أغاني عبدالكريم توفيق.. جواهر لا تُصدأ

> نجيب سعيد ثابت

> هو صاحب الصوت الغريد الشجي المترنم، له ومضات الكمان وحلاوة الناي عرف كيف يتغنى به فأسعد جمهوره، منذ أن كان طفلا، ثمان سنوات تقريبا، ومنذ ذلك الحين وهو يصنع شخصيته الفنية المستقلة، غنى في المخادر لمن يعزون عليه من أصدقائه أو محبيه، ومن أهله كضيف شرف، لكنه لم يتحول إلى فنان مخادر.

عشق لحج وحوطتها وتعلم فيها أصول الغناء، لكنه لم يكرر غناء القديم ليتباهى بعمل فني غناه غيره وصار ملكا له، لم يغنِ من التراث القديم إلا القليل، واكتفى بسماعه الغزير ليستفيد منه ولا ينفصل عنه، لم يغنِ إلا ما أحس به واستجابت له ذائقته الفنية وآمن به، فعاب عليه البعض عدم غناء الأغاني الوطنية، والحق أن بين غنائنا الوطني وغنائنا السياسي خيطا رفيعا، وكانت لحج موطنه الأول وصاحبة الفضل عليه أن قيّدت للطفل الموهوب صاحب الصوت الساحر والحنجرة الذهبية، أساتذة كبارا في التربية والشعر والتلحين من أمثال فضل محمد اللحجي، محمد سعد صنعاني، صلاح ناصر كرد، وغيرهم، آمنوا بموهبته؛ بل وشغفوا بصوته، فأحاطوا به إحاطة الأسورة بالمعصم، فقدموا له أعذب الشعر وأحلى الألحان، ولم يخذلهم، وإنما غناها بروحه وبصوته المتأثر بالكلمة واللحن معا، وخير دليل أداؤه لأغنية (رتل التغريد) لمحمد سعد صنعاني، وأغنية (غيب وإلا احضر) للأمير محسن أحمد مهدي، وأغنية (يا قلبي الجريح) لفضل محمد اللحجي، وكل واحد من الثلاثة أسلوبه الخاص، مما يعني أنه تلميذ نجيب لأساتذة أرادوا له عدم الاحتكار وأرادوا له التنوع، فاستمع لهم وعمل بنصائحهم، وعندما كبر كان يتحدث عنهم أجمل حديث، وظل وفيا لهم في أغانيه ولمدرستهم الفنية الرائدة ومدرسة لحج في الغناء، فلم يغن غير ألحان لها الطابع اللحجي، رغم تحول محل إقامته إلى عدن والتقائه بكبار فنانيها.

التقيت بهذا الفنان الجميل صاحب الصوت الكروان لأول مرة حين التحقت بمعهد الفنون الجميلة، الذي كان مقره في كنيسة حافون حين التحقت بالفرقة الوطنية للموسيقى والفنون الشعبية بنفس المعهد، كعازف عود عام 1973م، ثم التحاقي لدراسة أصول الموسيقى الدفعة الثانية العام الدراسي 74 ـ 75م وهو كان ضمن الدفعة الأولى التي التحقت بالدراسة الموسيقية للعام الدراسي 73 - 74م، ومع الأيام تطورت علاقتنا كثيرا وتعمقت.

عبد الكريم توفيق كان متواضعا جدا وبسهولة يصل إلى قلب كل إنسان تعرف عليه، وقد شجعني كثيرا وأحبني بشكل لا يصدق، وكان من الشخصيات والأصدقاء والفنانين الذين أحببتهم كثيرا، ولم تنقطع علاقتي معه إلى أن توفاه الله.
عملنا سويا في اتحاد الفنانين في منتصف الثمانينات، حيث كان هو السكرتير الثاني بعد الصديق المرحوم طيب الذكر فرحان على حسن السكرتير العام للسكرتارية العامة لاتحاد الفنانين اليمنيين ومقره في كريتر.

كان الاثنان، فرحان وتوفيق، من أجمل أصدقائي ووقفا معي كثيرا وكانا سندا لي، وخاصة حين كنت رئيسا لاتحاد فرع الفنانين اليمنيين بعدن 87 و94م، كانا يبددان لي أي مشكلة أقابلها في عمل الفرع.

كنت أعتبر عبدالكريم توفيق من عائلتي ومن أهلي وأولاده يعرفون هذه العلاقة/ طارق ومحيي الدين، ومطلق، ربنا يبارك فيهم، كانت لي معه أجمل الذكريات في عدن وفي الخارج، وغنينا كثيرا في فعاليات محلية وعربية ودولية، وكان نعم الصديق والأخ الأكبر والسند لي، ولا يمكن أن أنسى أفضال (ابن سند)، كما كان يحب أن يناديه أصدقاؤه، لثلاثة عقود عملنا فيها في حقل الفن والغناء العامر بوجود توفيق وآخرين من الفنانين المعروفين.

أغانيه
معظم أغاني عبد الكريم توفيق لا تزال تلمع كالذهب، وستظل تلمع كالذهب، ولا يمكن اعتبارها من التراث العام، وإنما هي تراثه الخاص، حتى التي قدمها قبل خمسين أو ستين عاما، وهي حديثة مقارنة بتلك الفترة، وتمت إعادة العديد منها بأصوات شابة وبفرق موسيقية كبيرة، فحافظت على عنصر الحداثة القديم ممتزجا بالجديد، مما يثبت أن ملحنيها انبهروا بصوته وعشقوه، فتباروا أن يقدموا له ألحانا عصرية يضيف لها صوته بعدا حديثا يتجدد طول الزمن فلا تموت، بل تزداد نضارة وشبابا، لذلك فإن منها ما هو محفوظ بوجداننا منذ خمسين عام وأكثر، ومع ذلك نشتاق لسماعها دائما سواء بصوته، وهو الأجمل، أو بأصوات غيره.

وليس صوته فقط سبب نجاح أغانيه، وإنما أداؤه كذلك، وحين كنت تراه يغني في حفلة. ترى جسده الثابت وقوفا يميل ويهتز مع كل جملة موسيقية، وترى وجهه يعبر عما يختلج فيه من مشاعر تأثرا بالمعاني والألحان الجميلة، فهو أصيل الأداء، طربي الغناء، فيخرج عن اللحن أحيانا ليعبر عن بعضه بموال بديع.

ولم يكن عبد الكريم توفيق صناعة مجموعة من الشعراء والملحنين في لحج. فقد امتزج الصانع بالمصنوع، فاستفاد منهم كثيرا.. ووجدوا فيه خير من يوصل ألحانهم وشعرهم للمستمعين، بموهبته الكبيرة، فتميز عطاؤهم بكثرة الألحان وروعة الشعر عن ما قدموه لغيره.. وبجمال أغانيه أكثر مما كتبوه ولحنوه لغيره، وبذلك يكون قد أسهم في صناعة وازدهار الحركة الفنية بلحج في ستينيات القرن الماضي. ولم يكن مجرد مطرب..بل كان واحدا من الكبار العمالقة.

لا نقدر أن ننساه أو ننسى أغانيه الساحرات ماحيينا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى