محمد محسن عطروش آخر عمالقة الغناء اليمني

> د. هشام محسن السقاف

> هناك مقاربة شديدة الوضوح أن ضلعي هرم الإبداع في فترة الخصوبة الفنية على خمسينيات القرن الماضية تتمثل في لحج (تبن) وأبين (بنا) وأن قمة الهرم هي الدلتا ومصبها (عدن).
ولعل للأمر صلة رحم وشيجة بالبناء الاقتصادي والخدماتي المتصاعد في عدن بعد الحرب العالمية الثانية 39 - 1945 م وبزراعة القطن وبناء (جعار) واستصلاح الأراضي الزراعية في فرعي الوادين العظيمين في لحج وأبين. وهنا في أبين لا يتجاوز الرجل الصالح هذه الحقيقة عندما قال: "أبين رطب ولين"، فالسيول دفاقة حتى الساعة.

وعلى الضفاف المترعة بالماء والوجه الحسن وبخرير (السقو) في كل وادٍ تثمر الفاكهة من (المانجو) و(الفنص) و(الجامبو) و(البيذان) في لحج، فإن مزارع الموز والحمضيات والحبحب والشمام وما تضفيه جانيات القطن أو ما نسميه (العُطب) من جمال في سهول أيبن.
تتشبع ذاكرة الصغير المولود في (المحل) بزنجبار عام 1940م بكل ما هو فلكلور وموروث شعبي دون إقصاء (الديني) الذي يأتي من معابر قريبة من الأذن والعين والقلب بظلال تفيئ على جدران البيت العامر للعلامة الشيخ محسن عبدالله عطروش.

أما الفتى الأسمر صاحب الظل الخفيف والشخصية المتناسقة المتسقة، الفنان محمد محسن عطروش، فإنه يكاد يقول منذ البدء "أنا لها"، فيضع حافراً على حافر لصوت أبين الموازي والرافد لنهضة عدن ولحج الغنائية في الخمسينية ذاتها.

لا شك أن الغناء فطرة إنسانية مستجابة منذ قلد الإنسان نُواح الطير وشكاه على الأغصان. وكانت خصوبة المرعى الوجداني المفترض تدفع (العطروش) الفنان باكراً لا إلى محاكاة فن كل ما هو قائم، بل ليصنع بكلتا يديه نسيجه الخاص بألحان تضعه في مصاف وطليعة الفنانين الكبار من أقرانه في تلك الفترة. ورفعت ألحانه فنانين إلى المحل المرموق في دنيا الموسيقى والطرب بروعة ما لحّن لهؤلاء ألحانا ناسبت مستويات القرار والجواب في الصوت وطبقاته، فكانت جواهر صاغها (جواهرجي) حاذق.

ولنلاحظ من غناه العطروش بألحانه:
محمد صالح عزاني، صوت (سريالي) يحتفظ بخامة وشيجة بسيد الغناء (زرياب) العجيب، ولكن العهدة تكون للعطروش المتقدم في مستويات صناعته اللحنية بما يناسب العزاني الأسمر الجميل. وأستطيع أن أجزم أن أحدنا لن تفتنه (تسألني كيف الحال) فحسب، بل ستطوف به فوق السحاب.
أما عوض أحمد فلا نستطيع إلا أن نصفق بحرارة للصوت الآتي من جريان السيول في (حسان) وحفيف الأشجار في (عبر عثمان) وبفيضانات الطمي في ساحل (شقرة)، صوت عوض يصل بعنفوان أو توجه إلى عمق الوجدان دون استئذان أو أن تختار.

دعونا إذاً نعترف أن صناعة (فنان) عسيرة ولكنها ليست بالعسيرة على العطروش لتراكم المعرفة الموسيقية واللحنية والطربية التي يمتلكها العطروش الكبير.
يصيغ العطروش معطياته الموسيقية بالموروث والخبرة والعلم معاً، ولن يجد الرجل عنتاً وهو يساوق اللحن بينه وبين الآخرين، فيعطي لكل ذي صوت ما يناسبه بما في ذلك رخامة الصوت عند صباح منصر ورجاء باسودان.

وألحان العطروش أشبه بصياغات موسيقية فريدة تأخذ من الموروث وتطوف بك في (المودرن) مستفيداً من غزارة الأدب الإنجليزي الذي تلقاه طالباً في القاهرة المُعزّية ومن رحاب مدرسة الموسيقار محمد عبدالوهاب والسنباطي وعبدالحليم وفريد وسواهم. يعطي للموسيقى مداها الصاخب وحفيفها الهامس ليكون العطروش حاضراً في نسيجه الموسيقي بارز الملامح والشخصية.

في إحدى أغانيه التي لم ترَ النور "مخلف صعيب، أو تاج النهار" للشاعر ذي يزن (عبدالفتاح إسماعيل)، يفعل العطروش الأفاعيل في لحنه، من المقدمة الموسيقية التي أتى بها إتيان العارف المتمكن من مقدمة فضل محمد اللحجي لأغنية "وا مغرد" إلي تنوع الـ (كوبليهات) ما يجعل هذا اللحن خارج المألوف حقاً.

لم يكن ليعوز العطروش الشعر ليكمل نسجه المتقدم للألحان التي تربى على نفحاتها المطربة جيلان كاملان من أبناء الوطن، فلقد وجد ضآلته في قريبه ورفيق دربه الشاعر عمر عبدالله نسير، وكان (هو نفسه) ضآلة نسير التي يتخلق من خلالها صيتاً ذائعاً بين الناس. إذ أن غاية الشعر إنما هو الجمهور، ولن يكون الجمهور بذلك الزخم بغير اللحن والأداء مند عزة الميلاء وابن سريج وعليّة وأخيها إبراهيم العباسي، إلى الموصلي وابنه وزرياب العظيم، وحتى القمندان وفضل محمد وليس انتهاءً بـ العطروش ونسير.

سوف نستمع للعطروش جيلاً بعد جيل، وهو يردد كلمات نسير: (يارب من له حبيب، جاني جوابك، التوبة، مر طيفك، ليه كذا بالله، بالله اعطني، يا بائعات البلس، هيب هيب، يا هلي، مطنوش والنوبي، أبو منصور، ذي سرحوا البوش، للمه للمه، يا حلان الشجر، ودعتك..) وغيرها كثير.
وللأمانة، فإن قلب العطروش النابض تباريح وجد وصبابة لن يكتف بمنطوق اللحن والأداء فقد قال شعراً غنائياً رائعا بز به بعض أقرانه من الفنانين، فمن أشعاره:

ما على العاشق ملامة، عاملوني صفا، أماه، من خان لا كان، فراق الأحبة.. وغير ذلك كثير.

إن تجربة الوطن والثورة تكاد تكون لدى العطروش قصة إنسان خاض بأدواته الفنية نضالاً وطنياً لا مهادنة فيه أو مداهنة، جاهر بانتمائه للوطن وللشعب لا ساكتا كالشيطان الأخرس ولا متوارياً عن قول ما يريد قوله. فقد سبقت "برع يا استعمار" قيام الثورة وقد كانت هي ثورة بحد ذاتها يعتز بها صاحبها كما يعتز بها جيلان من أبناء الوطن، رغم تغيّر كثير من النفوس وتبدل كثير من الوجوه، فنحن شعب حي لا يتنكر لنضالات الآباء والأجداد ولا يحاكم التاريخ من خارج التاريخ.

كان العطروش في "أماه" ذوبان روح ومحاكاة صوفية لتراب الوطن، أما "بوس التراب"، فهي صياغة وجدانية لمعنى التأثير والتثوير في مجموع الشباب للامتزاج بتراب الوطن والدفاع عنه دون مهابة أو تردد واسترخاص النفس في سبيله.
والمتابع الفطن سوف يعرف أن هذه الأغاني لم تكن مناسباتية تموت بانتهاء المناسبة ولكنها جزء أصيل من الذاكرة الموسيقية الجمعية لشعب ووطن ظلت تتردد على كل الألسن حتى اليوم.

وكان العطروش مستعداً دائماً للتضحية بنفسه في سبيل الكلمة الحرة الصادقة دون التفكير للحظة في الاعتذار والتراجع عن مواقفه الفنية والأدبية مهما كلفه ذلك من أثمان باهضة.
فعندما تعجز الثوار، وهم على بعد خطوة من تسنم حكم الجنوب، مفهومية ما في المعنى من معنى، ويؤولونه وما يريدون فكان الحكم جائراً جداً حتى بحضور سالمين على العطروش الذي كان ثائراً قبل الثورة نفسها، وعندما يتدخل الأستاذ أحمد سالم عبيد لدى كبيرهم يتم تعليق الحكم.

وفي وساطة بن عبيد دلالة أخرى تترجم معنى أن يكون الثائر المثقف كعبه عالٍ من ثوار أنصاف متعلمين أو أميين.

ومن هذه الوساطة تقريب منطقي للصحبة المبكرة بين المناضل أحمد سالم عبيد، صاحب السيف والقلم والفنان الرائع المناضل محمد محسن عطروش تقاربت القلوب والأفكار قبل أن تتقارب البيوت والجيرة الطيبة في مدينة الشعب الجميلة فأثمرت تلك الأغنية الخالدة: "ألا ليه وا هاجري" التي يستطيع العطروش أن يتكلم عنها طويلاً فهي فيضان موسيقي متناغم بإيقاعات شرحية تشجي الأحجار والأشجار فما بالنا بالإنسان.

العطروش محمد محسن عبدالله، آخر الكلاسيكيين العظام في الغناء اليمني الحديث.. ندعو الله تعالى أن يمتعه بالصحة ويأخذ بيده للعافية ويمد في عمره، إنه سميع مجيب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى