حكايات "ألف ليلة وليلة" تتمازج في ثقافات الأمم والشعوب (2 - 2)

> محمد عبد الرحمن يونس

> "ألف ليلة وليلة" في الرسم الغربي
كانت حكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لفناني العالم مكمناً للخيال الخصب. وكانت شهرزاد بالنسبة لهم مثالاً للمرأة المتمردة على علاقات مقصورات الحريم ونظمها وقوانينها وضوابطها، وفي الوقت نفسه مثالاً للجمال الشرقي الأخاذ والمعرفة والحكمة والذكاء الذي استطاع أن يردع شهريار عن استمراره في قتل بنات مدينته. فاستوحوا أجمل اللوحات الفنيّة من شخصيتها ومن هذا الجمال الذي بدا لهم أقرب إلى الأسطورة.

وكانت رحلات السندباد البحري، بعوالمها الغرائبية والسحريّة الموشومة بالعفاريت والجنّ والسحرة، معيناً لا ينضب وقادراً على أن يشكِّل مزيداً من اللوحات الفنيّة.

فمن أجواء "ألف ليلة وليلة" استوحى إنجر وماتيس وغيرهما أجمل لوحاتهم، فرسموا الجواري وحظايا السلاطين. أمّا ديلاكروا فقد فتحت حكايات ألف ليلة وليلة آفاق مخيلته الرحبة، فسافر إلى المغرب والجزائر وأقام فيهما، وبدأ يرسم النساء العربيات الغارقات في نعيم القصور وعزّها، ورسم من وحي ألف ليلة وليلة لوحته المشهورة "نساء الجزائر"، وكذلك فعل الفنان فان دونجن في لوحة "راقصة شرقية".

لقد دخلت حكايات ألف ليلة وليلة في نسيج التركيب المعرفيّ للثقافة الأجنبية على اتساعها الزماني والمكاني، وأثّرت فيها تأثيراً شديداً، ولا تزال تؤثّر حتى الآن. ويصعب على أيّ باحث، مهما كان واسع الاطّلاع والمعرفة، أن يكشف عن جميع جوانب هذا التأثير، في جميع الأجناس الأدبيّة، سواء أكانت أوروبية أم أمريكية أم آسيوية، أم غير ذلك.

فأهمية حكايات ألف وليلة تكمن في كونها تعبّر عن رؤية شمولية لحياة المجتمعات الإنسانية، في حضارات متعدِّدة ومتعاقبة ومتزامنة بأحلامها وأفراحها وأحزانها ومصائبها وخيباتها وتناقضاتها، ولكونها تتوغل عميقاً في أغوار النفس الإنسانية لتكشف عن كوامنها الخفيّة وما يعتمل في هذه النفس من شرور وآثام من جهة، وصفاء ونقاء وحبّ للخير والفضيلة من جهة أخرى.

ومن هنا فإن هذه الحكايات تجسّد كثيراً من الرؤى والمفاهيم والقيم التي تؤمن بها الجماعات البشرية، والتي تتعامل بها مع جماعات أخرى، وفي مجتمعات أخرى.

إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تمتّد بعيداً لتشمل حضارات ومدناً قامت عبر التاريخ، لأنها حكايات عربية وفارسية وهندية ويونانية. وقد كان للمثاقفة الحضارية بين الأمم والحضارات دور كبير في جعل ألف ليلة وليلة عملاً عظيماً، متشعب المعارف والاتجاهات الفكريّة، وفضاءً واسعاً تلتقي فيه مدن العالم الكثيرة، وتتجاور وتقيم علاقاتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والتجارية.

وتشير نصوص ألف ليلة وليلة إلى أنّ كثيراً من مدنها من بغداد إلى الهند كانت تتقارب في ملامحها وعلاقاتها وعاداتها، وطبقاتها الاجتماعية وجمال جواريها وعبث شطارها ولصوصها وبطش خلفائها وملوكها وعظمة قصورها وجمال بساتينها وازدهار تجارتها واتساعها. وهذه الملامح شبيهة إلى درجة كبيرة بملامح المدن المتخيّلة التي شكّلها رواة الليالي من خيالهم الخصب وأحلامهم الجامحة وقراءاتهم المتشعبة في التاريخ والتراث والعمران والسياسة.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت ألف ليلة وليلة بالنقد والتحليل، فإنّ هذا العمل الأدبي المتميز يبقى غنياً بموضوعاته الكثيرة التي لم تتطرّق إليها الدراسات الأكاديمية والنقدية بعد. فالأبحاث العديدة التي تناولت هذه الحكايات لم تستطع حتى الآن أن تفسّر جميع النصوص الحكائيّة المدروسة تفسيراً دقيقاً، محيطة بجميع أبعادها وحمولاتها المعرفيّة والإيديولوجيّة، لأنّ الأبحاث القادرة على الإحاطة بجميع أبعاد ألف ليلة وليلة تحتاج إلى جهودٍ عدّة باحثين ومختّصين وخبراتهم في مختلف ميادين المعرفة والعلوم الإنسانيّة، والثابت أن نصوص ألف ليلة هي نصوص متشعّبة، وتنتمي إلى حضارات متعدِّدة وقابلة لأن تُفهم وتُفسّر تفاسير متباينة ما بين باحث وآخر.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى