«الأبنودي وناصر وأنا»

> إسكندر شاهر - 07 سبتمبر 2013

> "ذات صباح قاهري اتصل بي الصديق الرئيس علي ناصر محمد، طالباً أن أرافقه إلى مدينة الإسماعيلية لزيارة الكاتب والشاعر العربي الكبير عبد الرحمن الأبنودي، فما كان مني إلا أن رحبت بهذا الطلب الذي يشكل فرصة رائعة للالتقاء بصاحب (السيرة الهلالية) وتجاذب أطراف الحديث وإياه، لاسيما في ظل المتغيرات التي تعيشها مصر والمنطقة بعد ما يسمى الربيع العربي، و(ليس ربيعاً ولا عربياً ولكن شُبّه لهم).

اصطحبتُ نسخة من كتابي "مسألة الأقليات وسبل تخفيف التوترات الدينية والأثنية في الشرق الأوسط"، والذي صدرت طبعتاه الأولى والثانية عن المركز العربي للدراسات الإستراتيجية الذي أسسه ويرأسه الرئيس علي ناصر، فإذا كان خير جليس الكتاب فهو خير رفيق أيضاً في رحلة كهذه، بصحبة سياسي وقائد له صولاته في عالم السياسة وليكن هديتي المتواضعة لكاتب له جولاته وأجواله في عالم الكتابة.

حدثني الرئيس علي ناصر عن علاقته القديمة بالأبنودي والتي تعود إلى زيارة الشاعر إلى عدن قبل نحو أربعة عقود من الزمن. في الطريق إلى الإسماعيلية رحلت الذاكرة إلى ذلك الزمن الجميل وتواردت أغنياته الأجمل والتي كتب الأبنودي جلّها وغناها أهم المطربين العرب من "أحلف بسماها وبترابها"، و "أنا كل ما أقول التوبة"، و "ابنك يقول لك يا بطل".. وغيرها من أغنيات العندليب عبد الحليم حافظ، والتي تسكن الوجدان العربي جيلاً بعد جيل، مروراً بأغانٍ لا تزال تطبع ألوانا من (قصص الحب الجميلة) لنجاة الصغيرة صاحبة أغنية "عيون القلب" والتي لكأن الأبنودي قد أبصر بها كل القلوب.. وصولاً إلى (مربعاته) التي لا يزال يرسمها حتى اليوم في صحيفة "التحرير" القاهرية.

في الطريق أيضاً يتنهّد واحدنا وهو يتذكر أنه متجه صوب الشاعر الأسمر الأبنودي، فيدندن دون أن يطلق إشعاراً مسبقاً "آه يا أسمراني اللون"، تلك الأغنية التي غنتها شادية من كلماته، ونتساءل عما تبقى من الطريق إلى الإسماعيلية فتهبط أغنية "ساعات ساعات" والتي غنتها له (صباح)، وأحسب أن صديقي الرئيس القادم من بيروت لتوه قد أذعن لسلطان أغنيتين "جايي من بيروت" و "بهواك يا مصر"، والتي غنتهما ماجدة الرومي، من كلمات الشاعر الأبنودي، وأما أنا فلقد كانت "كل الحاجات بتفكرني" كما يغني الفنان محمد منير لشاعرنا الذي تفصلنا عنه بضع ساعات، حيث يقيم في الإسماعيلية التي بنيت على الضفة الغربية من بحيرة التمساح، وتُعتبر جزءاً من ممر قناة السويس، في منتصف المسافة بين بورسعيد شمالاً والسويس جنوباً، لكي تكون مركزاً لشركة قناة السويس العالمية للملاحة في عهد الخديوي إسماعيل.

وقد اختار الشاعر الأبنودي هذه المدينة مقراً لإقامته لتميزها بالمزارع والمتنزهات والهواء النقي وهو الذي لم يعد يستطع مقاومة هواء القاهرة المليء بالعوادم لشدة ما استفحل في صدره من حشرجات الزمن مما يجعله أحوج ما يكون إلى القدر الأكبر من الأكسجين لرئتيه ليبث فيهما الحياة فتنعكس أكسجيناً شعرياً يقاوم شبح الموت وشبح الأحياء الأموات.

تطل الإسماعيلية أخيراً كمدينة سويسية وسياسية، ويشير لنا مستقبلونا الإسماعيليون قبل وصولنا مزرعة الشاعر الأبنودي إلى خط بارليف عن بُعد، هناك حيث تجسدت إرادة العبور إلى النصر في أكتوبر 1973م حين جاء تتويجاً لإرادة لم ينهض بها لأول مرة قرار تأميم القناة 1956م لصاحبه الزعيم جمال عبد الناصر ولم تعصف بها لآخر مرة نكسة حزيران 1967م، ولئن كان الرئيس السادات وهو (صاحب قرار أكتوبر) كما يصفه أ. محمد حسنين هيكل قد وقّع قرار النصر الأكتوبري فإنه لم يوقع الهزيمة على مصراعيها في كامب ديفيد، لولا أن قاتليه ومن حاولوا اغتيال عبد الناصر قبله كانوا ولا يزالون عشاقاً للجحور حتى بعد أن انفتح لهم الربيع الإسرائيلي ليوصلهم إلى القصور. إنهم الإخوان الذين لم يحققوا نصراً يستحق الثناء كنصر أكتوبر ولا هزيمة تستحق الرثاء كنكسة حزيران.. هنا إذاً، موعدنا مع التاريخ وبعد بضع دقائق سنكون على موعد مع الشاعر الأبنودي ليقول كلمته، وقد عاش ذلكم التاريخ ونال نصيبه من كل ما سبق.

وصلنا مزرعة الشاعر الأبنودي لنلقاه "تحت الشجر يا وهيبة"، وهذه واحدة من قصائده التي غنّاها محمد رشدي والذي غنّى له أيضاً: عدوية، وسّع للنو، وعرباوي.

فيخرج الشاعر الكبير لاستقبالنا إلى مدخل المزرعة متعكزاً عصاه واهباً ابتسامة فارس هلالي لضيفه ومرافقيه ويعرّف الرئيس علي ناصر بنا ولا ينسى كعادته إن يُعلي من شأن أصدقائه على تواضعهم، ولا يستحق المضيف شيئاً من ذلك فهو أشهر من نار على علم. كان حضورنا بالنسبة له حضوراً لتوأم مصر كما عبر بحديث مقتضب عن العلاقة والتشابه بين اليمنيين والمصريين بلغة الأبنودي حين يتحدث ببساطة وعمق وقراءة مكثفة، ويحضر المحضار هنا حينما نتذكر، وإياه هذا الشاعر الكبير الراحل والصديق المشترك بينه وبين علي ناصر وصاحب كلمات أغلب وأجمل أغاني الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه، وكان الأبنودي قد سافر إلى اليمن ووصل حضرموت لاكتشاف هذا اللون الغنائي، حينما سمع قبل أربعة عقود أغنية لأبي بكر سالم واستغرب صلة بعض كلماتها ببعض المصطلحات المتداولة في صعيد مصر.. هنا يتجلى الفارس الهلالي الذي لا يألو جهداً في التنقل والرحيل بحثاً عن أصل شعري وفصل فكري، وأيام للعربية بكل لهجاتها التي لا تخلو من ظلال حميرية.

كانت هذه الزيارة للأبنودي في عهد الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، ولم يكن في خاطر أي منا أن خاتمة الأخير ستؤول إلى هذا المآل على أن كل مؤشرات الحياة في مصر كانت تشي بنهاية غير سعيدة لمصر لو استمر الإخوان في حكمها وللجماعة في حال لفظتهم مصر، وهي منبتهم قبل أن يتحولوا إلى تنظيم دولي يتجاوز الوطنية والشعور بها إلى الانتماء العائم فوق مسطح أيدلوجي وسياسي لا مرسى له، فوق أنه لم يعد له (مُرسي) أيضاً بعد خروج حركة (تمرد) وانتصار الجيش لإرادة الملايين من المصريين، كان الأبنودي قد قال لنا بوضوح في أثناء الزيارة بأنهم (الإخوان) لا يصلحون للحكم، وأنهم "اعتادوا على الجحور، ومينفعوش للقصور"، وهذا ما حدث فعلاً بعد عزل مرسي والطريقة التي أدار بها الإخوان أزمتهم فاستطاعوا العودة إلى الجحور بامتياز وجدارة.. كان الأبنودي يقولها كما لو أنه يرى سقوطهم بأم عينه قبل وقوع هذا السقوط بأشهر تماماً كما كان يشير بأصبعه إلى صورة جمال عبد الناصر الملصقة بساعة معلقة بحائط غرفة الاستقبال التي كنا فيها، وهو يقول لنا أنه تعرض للسجن في عهده إلا أنه يضع صورته هناك.

الأبنودي وهو صاحب قصيدة "الاستعمار العربي" كان واعياً على الدوام لدور القصيدة والأغنية في صناعة التاريخ والأحداث فينظر إلى هذا الدور بموضوعية وهو دور يتحرك ويتراكم ويتعاظم فلا يختزل المشكلة في "السلطة هي الغاية" ولا الشعار في "الإسلام هو الحل"، وهذه الحركية التي كان ولا يزال عليها أن تكون ذات أثر فاعل في إحداث التغيير المنشود في مصر واليمن وكل بلداننا العربية، بعيداً عن استاتيكية القوى التقليدية، على تنوعها، التي لطالما كانت رافعة للاستعمار وأداة للاستحمار.

كان لحضورنا سلطان المناسبة للحديث عن اليمن وكان للأبنودي سلطانه في اختزال علاقته باليمن بأبلغ القول نثراً وشعراً وثقافة وعادات ونكتة لا يعوزها أي مصري، فكيف بهذا المصري الذي يعيش بأنفاس الملايين وبتموجات حياتهم، على أن الرئيس أبا جمال كان قادراً على إحياء الذاكرة المحضارية من وحي زيارة الشاعر حسين المحضار، رفقته إلى الهند والتي ارتجلها هناك عند أعجوبة (تاج محل) ولا يزال أبو جمال يحفظها ويترنم بها فألقاها على مسامعنا محركاً آثار الاغتراب فينا وملهباً نار البعد عن الوطن الذي نكتوي بفراقه، ويقول المحضار فيها:

الهند فيها الهنا.. الهند فيها المنى
والجو في الهند غايم تحسب أنه ربيع
حسك تغرك نيودلهي وتلهي
عزك بلادك بها تأمر وتنهي
وإن ضاق بك عيش فيها صدرها لك وسيع.. (إلى آخر القصيدة)

وأما شاعرنا (الخال) عبد الرحمن الأبنودي، فيناجي الغربة على طريقته.. ولئن رأينا روحه شابة، فإنه يخاطب نفسه وشيبته وغربته على طريقته الصعيدية، وسنراه يستعمل كلمة (مُسرع) التي نستخدمها في إحدى عامياتنا اليمنية حين يقول:
والله وشبت يا عبد الرحمان
عجزت يا واد
(مُسرَع)..
ميتى وكيف؟!
عاد اللي يعجز في بلاده
غير اللي يعجز ضيف!..

إيماءة:
أطال الله في عمر (الأبنودي وعلي ناصر)، وأما أنا فيقف السؤال منتصباً أمامي.. هل يا ترى ستسمح لنا الأقدار أن نعجز في بلادنا أم أن المشيب سيلحق بالشباب الذي يضيع نهباً للاغتراب؟!.
انتهى المقال..

المجد والخلود لفقيدنا إسكندر.
07 سبتمبر 2013

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى