الـورود السـوداء "قصة قصيرة"

> عليمة نعون

> مدخـل:
يقال: إنَّ البكاء يغسل الرُّوح ويُخدِّر الإحساس، بقدْر ما هو كلامٌ جميلٌ بقدر ما يَترك في النفْس أثرًا، فكلما ذرفت العين دمعةً واحدةً، زال الألم درجةً؛ لتَخلُد النفس فيما بعدُ إلى حقيقةٍ تُدعى الراحةَ والسَّكينة.

النـصُّ:
حدَث ذلك في يومٍ من أيَّام الصَّيف البارِدة والقاسِية، حيثُ كان كلُّ شيء هادئًا، مرَّ صبيٌّ بالقرب مِن دُكان المصابيح يَحمل في يده قِطعةَ خُبز، لم تَتَّضحْ في مِثل ذلك الظلام، وكأنَّه لم يَخفْ منه أو حتى مِن ذلك الهدوء الذي يَسبق العاصِفة، أخَذ يَسيرُ ويَسيرُ، وكأنه يَعرِف مصيرَه، فقد تَكون نِهايتُه منزلاً دافئًا، وغطاءً ناعمًا، أو تكون سَرابًا وظلامًا ما بعدَه ظلام.

توقَّف لحظةً بعد سماعه لصوتٍ غريب، فسأله: مَن تكونُ؟ فأجابَ: أنا اليَد الحمْراء، استغْرب الولَد لذلك؛ فهو لا يَفهَم مِثل هذه اللُّغة، فكرَّر سُؤاله، فأجابَه الصَّوت: أنا اليَد الحمْراء، تِلك التي تَعشَق دمَك ودمَ الكثير مِن البشَر، تِلك التي تَهوَى شُربَ النَّبيذ، وهي تُلاعِب كأسَ ذُلِّكم، وتَحضن أنفُسكَم البغيضَة، إنَّها اليَد التي تَهوَى القتْل، والقتْل دونَ حُدود، إنَّها يَد الاستعْمار يا أيُّها الولَد الصغير.

ذُعر الصبيُّ لَمَّا سَمِع ذلكَ، ولكنَّه واصَل طريقَه وكأنَّه لمْ يَسمعْ شيئًا، وأخَذ يُوهِم نفسَه بأنَّ ذلكَ الصَّوتَ كانَ صوتَ الرِّياح القويَّة، أو عاصِفة قدْ تَحلُّ في أيِّ وقتٍ، ثُمَّ راحَ يتكلَّم بصَوتٍ خافِتٍ، وشفتاه قدْ حنَّتا إلى النَّوم العَميق مِن شدَّة البرْد؛ علَّه يَنسى ذلكَ الصَّدى المُخيفَ، أنا طِفلٌ بريءٌ ككلِّ الأطْفال، حُرمْتُ مِن لَعِبي، مِن مَنزلي، مِن أمِّي وأبي، حُرمْتُ مِن مَدرستي ومِن ابتسامَتي، سرَقوا مِني الأمْن والشُّعور بالسَّعادَة، أطْفَؤوا عِندي الرَّغبَة في الحياةِ، وما إنْ نطَق هذِه الأخيرةَ حتَّى سَمِع أصواتًا مُخيفةً خلَّفتْها صواريخُ مُدمِّرةٌ، فقال: إنَّ خَوفي يَكبُر ويَكبُر، والألَم لا يَكاد يَصمت.

لَم أَعرِف مُذ أحسسْتُ بالخَوف سِوى التسكُّع في الشَّوارِع والإصْغاء إلى نغماتِ الحرْب البائِسَة، لمْ أَعدْ قادِرًا على اسْتيعابِ درْس الحياةِ العسْكريَّة الذي يُقدَّم كلَّ يومٍ، حتَّى إنَّني أصبحْتُ أخالُ نفْسي يدًا مِن تلْك الأيْدي الحمْراء، علَّموني معْنى الجريمَة والوحشيَّة وأنا طِفل صغيرٌ لمْ يَحظَ بالحَنان الكافي بعْدُ، فماذا سيُعلِّمونني عندما أكْبَر؟ أَعتقِد أنَّهم سيُعلِّمونني كيف أَقتلِع الورود الحمْراء مِن جُذورِها وأعوِّضها وُرودًا سوداءَ، ولمَ لا إنْ كنتُ أنا والملايينُ مِن أبْناء وطَني وُرودًا سوداءَ؟!

لمَ لا والأيَّام قدْ غدَتْ في نظَري كلُّها سوداءَ، والحُلمُ بقطْف ورود الحبِّ والسَّلام قدْ أصبَح هو الآخَر أسودَ؟! ما ذنْبُ الأطفال إذا كانَ الكِبار يَعشقُون الحروبَ والقِتال؟!

ثُمَّ واصَل الولد طريقَه، ولا يَزال يُتمتِم ببعض الكَلماتِ التي قدْ تَقتُل عِنده الإحْساسَ بالذنْبِ والشُّعورَ بالمسؤوليَّة تُجاهَ وطنِه إلى أنْ باتتْ كَلماتُه مُتقطِّعةً.. الاستعْمار.. يتَّهم كلَّ شيءٍ حتَّى الحيوان! لعلَّ جريمتي أنَّني أَعرِفهم، الأفْكار السوداء تَبري جسَدي، والهواجِس تُطفِئ آمالي.

أنا مريضٌ وأُختي مصابةٌ، أبي ماتَ وأمِّي كذلك، ولم يَبقَ لي سِوى حَديقةِ وُرودي، تلكَ التي انخَرطتْ في بُكاء صامِت دونَ دُموعٍ وهي تُناجي نفْسها - أمْ نفْسي؟ لمْ أَعدْ أذْكُر - قائلةً: "أنتَ يا ولَدي فرحةُ القلْب، والمَنزل مِن بَعدِك خَرابٌ، عُدْ إليَّ يا بُنيَّ، فالحَمائِم لا تَهنأ في دُنيا تَتحكَّم فيها الصُّقور، سأبْكيكَ، وأرثي حالَك المريضةَ، سأحْتضِن الألمَ بدلاً منكَ، لكنْ عُدْ إليَّ، فأنتَ تَعرِف وأنا أَعرِف وكلُّنا نَعرِف أنَّ في هذه الحياةِ الحبَّ هو الأبْقَى، والجَمال هو الخالِد، فلا تَخفْ من أصْوات الصَّواريخ، ولْتتخيَّلْها عصافيرَ تُغرِّد تَغريدَها العذْب؛ لِتغْسلَ هذا الكَون مِن النِّيران، وتَنثُر على أرضِه أوراقًا بيضاءَ، هي تَذاكِر الحرِّيَّة التي لا تُباعُ ولا تُشتَرى، وإنَّما تُقدَّم بالمجّانِ لمَن يَستحقُّها يا بُنيَّ، فعُدْ إليَّ ولا تَخفْ، فمعَ بُزوغ الفَجر ستُوقِن أنَّ ذلك الصَّوتَ هو حتمًا وحدَه صَوتُ الحرِّيَّة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى