الجنوبيون لا يقبلون بالفيدرالية أيضا

> حافظ الشجيفي

> كاتب جنوبي معروف كتب مقالاً بإحدى الصحف المحلية ذات مرة يقول فيه إن "اليمن ليس بحاجة لمن يرشده إلى طريق التجزئة والتمزق التي طالما جربها وخبر بها وسار فيها منذ عهود طويلة ولم يجني من ورائها سوى الضعف والتقهقر بقدر ما يحتاج إلى من يرشده إلى طريق التوحد.."، ليربط بهذا الطرح الفشل الذي منيت به الوحدة اليمنية حتى الآن بخطأ الطريق الذي اخترناه وسلكناه للوصول إليها أو لإعادة تحقيقها قبل ما يزيد عن عشرين عاماً مضت حتى الآن، وليبرئ الوحدة كغاية وجادة لا يبلغهما إلا الرجال المتوحدون، على حد تعبيره، من أي لائمة عن ذلك الفشل الذي اقترن بها منذ إعلانها وتسبب في معاناة الجنوبيين دون سواهم بصورة لم يشهدوا مثلها فيما شهدوه في عهود التشطير.

ومع يقيني الكامل بأن الوحدة لم تكن في يوم من الأيام إلا وسيلة من الوسائل التي تلجأ أو تتفق عليها الدول والشعوب لتحقيق غاية معينة أو مصلحة مشتركة بينهما لم تكتمل أو تجتمع في كل أو لكل طرف منهما على حده شروط وظروف تحقيقها بمفرده أو بمعزل عن بقية الأطراف الأخرى ذات العلاقة، فإن إيماني المطلق بالأسباب التي أدت على الدوام إلى فشل التجارب الوحدوية بين تلك الدول أو الشعوب التي جربتها فانهارت على نحو ما ظل يجري للوحدة اليمنية منذ إعلانها أنها بنيت على هذا الأساس أو أن طرف واحد على الأقل من الأطراف المعنية بها قد اعتبرها غاية ولم يعتبرها وسيلة، وتعامل معها انطلاقاً من هذا الاعتبار، ونظر إليها من هذا المنظور، فإن ذلك يجعلني أفقد الأمل تماماً في إمكانية نجاح التجربة اليمنية بعد كل هذا الوقت حتى لو بدلنا طريق الوصول إليها بطريق آخر أو بالطريق الذي نظن بأنه الصحيح هذه المرة، وأعدنا بناءها على قواعد وأسس مختلفة وجديدة.

فالشعوب لا تبحث عمن يرشدها للطريق الذي يؤدي للوحدة أو التوحد، كما زعم الكاتب المشار إليه، بقدر ما تبحث عمن يرشدها إلى الطريق الذي يقودها للتغيير والرخاء والعزة والاستقرار وتحسين أوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية. وثمة فرق شاسع بين من يدلّك على طريق الوحدة كغاية في حد ذاتها وبين من يدلّك على طريق التقدم والرقي والنهوض، فالانفصال في حالة الوحدة اليمنية قد يكون بالنسبة للجنوبيين طريقهم إلى النهوض والتقدم والرقي بعد أن قادهم طريق الوحدة إلى سرداب الضعف والويل والشقاء كل هذه السنوات، وما لم يتحقق لهم عن طريق الوحدة فلابد أن يتحقق لهم عن طريق الانفصال.

ولو أن الكاتب قد نظر (للفيدرالية) التي يلمح إليها باستحياء في مقالته على أنها بديل للانفصال ولم ينظر إليها كما ينظر إليها الشماليون الذين يرفضونها على أنها بديل للوحدة الاندماجية القائمة بين الشطرين منذ أكثر من عقدين من الزمن لأدرك بأنها (أقصد الفيدرالية) حلاً لا يعالج إلا قضية الشماليين لأنفسهم وخياراً لا يدعم إلا مشكلتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحدهم ونظاماً لا يخدم إلا مصلحتهم بمفردهم، وللعلم بأنه بذلك إنما يظلم الجنوبيين إن لم يكن قد ظلمهم بالفعل، ويفرط في قضيتهم المشروعة العادلة، وينتقص من حجم تضحياتهم، ويقلل من قيمة دمائهم تلك التي ظلت تسيل منذ صيف العام 94م على مذبح الحرية والاستقلال ولم تتوقف بعد، ويبدو بأنها لن تتوقف قبل تحقيق ذلك كاملاً مكملاً دون انتقاص.

الاتحاد قوة.. نعم نعرف هذه القاعدة ونؤمن بها تماماً بقدر ما نؤمن أيضاً بأن لكل قاعدة شواذ؛ بل إن الوضع السيئ الذي وجدنا أنفسنا نعيش فيه منذ تحقيق الوحدة قد جعلنا نؤمن بشواذ هذه القاعدة أكثر مما كنا نؤمن بالقاعدة نفسها قبل الوحدة.. كما أن ذاكرة التاريخ تزخر بكثير من التجارب الانفصالية ولا أقول الوحدوية التي ضربت أمثلة كبيرة على طريق النجاح، ولا استشهد على ذلك بالاتحاد السوفييتي الذي أثر التفكك على الاتحاد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ففي الاستشهاد بالكوريتين وتشيكوسلوفاكيا ما يؤكد على أنه لا وحدة تقوم على وحدة الأرض واللغة والدين فقط مع اختلاف الأسباب والدوافع السياسية والاقتصادية والتنظيمية التي تحقق المصلحة العليا للشعوب التي ارتبطت بعلاقة من هذا القبيل بشكل عادل ومتساوٍ، وليس لطرف على حساب آخر

فضل عن تجارب وحدوية، فيدرالية، كونفدرالية، اندماجية، كثيرة كان مصيرها الانفصال بعدما أخفقت في تحقيق أماني وتطلعات الشعوب التي اتحدت من أجل تحقيقها كسوريا ومصر والعراق مثلا.

وقد كان القرن الماضي بحق قرن الانفصالات الدولية التي سقط خلالها ملايين الضحايا؛ فقد انفصلت الهند إلى الهند باكستان وبنغلاديش، وانفصلت الصين إلى تايوان والصين، وانفصلت مصر إلى مصر والسودان، وفيتنام إلى فيتنامين، وانفصلت يوغسلافيا إلى صربيا كرواتيا، مقدونيا، الجبل الأسود، البوسنة والهرسك وكوسوفو، وانفصلت الحبشة إلى أثيوبيا وإرتيريا، وانفصلت الصومال إلى الصومال وجمهورية أرض الصومال، وأخيرا انفصلت جنوب السودان عن السودان علما بأن الدول الوحيدة التي توحدت بعد انفصالها هي فيتنام وألمانيا، أما اليمن فلم يثبت التاريخ بأنها كانت موحدة من قبل، وما زالت المشاريع الانفصالية في هذا القرن قائمة على قدم وساق في بريطانيا، أسبانيا، بلجيكا.. وغيرهم.

ولعل في المقارنة بين الثورات والحروب التي خاضتها الشعوب للمطالبة بالانفصال وبين تلك الثورات والحروب التي يفترض أن تكون قد خاضتها حتى الآن للمطالبة بالوحدة ما يغنينا عن الاستشهاد بالأمثلة والنماذج التي استشهدنا بها في هذا السياق على سبيل التوضيح لا الحصر لإثبات محاسن الانفصال، إذ لم نسمع أو نرى في العهد السياسي المعاصر كما لم تذكر لنا كتب التاريخ ومصادره أن شعب من الشعوب قد قام بثورة من أجل الوحدة مقابل ما ورد وما قرأناه فيها، وما سمعناه بآذاننا، وما رأيناه بأعيننا أيضاً من ثورات كثيرة وكبيرة خاضتها وأخرى ما زالت تخوضها حتى الآن على طريق الانفصال رغم أنها لم تكن تملك من أسباب ودواعي الانفصال كتلك التي يملكها الجنوبيون اليوم.

وإذا كان ما يملكه الجنوبيون من أسباب ودوافع الانفصال الشرعية والمشروعة أكثر بكثير من تلك التي يمتلكها الشماليون (شعبا ونظاما) لتبرير تمسكهم بالوحدة اليمنية، وأكثر بكثير من تلك التي يبررون بها رفضهم للفيدرالية مع أنها كانت في صالحهم، فإن في الهدف النبيل وحده الذي يسعى إليه الجنوبيون من وراء الانفصال ما يكفيهم للاستماتة في سبيل تحقيقه كاملاً دون انتقاص، وما يجعلهم يضحون من أجله بالغالي والرخيص وما يدفعهم لرفض الفيدرالية؛ بل والكونفدرالية أيضا جملة وتفصيلا، وعلى هذا فإن رغبات الشعوب تكون في هذه الحالة هي الكلمة الفيصل في الحدث لتحديد المصير، ويكون الانفصال مؤشراً إيجابياً لتغيير أحوال البلد بشكل أفضل، وبالتالي فلا يعتبر ذلك تمرداً أو خروجاً عن القانون، كما يصوره البعض، بل قد يكون مطالبة بحقوق قد سلبت أو رد فعل طبيعي على واقع من الصعب التعايش معه تحت أي شكل من أشكال الوحدة.

وإذا ما بحثنا في القاموس السياسي عن مفردات الانفصال نجد بأن أقوى دولة في العالم حالياً اقتصادياً وعسكرياً كانت هي الدولة التي انفصلت عن المستعمرة البريطانية وحاربت من أجل مقاومة السياسات البريطانية آنذاك فأنتج ذلك ميلاداً أقوى دولة تتغنى بالديمقراطية والحرية التي دفعت ثمنها باهظاً بصرف النظر عن السياسات التي تتبعها في الوقت الراهن في تعاملها مع الشعوب الأخرى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى