قلبي الصغير.. قصة قصيرة

> رحاب محمد علي البسيوني

> تمسد الجسد المسجَّى أمامها، تُمرِّر يديها عليه جيئةً وذهابًا، تنصهر بكيانها داخله، تُقبِّل مواضِعَ الشعر الذي سقط، ولم يَبْقَ منه سوى القليل.
العينان الغائرتان أغمضتا للأبد، لكم كانتا آبارًا عميقة، ترتشف منهما خبرة السنين، وتبصر بهما الوجود!

تحتضن الجسد، وتتمنَّى لو تتجمَّد اللحظة، ويتوقَّف الزمن حتى تفتح هاتان العينان من جديد.
تشعر منذ وافاها المرض بهجير الدنيا يتسلَّل إلى حياتها تدريجيًّا، وكيف لا وشجرتها الوارفة ينحسر ظِلُّها عنها شيئًا فشيئًا؟

تدخل بها إلى الطبيب مُتَّكئة عليها، انحنت قامتُها إلى الأمام قليلًا، صارت هي أطول منها، كان أصعب انتظار في حياتها حينما كانت تُراقِب عيني الطبيب من خلف عويناته، وهو يقرأ التقارير الطبية قبل أن يُلقي بالكلمة في وجهها، تمنَّت لو احترقت الأرض كلها أو قامت القيامة ولم ينطق بها.
- من فضلك لا تقل: إنها ستُغادرني قريبًا، وتتركني في تيه الحياة وحيدة.

- للأسف نعم، فالمرض تم اكتشافه في مراحله الأخيرة.
تثاقلت خطواتها مؤخَّرًا، لم تعد تلك التي تملأ المكان حركةً ونشاطًا، ورغم ذلك ظلَّت ذلك الطيف الملائكي الذي رسمت ملامحه عذرية النجوم، وأضاءت وجهه أقمار الكون.

تحاول بقدر استطاعتها مقاومة ذلك الكائن الشَّرِه الذي ينتشر بسرعة البرق، تاهت الأفكار، وقلَّ التركيز، ورغم ذلك تُقاوم من أجلها، ولأجلها فقط تحاول أن تظلَّ تلك الزهرة التي تحطُّ عندها الرحال، وتستجمع عندها الأنفاس، ورحيقها هو طاقة الحياة التي تمضي بها.
ترسم البسمة والهدوء على وجهها مُطمئنة إيَّاها، ثم تغلبها تلك التقطيبة التي تنذر بنوبة جديدة من الألم المميت، تختلس لحظات هدنة معه لتُفرِحها، في حين يستمرُّ ذلك الخبيث في نهمه مخلفًا الدمار والخراب في جسدها الضعيف.

تمسك باليد التي استحال لونها إلى اللون الأزرق بفعل (المحاليل)، تشقَّق جلدُها كلوحةٍ زيتيةٍ اهترأ قماشُها ونزع منها الحياة، تلك اليد التي تدين هي لها بنعومة يديها، لكم حملت لها كُلَّ خيرٍ وكانت في خُضْرة الحياة وعطائها!
دائمًا ما كانت تمسك بكفِّها الصغيرة في كل خطوة من دروب الحياة، وكبرت تلك الكفُّ، وظلَّت تمسك بها، ولا تحملها أدنى شيء.

كانت هي قلب الحياة الذي اتَّسع مداه شيئًا فشيئًا ليغمر نوره المدى وحياتها، ذلك القلب الكبير الذي كانت تسمع دقَّاته (تسمي) عليها، لا تصدق أنه توقف، تتحسَّس موضعه، تكاد تسمع صدى الدقات تناديها (أنتِ قلبي الصغير)، تساقطت مع دموعها عصارة قلبها، كتمت صرخاتها فيه لعل أنفاسها تبثُّ الرُّوح فيه من جديد، وتُعيد دموعها إليه ماء الحياة؛ لكن سدى.

ستظلين بقلبي جذوةً لا ينطفئ دِفْؤها أبدًا يا قلبي الكبير.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى