التي كانت تقيم في السواد (منطقة العراق).

عندما أسلم المثنى بن حارثة كان يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فسأل عن المثنى، فقيل له: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد».
ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: «يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس»، فكتب له الصديق عهدا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أسلم قوم المثنى، وعندما أرسل الصديق خالد بن الوليد إلى قتال الفرس كتب إلى المثنى يأمره بالسمع والطاعة لخالد، وعندما أُمر خالد بن الوليد أن يتوجه للقتال في الشام (في ربيع الآخر 13هـ= نوفمبر 634م) قال للمثنى: «ارجع رحمك الله إلى سلطانك». فأقام المثنى بالحيرة. وفي سنة 13هـ قام حاكم الفرس الجديد شهربراز ابن أردشير بتوجيه جيش كبير لقتال المثنى بقيادة «هرمز جاذويه» في 10 آلاف، فخرج المثنى من الحيرة وأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه، وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتابا‏، جاء فيه: «‏إني قد بعثت إليكم جندا من وحش أهل فارس إنما هم رعاء الدجاج والخنازير».

فكتب إليه المثنى‏:‏ ‏»‏إنما أنت أحد رجلين؛‏ إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك».
تقابل المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم الفرس وتبعهم المسلمون إلى المدائن يقتلونهم‏.‏ ومات شهربراز لما انهزم هرمز جاذويه، وحدثت صراعات على الحكم في فارس شغلتهم نسبيا عن قتال المسلمين.

وعندما استقر الحكم في فارس كتب قائد الفرس الشهير «رستم» إلى الفرس أن يثوروا على المسلمين، وبعث جندا لقتال المثنى في الحيرة، وتوالت ثورات الفرس على المسلمين؛ حتى إن المثنى ترك الحيرة وعسكر في مكان بعيد بقواته حتى لا يؤخذ على غرة.
وعندما رأى المثنى البطء في الاستجابة للنفير قام خطيبا في الناس فقال: «أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه؛ فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعده».

وطلب المسلمون من عمر أن يولي على الجيش رجلا من السابقين في الإسلام والهجرة، فأبى ذلك، وقال: «والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا‏»‏، فأمّر أبا عبيد الثقفي على الجيش، وقال له‏:‏ اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى تتبين، وفي التسرع إلى الحرب ضياع، ولكن الحرب زبون، وإنه لا يصلح لها إلا الرجل المكيث‏».
كانت أنباء هزيمة الجسر ثقيلة على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب ظل أشهرا طويلة لا يتكلم في شأن العراق؛ نظرا لما أصاب المسلمين هناك، ثم ما لبث أن أعلن النفير العام لقتال الفرس في العراق؛ فتثاقل الناس عليه، وعندما رأى ذلك قرر أن يسير هو بنفسه للقتال والغزو، فأشعل سلوكه ذلك الحماسة في قلوب المسلمين، فقدمت عليه بعض القبائل من الأزد تريد الجهاد في الشام، فرغبهم في الجهاد في العراق، ورغبهم في غنائم كسرى والفرس، وقدمت عليه قبيلة بجيلة، واشترطوا أن يقاتلوا في العراق على أن يأخذوا ربع الغنائم التي يحصلون عليها، فوافق عمر، وبدأت الجموع المجاهدة تتوافد على المثنى، الذي لم يكف عن ترغيب العرب في الجهاد.

واكتملت قوات المسلمين تحت قيادة المثنى بن حارثة، في مكان يسمى «البويب» (يقع حاليا قرب مدينة الكوفة)، وكان نهر الفرات بين الجيشين، وكان يقود الفرس «مهران الهمداني» الذي أرسل إلى المثنى يقول له: «إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم»، فرد عليه المثنى «أن اعبروا أنتم إلينا». وكان ذلك في (14 من رمضان 14هـ = 31 من أكتوبر 1635م). ويرى بعض المؤرخين أنها وقعت في رمضان سنة 13هـ، إلا أن تتبع ما وقع من أحداث في العراق يجعل الرأي الأقرب للصواب هو 14هـ.

وقد أمر المثنى المسلمين بالفطر حتى يقووا على القتال، فأفطروا عن آخرهم، ورأى المثنى أن يجعل لكل قبيلة راية تقاتل تحتها؛ حتى يعرف من أين يخترق الفرس صفوف المسلمين، وفي هذا تحفيز للمسلمين للصمود والوقوف في وجه الفرس. وأوصى المثنى المسلمين بالصبر والصمت والجهاد؛ لأن الفرس عندما عبروا إلى المسلمين كانوا يرفعون أصواتهم بالأهازيج والأناشيد الحماسية، فرأى المثنى أن ذلك من الفشل وليس من الشجاعة.

ونظم المثنى جيشه، وأمرهم ألا يقاتلوا حتى يسمعوا تكبيرته الثالثة، ولكن الفرس لم يمهلوه إلا أن يكبر تكبيرة واحدة حتى أشعلوا القتال، وكان قتالا شديدا عنيفا، تأخر فيه النصر على المسلمين، فتوجه المثنى إلى الله تعالى وهو في قلب المعركة بالدعاء أن ينصر المسلمين، ثم انتخب جماعة من أبطال المسلمين وهجموا بصدق على الفرس فهزموهم، وعندما استشهد «مسعود بن حارثة» وكان من قادة المسلمين وشجعانهم وهو أخو المثنى قال المثنى: «يا معشر المسلمين لا يرعكم أخي؛ فإن مصارع خياركم هكذا»، فنشط المسلمون للقتال، حتى هزم الله الفرس.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى