عندما يموت الحب

> غالب صالح الحامد

> من خازنة ذاكرتي، تذكرتُ ما كان والدي قد عاشها، لحظات قاسية حزينة في يوم الزينة عام 1364 للهجرة، يوم الخميس العاشر من ذي الحجة 15 نوفمبر 1945م. .

زمان كانوا في جماعات يكبّرون وهم في طريقهم لصلاة العيد في جامع سيئون "الله أكبر، الله أكبر.."، يهتفون حتى دخلوا مرورا بمقبرة بامخرمة، المؤرخ والشاعر الكبير صالح بن علي الحامد، وأسرة آل الحامد ومنها يخرجون، التفت الحامد إلى شماله حيث قبّة بامخرمة الشيخ عمر بامخرمة نار على علم، يحبّه والدي كثيرا، ألم يختبئ في قبّته أكثر من مرّة حين كُنَّ قريبات زوجة له يتابعنه بتلك الساحة خشية زواجه من أخرى، حتى غنّت نساء سيئون قائلات: "وراكن كذا على الحامدي باتغرمين".

ورفع رأسه وعذبة عمامته إلى السماء؛ ليشاهد البيت الذي هو غربي القبّة، ورجف قلبه قلقاً وسكت عن التكبير، إنه بيت آل بكري، بيت من يهوى! كيف حالك يا سعود؟
كيف أمسيت؟ وكيف أصبحت؟ أي عيد هذه العيد وسعود جسم ممدود، وسعود لم تعد هي سعود منذ وضعت طفلتها يوم أمس،

وخفض رأسه متوجهاً إلى الجامع متمنيّا التعجيل في صلاة العيد، حتى مشى مسرعا مختصرا الطريق إلى بيت آل بكري إلى زوجته سعود وبجانبها أمها، متلهفاً كيف يا ترى باتت سعود؟ فأخبرته بأن الحال هو الحال، ولله ما أراد، ما أشد ما عانى وعانت وعانوا. إنها سعود عبدالله عمر باحميد..
لقد تزوجها الحامد، وعاش معها أجمل لحظات عمره، قضاها معها ببيت آل بكري وبجروب الحسن، ولا زلن من عشن تلك الفترة من كبار السن يذكرن العديد من الحكايات عن قصة الحب تلك، ويمتدحن سعود لخَلقها وأخلاقها وخِفة الروح والمَرح وحبها وتَعلقها بالحامد زوجها..

لقد حملت تلك الحبيبة الشابة ووضعت طفلة ميّتة يوم الأربعاء 14 نوفمبر 1945م، وتلقّى الحامد الخبر وهو صائم، فذهب إليهم على التو فأخبروه بأن المولودة ميّتة، فقال: "الأمر هيّن، ماذا عن سعود؟!". فاخبروه بأن المشيمة لم تخرج، فأتاها يطمئنها، وظلّ مترددا عليهم في ذلك اليوم.
قصة حب عاشتها مدينة سيئون منذ أربعة وسبعين عاما (ستة وسبعين بالهجري) تناولها الناس في مجالسهم نثرا وحكايات.. ورددها المغنون بأصواتهم شعرا ملحنا.

فحسدوهم.. غاروا منهم.. وتمنوا زوال سعادتهم.
إنه الحب الصافي النقي لا تكدره شائبة، حب ما بعد الزواج.

في القلب للزوج الحبيبةِ موضعٌ
لم يدنِ منه لأي خِلّ موضعُ
والحب مورده الزواج فإن صفا
فالخير عندك والسعادة أجمعُ

كان الحامد في قمّة سعادته منتظرا المولود أو المولودة، حالماً أن يرى سعود وبحضنها مولودهم. يتمنى لسعود السعادة.
أؤمّلُ فيكِ آمالاً طوالاً
ولا أدري بما تخفي الغيوبُ!
بينما الأقدار خبأت لهم غير ذلك، ماتت المولودة ورفضت المشيمة الخروج.

ولا توجد طبيبة نساء وولادة؛ بل لم يوجد طبيب حينها مع أيام العيد بالبلد، فلجأوا لكل السبل والعلاجات الشعبية دون فائدة فاستعانوا بالقُرّاء فيما إذا أصابتها عين الحسود، وقالوا بها عمل أو جن معتقدات سائدة، فلم يصل إلى فائدة يقول الحامد:
قالوا بها جنٌّ فقلت تخرّصوا
إنّي أخاف من الحقيقة فادّعوا
وكان الزمن لا يرحم، تَمُر الساعات على المسكينة تليها الأيام والتسمم لا محالة قادم في ارتفاع.

والأحلام تتبدد ازداد القلق لدى الجميع، يأتي الحامد إلى بيتهم ليرى الوجوه ليست بأفضل مما هو عليه حاله، والمسكينة مسجّاة بين الحياة والموت تنظر إليه متوسلة لا تتركني يا صالح أموت!
وعينها تدمع. فتخنقه العبرة، ولسان حاله يقول: من يدلّني على العلاج! ما الحل! لن اتركك تموتين يا سعود.. سأفديك ولكن بماذا! ولكن ماذا أعمل؟

وهكذا تكبّلت أيدي الجميع وسعود كالغريقة تموت أمامهم.
عاش الحامد أياما كان فيها مذهولا مرتبكا لم يكتب في يومياته شيئاً تركها صفحات بيضاء. حيث جف الحبر وتعطل القلم ووقف التفكير. كيف الحياة دون سعود.. كيف؟

كان الحامد بتلك الأيام يخشى صوت المنادي يناديه؛ خوفا من أن يحمل إليه خبرا لا يريد سماعه، حتى كان يوم السبت الأول من ديسمبر 1945م فإذا بالصوت بالمساء مناديا، ماتت سعود. وهذا ما كتبه بخط يده بعد أن استدرك أن لابد من كتابة وتوثيق حياة سعود ومكانتها في قلبه، فقال في مذكرة ذلك اليوم: "في الساعة (العاشرة إلا ربع مساء) البارحة أول الليل حلّت المصيبة العظمى والداهــية الدهــياء توفـيت حبـيـبة الـفـؤاد وريـحـانة الـروح ســعـود عبدالله عمر بـاحـمـيـد، وجاءني الخبر بتلك الساعة (العاشرة والربع) من يوم السبت الأول من ديسمبر عام 1945م".

"أتيتُ إليهم إلى بيت خالها سالم أبوبكر بارجاء (بيت آل بكري) ومعي أخي الأصغر محسن، ثم عاد أخي ورأيتها في الدرع (غرفة بالطابق الأرضي) فكان البكاء والعويل".

وتركوه منفردا بها يبكي ويبكي. ووقف الحامد متأملا أمامها وهو يقول:
ولقد دعوتك فاستجبت بدمعة
خرساء أرسلها حشاك الموجعُ
فاضت لها عيني وخار لشجوها
جَلَدي وكادت مهجتي تتقطعُ
وطلب منها أن ترد عليه:
روحي! منايَ! أجيبي إنني قلقٌ
وقد دعوتُ ملحاً فارفعي بصرِك
يا موت أوقعت عندي أي فاجعةٍ
مذ قيل أنشبتَ في زين الصبا ظُفرِك
هذا محيّاكِ ما حالت محاسنُه
وثغركِ العذب هذا حاويّا دُررك
قصرتِ عمراً فيا ليت القضاءُ إذاً
أمدَّ عمري إلى رغم البلا عمرك
خلقتِ بين الحسان الحور نادرةً
في الخَلق والْخُلق سبحان الذي فطرِك
فلو مُنحتُ بكِ الدنيا بأجمعها
واللهِ ما أربَحْت قلبي.. وقد خسرِك

وغادر تلك الغرفة (الدرع) باكياً، وقال: "وصعدتُ إلى أمها المسكينة خالتي سلمى وخرجت لحضور القراءة.
وجاء الناس للتعزية، واستمر الأمر إلى خروج الجنازة الساعة (التاسعة والربع) وكان جمع عظيم وصلى عليها العم محمد بن هادي السقاف، وممن حضر العم محمد بن علي الحبشي، والعم عبدالرحمن بن عبيداللاه، وسلاطين البلاد وأعيانها، رحمها الله تعالى".

وتقبل العزاء من المعزّين وهو يقول:
عبثاً أعلل بالعزاءِ وفي الحشا
للفقد سهمٌ ناشبٌ لا ينزعُ
إن لم أذبْ جزعاً لفقد حبيبتي
فلأي خطبٍ بعد ذلك أجزعُ
ولقد توقعت المصائب جملة
فإذا مصابك فوق ما أتوقعُ

ودفنوها.. وقلب الحامد يعتصر ألماً وحزنا وودّعها.. ولسان حاله يقول في قصيدة له قالها فيما بعد:
يا قبر أيةُ شمس فيك غاربة
وأيّ تمثال حُسنٍ ضمّنوا مَدَرَك

وقال:
فيا لهفي على قمرٍ منيرٍ
بدا حينا فعاجله الغروبُ
وشمسٌ في الثرى والطين غابت
ولم أر في الثرى شمساً تغيبُ
رماها الحَيْن من بين الغواني
وبرد شبابها نَضِرٌ قشيبُ
تخيّر في الكواعب فانتقاها
كما يتخيّر الشحماءَ ذيبُ
لئن غُيّبتِ تحت الأرض عنّي
فإنّكِ عن فؤادي لا تغيبيِ
فلا أنساك ما أهدت شما
نسائمها فعاقبها الجنوب
لقد فوجئتُ من دهري برزءٍ
يلين لهولهِ الحجر الصليبُ
بيومٍ غاب من أهواه فيهم
لعمرُكَ إنه يوم عصيبُ
فيا خطب الحبيب عظمت خطبا
فدونكَ كل نائبة تنوبُ

ولم يقر للحامد قرار.. وظل يكتب فيها الأشعار الحزينة والخالدة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى