غزال التخرج "قصة قصيرة"

> صالح شنظور

> كانت لغة العيون هي لغة التعبير الوحيدة التي أستطيع من خلالها أن أرسل أصدق مشاعر الإعجاب دون أن أتعب نفسي بتنقية الحروف وتركيبها، والتي قد تعرضك للإحراج الشديد.
كانت القاعة تضج بالحاضرين، لكنني كنت لا أرى أحدًا غيرها، لم يكن بجوارها أحدا، كانت شبيهة بالغزال الشارد وهي تبحث عن ملجئ ما في الغابة.

كان نظري مثبتًا نحوها بشدة، لم تكن تشعر بنظراتي وهي تمسك برموش عينيها وتعانقاها مع كل غمضة عين، وكلما حاولت أنا القي بنظري بعيدًا كي لا أفزع تلك الغزال الشارد؛ لأن الموضوع معقد فالغزالة محتاجة لترويض؛ تأبى عيناي إلا أن تنظر نحوها، والناظر لتلك الغزال يقود نفسه نحو هلاك محتم!
انتظرت منها أن تأتي إليّ وتنقذني من الهلاك الذي حل بي، حالي كحال رجل ملق في أعلى قمة جبل ويتمسك بعشب صغير وينتظر من أحدهم أن يلبي نجدته قبل أن يسقط إلى الوادي ويهلك وبيديه عشبا ليس بمقدوره إنقاذه.

يذكر مقدم الحفل اسمها بصوت مرتفع وترافقه صفقات الحاضرون - ما هذا هل المكان مزدحما بهذا القدر! نعم لقد كان المكان مزحمًا، إنه حفل تخرجها من الكلية، وقد حصلت على درجة الامتياز وتفوقت على جميع زملائها.

قامت من مقعدها ومشت إلى المنصة بقوام متناسق وبطول رهيب وبجسم موزون، طويلة الأنامل، بيضاء البشرة، واسعة العينين، واضحة الملامح، قامت تتخطى الحاضرين وهي ذاهبة لتستلم درع نجاحها وتفوقها؛ ساد القاعة صمت رهيب، لم يحرك أحد ساكنا؛ حتى العمداء والدكاترة أنفسهم وقفوا مدهوشين ينظرون لها وكأنها حورية نزلت من السماء، أحدهم أراد أن يحقق رغبة الجميع بمداعبة أناملها الناعمة براحة يديه؛ لكنها كانت فطنة وذكية أذكى منه فرفعة يدها اليمنى إلى جوار أذنها لتلقي تحية الجندي الشجاع عليهم ووضعت اليسرى على صدرها "عذراء يملؤها الحياء" بعد أن لوحت بها للحاضرين.

أخذت درعها ثم نزلت مسرعة حتى لا تلاحقها عدسات المصورين التي لا تترك فرصة التقاط صورة العدد لهذا الأسبوع.
تابعت كل تفاصيل هذه الأحداث عن كثب، كنت قلق عليها جدًا، فمجرد النظر لها كان يؤذيني، بعد أن عادة لمقعدها انتظرت منها أن تلبي ندائي وتنجدي لها، لكنها عادة لتتابع فقرات الحفل الذي تمنيت لو أنني مقدمه حتى أستطيع أن ألفت انتباهها فتشعر بوجودي، لأحصل على شرف نظراتها..

انتهى الحفل وركضت مسرعا باتجاه مقعدها، لكنني لم أجدها لقد خرجت من القاعة.
يا الله! لا أريد أن أسقط في ذلك المكان.

لحقت بها لأجدها في المطعم المجاور للقاعة تتناول كوبا من الشاي منفردة ولا يشاركها أحد على الطاولة، ربما أزعجها ضجيج الحفل، وصوت مقدمه وآن لها أن تحتسي كوبا من الشاي الأخضر حتى تحافظ على تركيزها ولا تكن فريسة سهلة، فوجود هذه الغزال في مكان ممتلئ بالوحوش المفترسة يعد خطرا كبيرا يهدد حياتها، ويقع على عاتقها الحفاظ على تركيزها حتى لا تصبح لقمة سائغة لتلك الوحوش المفترسة والتي تهديد وجود الجمال، إذًا لا قلق؛ فهي قادرة على إبعاد كل هذه الأخطار.

لكن كيف يمكنها أن تواجهها دون أن يشاركها أحدا على الطاولة، لابد أن تحافظ على بقاء هذا النسل! نعم يجب لهذا النسل أن يتكاثر!
سأشاركها الطاولة وأحتسي معها كوب الشاي قلت لنفسي، ولنرسم معا خطة البقاء على هذه الطاولة البيضاء، سأكون سببا في حفظ هذا النسل من الانقراض وأحفظ للوجود جماله!.

اقتربت منها بخطىً متقاربة، كان العرق يتصبب من كل مكان في جسدي، ترتعد فرائصي، ازدادت نبضات قلبي، تشتت أفكاري، تلعثمت لساني..

أهلا تفضل؟
بادرتني بالحديث بشكل مفاجئ كم هي شجاعة، يُعرف عني الجرأة، وأوصف دائما بها، لكنني اليوم لا أملك من الجرأة شيئاً، لقد ضاعت تمامًا، إنني في موقف لا أحسد عليه أبدا، كنت أتوقع بأنها بعد أن تنقذني بنظرتها من السقوط سأقوم بعناقها فرحًا بالحياة الجديدة التي وهبها لي الله بنظرة عينيها الواسعتين؛ لكن! لم يتحقق شيء مما ظننت، لقد بادرتني بالحديث بتلقائية، وعفوية، وببرودة تامة! وكأنها لم تعلم أنها أعادتني للحياة بنظرتها ليّ، أيعقل أنها لم تشعر بمعانقة نظري لرموش عينيها السوداويتين؟!

سلمت عليها، وقتلت لها: أحببت أن أبارك لك تخرجك وتميزك، حقًا أنتِ فتاة رائعة، بمثلك تفتخر المجتمعات، بمثلك تنهض الأمم، لكم أننا فخورون بك سيدتي.
تبسمت ثم وضعت أناملها الملساء الطويلة على فمها لتخفي ضحكتها الكبيرة التي سرعان ما انفك حياؤها بضحكة أظهرت لمعان أسنانها البيضاء المتراصة بشكل عجيب ومبهر، يا الله ما هذه الفتنة التي قادني إليها القدر؟ ما هذا الملاك الذي أراه أمامي؟ لا أظن أنني رأيت أنثى بهذا القدر من الجمال والحياء قبل يومي هذا!

وبين ضحكتها الأنوثية ونظراتي التأملية يقاطعنا صوت خطىً مسرعة إنها لمقدم الحفل المزعج الذي يزعجك أكثر لحنه في اللغة فقد نصب بنا المرفوع وجزم بنا المنصوب وها هو ينصب لقاءنا الذي منع نصبه التعذر والحاجة!
حبيبي ما الذي أخرك لقد برد الشاي وأني أنتظرك؟

المعذرة منك خطيبتي الجميلة تأخرت مع بعض الزملاء الذين يريدون التقاط صورا تذكارية.
أصبت حينها بصدمة كبيرة، وغادرت المطعم وحيداً منكسراً، عدت منه خال اليدين، غادرته وأسراب الخيبة والحسرة تجرني.. يا للعنة لماذا أنا تعيس الحظ!.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى