حراك دبلوماسي أوروبي في اليمن.. الدوافع والتحديات

> "الأيام" مركز الإمارات للسياسات

> بدأت خلال الأسابيع الماضية تحركات دبلوماسية أوروبية نَشِطَة في مسعى لتحريك ملف محادثات السلام المتعثرة في اليمن، ومن ذلك قيام وفد أوروبي ضَمَّ سفراء كُلٍّ من الاتحاد الأوروبي وفرنسا وهولندا والسويد لدى اليمن بزيارة لكلٍّ من عدن وصنعاء، حيث التقى بمسؤولي حكومة الرئيس هادي المعترف بها دولياً وعدد من كبار قادة الحوثيين، وعقَد السفير البريطاني لقاءات مع كُلٍّ من رئيس مجلس النواب ووزير الخارجية ومستشار رئيس الجمهورية، رئيس لجنة متابعة تنفيذ اتفاق الرياض.

دوافع الحراك ومساراته
يتحرَّك الأوروبيون بدوافع اقتصادية وأمنية وسياسية وأخرى إنسانية، فلديهم مخاوف من استمرار الصراع في اليمن، لاسيما لجهة أن من شأن التوتر الذي تشهده المنطقة بين إيران وخصومها أن يجعل انفجار الوضع في اليمن الفتيل الذي قد يُطْلِق حرباً مدمرة تشعل كل المنطقة، وهو ما سيُمثِّل تهديداً لإمدادات النفط والملاحة الدولية، ويتسبَّب بتفاقم الأوضاع الإنسانية، عدا عن التسبُّب بموجهة هجرة ولجوء كبيرة إلى أوروبا، وهذا يعني أن الاهتمام الأوروبي يأتي أساساً نتيجة ارتباط الصراع في اليمن وتداخله مع الأزمة الإقليمية التي يُمثِّلها التوتر بين إيران والأمريكيين وحلفائهم، ويعني أن تحركات الأوروبيين مدفوعة في المقام الأول بالرغبة في تخفيف التكاليف المحتملة للصراع المستمر، وليست مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف إستراتيجية بالضرورة، ومع ذلك لا يمكن فصلها مع التوجه الجديد في السياسة الخارجية الأوربية الذي يقضي بلعب دور أكثر فاعلية في المسرح الدولي، وهو توجُّه عكَس نفسَه في إطلاق الأوربيين العديد من المبادرات وقيامهم بتحرُّكات بشأن أكثر من ملف ساخن في المنطقة، كما هو الحال في الملف الليبي. وفيما قد يكون له صلة بهذه السياسة، كان المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية قد أوصى في تقريره الصادر في 23 يناير 2020 بزيادة جهود الوساطة بين اليمنيين.

وفيما يخص حدود هذه التحركات، فالأوروبيون يتحرَّكون على أساس اعتقادهم بأن الحرب يجب أن تتوقف وأن الظروف مواتية أكثر من أي وقت مضى للتوصُّل لتسوية سياسية، وأن هذه التسوية يجب أن تكون شاملة، على اعتبار أن هناك ظروفاً جديدة تجعل الحلول والاتفاقات الجزئية غير مناسبة، وأن على أي تسوية أن تتم على قاعدة المكاسب الفعلية على الأرض، وهو ما قد يعني تجاوز اتفاق ستوكهولم، وقد يعني -وهذا هو الأهم- إعادة النظر في التعامل مع مرجعيات الحل السياسي الثلاث، ولكن دون تجاوزها أو إلغائها بالضرورة.

ويقولون إن تحركاتهم تأتي في سياق دعم الجهود الأممية، ولم يُصرِّح أيُّ مسؤول ولا أي جهة أوروبية بوجود رؤية أو مبادرة أوروبية أو خطة متكاملة للسلام. ومع ذلك هناك ما يشير إلى أن هذه التحركات تأتي في سياق إطلاق خطة أشمل بالتنسيق مع أطراف دولية وإقليمية، فالمبعوث الدولي نفسه أعلن العزم على إطلاق خطة سلام شاملة هذا العام؛ ووفقاً للسفير البريطاني ("قناة الحدث"، 28 يناير 2020)، فإن لدى المبعوث أفكار ومقترحات تخص خطة سلام كهذه يبدو أنه متفق عليها مع الأوروبيين والأمريكيين. ونقلت تقارير إعلامية عن مصادر دبلوماسية، قالت إنها مطلعة، أن هناك رؤية (أوروبية، أمريكية، أممية) مشتركة في مرحلة البلورة تنتظر موافقة التحالف العربي عليها، وأنها قائمة على توسيع اتفاق السويد في جانبه العسكري والأمني والإنساني، وقائمة في الجانب السياسي على مبادرة جون كيري الخاصة بترتيبات الحل النهائي ("العرب"، 30 يناير 2020). وفي سياق متصل، تحدثت تقارير إعلامية عن جهود تبذلها سلطنة عمان للتقريب بين الفرقاء اليمنيين، ولا يُعرَف ما إذا كان لتحركات العمانيين صلة بالتحركات الأوروبية والأممية ("الشرق الأوسط"، 22 يناير 2020).

وعلى كل حال، يمضي نقاش الأوربيين مع أطراف الصراع في اليمن في ثلاثة مسارات: بحث ودعم تنفيذ اتفاقي ستوكهولم والرياض وتشكيل حكومة يمنية جديدة، والدفع باتجاه تنشيط المسار السياسي، وتعزيز التهدئة بين الحوثيين والسعودية.

وتُبيّن التحركات الأوروبية الأخيرة أن الملف اليمني بات، وبصورة متزايدة، محل اهتمام المجتمع الدولي، وأن ثمة رغبة متزايدة في إنهاء الصراع القائم. وبقدر ما تشير إليه هذه التحركات من وصول القوى الدولية إلى قناعة بفشل الحلول والاتفاقات الجزئية، واستعدادها لإعادة النظر وتجاوُز مرجعيات الحل السياسي القائمة، فإنها تشير أيضاً إلى أن الأمور تتجه إلى مزيد من التدخُّلات الدولية في الملف اليمني، وتشير كذلك إلى أن اللاعبين الإقليميين المتورطين في هذا الصراع يرغبون أو على الأقل منفتحون على أي جهود للتوصل لاتفاق سلام يُنهي دوامة الحرب.

مستقبل التحركات الأوروبية
لدى الأوروبيين ما يساعدهم في مساعيهم، فأوروبا تظل مهمة بدورها الدبلوماسي والسياسي والثقافي، وبتاريخها. وكما صرَّح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، مؤخراً، فالدول الأوروبية، أو بالأصح غالبية الدول الأوروبية، تتمتَّع بقنوات اتصال موثوقة مع جميع الجهات المتورطة والمعنية بصراعات الشرق الأوسط. ولدى الأوروبيين أوراق أخرى، كمبيعات السلاح، والورقة الاقتصادية. وفيما بدا أنه تحفيزٌ لأطراف الصراع المحليين، تعهَّد الاتحاد الأوروبي، في بيان له في 30 يناير 2020 باستمرار شراكته ودعمه الراسخ لليمن وشعبه في جميع مجالات التعاون، كما سبق ذلك بأيام قليلة إعلان المفوضية الأوروبية عن تخصيص 382 مليون دولار، من ميزانيتها الإنسانية السنویة الأولية، لليمن وسوريا، لعام 2020.

ويبقى الأهم أن الحراك الدبلوماسي الأوروبي الراهن يتمتَّع بموقف دولي مؤيِّد، وتتحدَّث تقارير إعلامية أن الخطة التي يعمل عليها الأوربيون والأمريكيون يمكن فرضها عبر مجلس الأمن الدولي. وفيما قد يشير إلى حضور فكرة فَرْض خطة ما عن طريق المجلس، تقدَّمت بريطانيا وبالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي نهاية يناير الماضي بمشروع قرار مُلْزِم لوقف إطلاق النار في اليمن. وأكَّد مجلس الأمن في بيانه الأخير (30 يناير 2020) على ضرورة وفاء جميع الأطراف بالتزاماتهم بموجب القانون الإنساني الدولي، وبضرورة ضمان المُساءَلة عن الانتهاكات في اليمن.

في المقابل، هناك ما يفرض حدوداً لما يمكن للأوروبيين القيام به، فهم يعانون من نقاط ضعف عديدة، وما زال ثمَّة ما يُحاصِر فرص تحركاتهم. فهم لا يمتلكون فهماً عميقاً للصراع اليمني وتعقيداته ولا لشبكة العوامل المتداخلة التي تحكمه، وسياسة النأي بالنفس والتواري خلف الدور الأمريكي التي انتهجتها الدول الأوروبية في العقود الماضية دفعت بها للخلف وأضعفت حضورها وتأثيرها خارج أوروبا، وأتاحت الفرصة لهيمنة قوى أخرى، وانتهت بتقدير متواضع للأوربيين ولأدوارهم ولما يمكنهم القيام به، وهي نتيجة أظهرها وكرَّسها في نفس الوقت الفشل الأوروبي في مساعي الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني والفشل في التوسط بين الإيرانيين والأمريكيين.

وفي اليمن، هناك ما يشي بتقدير متذبذب لدى أطراف الصراع للمساعي والأدوار الأوروبية، فبقدر ما يُفترَض أن وصول الوفد الأوروبي إلى صنعاء يُشجِّع جماعة "أنصار الله" الحوثية على التفاعل معه ومع مساعيه، إلا أنه ما من شيء يشير إلى حصول أمرٍ كهذا، إذ أظهر الحوثيون على ما يبدو تشدُّداً خلال نقاشاتهم مع الوفد الأوروبي، ونقلت تقارير إعلامية عن قيادات في الجماعة قولها إن سلطة صنعاء وضعت شروطاً لاستئناف التفاوض، تتمثَّل في الوقف الشامل لإطلاق النار في كل الجبهات، ورفع الحصار بشكل كامل، واتخاذ إجراءات لبناء الثقة وبشكل عاجل، وفي مقدمتها تحييد العملية الاقتصادية ودفع مرتبات موظفي الدولة وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي والسماح بالدخول الدائم للسفن التجارية والإنسانية. ومن الواضح أن هذه شروط يصعب الوفاء بها في هذه المرحلة.

وكانت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، في تعليقها على مساعي المبعوث الدولي، قد أعلنت رفضها استئناف المشاورات حول الإطار الشامل للحل الذي تحدَّث عنه الأخير، وطالبت بتنفيذ اتفاق ستوكهولم أولاً. وفي سياق متصل وذي دلالة، فإن زيارة الوفد الأوروبي، وبقدر ما أعطت الحوثيين إحساساً بالمكانة وأشعرتهم ببعض الزهو، وبقدر ما مثَّلت لهم، أو على الأقل بقدر ما اعتبروها، انتصاراً سياسياً وبمثابة اعتراف ضمني بسلطتهم وكَسْراً للعزلة السياسية المفروضة عليهم، فإنها في المقابل ولذات الاعتبارات أثارت حساسية حكومة الرئيس هادي وغضب أنصارها. ومع أن مواقف أطراف الصراع المحليين ليست ما يُقرِّر نهايات الأمور بل مواقف ورغبات حلفائهم الإقليميين، إلا أنها تظل تُمثِّل عامل إرباك، خصوصاً لجهة استنزافها للوقت وللمساعي الدبلوماسية.

ويبقى الأهم أن اليمن يقع اليوم في مركز لعبة إقليمية ويتغذَّى الصراع فيه على حالة كثيفة من التنافسات والتجاذبات السياسية والجيو-سراتيجية وحتى الدينية بين قوى إقليمية يعتبر بعضها اليمن وما يجري فيه مهماً لأمنه القومي، وهذه حالة نادرة في التاريخ اليمني، إذ قَلَّما شهدت صراعات السياسة في اليمن مثل هذا التعقيد والتشابُك والتورُّط الإقليمي والدولي. وسيبقى نجاح أو فشل الأوروبيين في مهمتهم مُتوقِّفاً إلى حدٍّ كبير على مواقف ورغبات الأطراف الإقليمية المؤثرة في الصراع.

وعلى الرغم ممَّا يبدو أنه اتفاق بين جميع اللاعبين على ضرورة إنهاء الحرب، وعلى أن ذلك يخدم مصالحهم، إلا أن تحديات الوصول إلى اتفاق سياسي والحفاظ عليه تظل كبيرة؛ فهناك، مثلاً، أطراف إقليمية قد تحرص على إبقاء الملف اليمني مفتوحاً حتى يُمْكِنها استخدامه للضغط على خصومها، أو حتى يتم البت في قضايا أكثر أهمية بالنسبة لها، وهذا حال طهران الذي ما زال هناك أيضاً ما يشوب علاقتها بالأوربيين، فمواقف وخطابات المسؤولين الإيرانيين تعكس اليوم عدم ثقة كبيرة تجاه أوروبا ودبلوماسيتها الإقليمية. وبالنسبة للسعودية، سيكون على أي رؤية أو خطة للسلام توفير الضمانات الكافية لضبط العلاقة مع الحوثيين في مرحلة ما بعد الحرب بما في ذلك آليات فك الارتباط بينهم وبين إيران.

خلاصة
كثَّف الأوروبيون حراكهم الدبلوماسي في اليمن مؤخراً بدوافع تتمحور حول تجنُّب مخاطر الصراع، ويبدو أنهم على تنسيق مع الأمم المتحدة وأطراف دولية وإقليمية لطرح خطة سلام شاملة، وتشير تحركاتهم إلى تنامي اهتمام المجتمع الدولي بالملف اليمني ورغبته في وقف الحرب، وإلى أن الأمور تمضي باتجاه مزيد من الضغوط الدولية على أطراف الصراع. وتُواجِه هذه التحركات بعض التحديات، أهمها تعقيد وتقاطع مصالح القوى الإقليمية المتورطة في الصراع والمتحكمة بأطرافه. لكنها في المقابل تتمتع بفرص مهمة، فهي مدعومة من المجتمع الدولي وجاءت بالتنسيق مع الأمم المتحدة وقوى دولية وإقليمية فاعلة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى