عدن والإدارة الذاتية

> قاسم عبدالرب العفيف

> أعلن الانتقالي الإدارة الذاتية في عدن وهي تعيش أوضاعاً مأساوية في كافة مناحي الحياة بفعل سياسة الشرعية التي أعلن عنها مسؤولوها بأنهم لن يسمحوا بمدها حتى بأدنى مقومات الحياة الطبيعية حتى لا تتم تقوية المشاعر الانفصالية عند الجنوبيين، حسب قولهم، ومورست هذه السياسة منذ اليوم الأول لتحريرها من الغزو الحوفاشي حتى اليوم، وفي نفس الوقت صادف أن اجتاح عدن منخفض جوي تسبب في خسائر مادية وبشرية، وكذا انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كلها مجتمعة شكلت عامل ضغط عَلى المجلس الانتقالي ليتحمل مسؤوليته التاريخية تجاه شعب الجنوب في إدارة أمره ذاتياً حين تخلت الشرعية عن مسؤوليتها الأخلاقية والرسمية عدا عدد من التصريحات الإعلامية الجوفاء التي تستعطف العالم لتتسول المعونات، والتي تذهب هذه المعونات في الثقب الأسود التابع لها

عدن كانت ولازالت مدينة مفتوحة يدخلها من هب ودب دون ضوابط تمكن الفساد من الانتشار في كل مناحي الحياة، وكانت تلك سياسة متبعة منذ احتلالها في العام 94م، واستشرى فيها كل ما هو عشوائي، وهنا العشوائية ليست في البناء بأي مكان يخطر على بال أحد (في وسط الشوارع أو في المنتزهات أو في الجبال أو في مجاري السيول أو على ممرات الصرف الصحي أو على كابلات التيار الكهربائي وغير ذلك)، وَلَكِن العشوائية عشعشت في عقول الناس واستوطنت تفكيرهم وأضحت المتحكم فيهم وأصبح القانون والنظام من مخلفات الماضي، وأصبح المسؤول في أي مستوى بجهازها الإداري المدني والعسكري لا يحده أو يردعه أي قانون أو نظام، ويعمل ما يريد كما يحلو له، وأصبح الفساد ثقافة وعنصراً مهماً في حياتهم وحتى المواطن العادي متعايش مع هذا الوضع ولا أحد يستنكر أي تصرف مخالف للقانون والنظام والعقل والمنطق، وكل ذلك أصبح سمة من سمات العيش الذي تحول إلى واقع والجميع يعتبرونه من سمات الحياه الجديدة والواقعية في نظرهم، حيث ينطلق المسؤول بسرعة الصاروخ دون أدنى عناء يبذله ليجد نفسه من الطبقة الراقية التي تمتلك العقارات والشركات في غمرة عين ويأمر وينهى ولا يقف أمامه أي شيء لا ضمير ولا وازع ديني ولا أخلاقي وأحيانًا أصبح الدين حصان طروادة ومن لوازم الانطلاقة السريعة نحو (القمة).

عدن في زمن مضى عاشت في ظل النظام والقانون هادئة ومستقرة، وكان الجميع ملتزماً به وبالعيش المشترك، فالجميع يعيش وينشط ويعمل ويتاجر ويستثمر وحتى يرتقي سلم الوظيفة تحت مظلة النظام والقانون، ولا أحد لديه حصانة ولا أحد فوق القانون ولا أحد يستطيع أن يتجاوز النظام حتى عام 90 على سبيل المثال لا أحد يستطيع تجاوز الإشارة الضوئية الحمراء في تقاطع الطرق حتى وإن كان الشارع خالياً من السيارات في منتصف الليل، واليوم بحجة أن عدن ملك للجميع رغم معرفتهم بسعتها وطاقتها الاستيعابية المحدودة يتسلل إليها الجميع، ومن كل أرجاء اليمن وأضيف لها سيل من النازحين من كل الأنحاء بحجة الحرب تحت رعاية رسمية من حكومة الشرعية، وكذا أفواج من اللاجئين الأفارقة بعشرات الآلاف أغرقوها بفيضان من البشر الذي لازمه وجودهم فيها، وتدخلت فيها السياسة لأهداف تغيير الوضع ديموغرافي، وخربت كل ما كان نير من قيم وأخلاق وثقافة وتعايش وانسجام، وتجمع البلاطجة يسرحون ويمرحون في أرجائها ومن ضمن ذلك تسربت إليها الخلايا النائمة لتستوطنها، التي تأتمر بأمر من يريد أن يفرض على عدن نمط عيش جديد يأتمر بأمر العصابات التي تريد أن تضع نفسها فوق القانون والنظام.

ونحب أن ننوه بأن من كان يعيش في عدن قبل الطوفان كان من المستحيل أن لا يدفع ثمن فاتورة استهلاك الماء والكهرباء، وفي عدن أيضاً من المستحيل إدخال خدمات الكهرباء والماء لمبنى عشوائي، بل من المستحيل أن يتجرأ أحد على البناء العشوائي حتى في الضواحي، وكان من المستحيل أن تمر فوق شرطي المرور أو أن تمر بسيارتك في شارع ممنوع الدخول حتى لو كان الشارع داخلياً، كان النظام والقانون سيد الموقف فقد كانت عدن مليئة بالمعسكرات، لكن من المستحيل أن تجد قائداً عسكرياً أو ضابطاً أو جندياً يتدخل في شؤون الإدارة المحلية، وكان من النادر أن تجد طقماً عسكرياً يتجول في المدينة أو أن تجد قائداً عسكرياً يغلق الشارع بالمكعبات الأسمنتية حفاظاً على أمنه الشخصي أو يجول بحراسة في المدينة.

القانون والنظام متأصل في عقول وقلوب سكان عدن، وكان من المستحيل أن تجد موظفاً يرتشي أو يتجرأ على أن يمرر معاملة تخالف النظام والقانون الجميع وكان ملتزماً تلقائياً، وهذه كانت أهم شروط العيش في عدن المدينة التي كانت المنارة الوحيدة في جنوب شبه الجزيرة العربية التي عرفت النظام والقانون من بداية القرن التاسع عشر حتى تسعينات القرن العشرين الماضي، وكان يتعايش فيها كل أجناس الأرض ممن سكنوا فيها بأديانهم وثقافاتهم تعايشوا وتاجروا، وتمازجت الثقافات ولم تتصارع لا الأديان ولا الثقافات، وكان الجميع يعيش تحت مظلة القانون والنظام عيشاً كريماً مشتركاً، وكل واحد يعرف حدوده فيسود الاحترام فيما بينهم والمودة.

بعد حرب 94م وضعت عدن كغنيمة للمنتصرين وجردت من مدنيتها، وأول اعتداء كان على النظام والقانون تمثل بالنهب والسلب للمؤسسات الحكومية والمصانع والمدارس والمستشفيات، وكأن عدن مدينة معادية، وبعد ذلك نقلوا كل أنظمتهم التي جلبوها معهم من صنعاء وجيشهم وأمنهم وقبائلهم وأصبحت عدن فريسة للجهل والتخلف تعاقب عليها حكام ضعاف ينفذون رغبات حكام الهضبة، وتم البسط على أراضيها وتوزيعها كغنائم حرب للمنتصرين مع مصانعها وشركاتها وأساطيلها البحرية والمدنية والجوية والبرية، وفتحت أبواب عدن لمن هب ودب وتضاعف عدد السكان أضعافاً كثيرة دون أن يرافق ذلك توسع الخدمات الضرورية، وتحولت إلى مدينة عشوائية فقدت مدنيتها وتحضرها، وسمحوا للبناء العشوائي في كل مكان بما في ذلك الجبال والشواطئ وغير ذلك، وكان الهدف تعطيل وظيفتها كمدينة ساحلية وهبها الله ميناءً طبيعياً يخدم التجارة العالمية والاستثمار كمحطة ترانزيت عالمية، وتعمدت كل الإدارات المتعاقبة على عدن تعطيل هذا الدور وذلك بتوزيع للأراضي المخططة للمناطق الصناعية الحرة، ثم تحويل وظيفتها إلى شيء آخر لا يمت بصلة بالميناء وأيضاً تم إلغاء المسارح ودور السينما وتعطيل التنوير والثقافة، وكذلك دمروا البنية الأساسية بأدوات الثقافة والعلم والتنوير، والهدف تحويل عدن كما خططوا الى قرية، وهذا ما تم إنجازه حتى الآن

بعد تحرير عدن، ولم يتغير الأمر فقد واصلت الشرعية المتحكم فيها حزب الإخوان المسلمين سياستها التدميرية لعدن، بل شنت حروباً أخرى تتصل بمعيشة الناس من قطع المرتبات وتعطيل خدمات الكهرباء والمياه ونشر الفوضى والإخلال بالأمن من خلال تبني خلايا القاعدة وغيرها في مواصلة مسلسل اغتيال القيادات الجنوبية، إضافة إلى تشجيع الهجرة لعشرات الآلاف الأفارقة من القرن الأفريقي، ونزوح عشرات الآلاف من المدن اليمنية بحجة الهروب من الحرب وتوطينهم في عدن بعلم ورعاية حكومة الشرعية، وكل ذلك شكل عبئاً كبيراً على قدرة عدن الاستيعابية دون مرافقة زيادة في حجم القدرات الخدمية لمواجهة الطوفان البشري

بإعلان الانتقالي الإدارة الذاتية في عدن، والجنوب تقع عليه مسؤولية إزالة ركام الماضي وأول خطوة يتطلب القيام بها هي إعادة الاعتبار للنظام والقانون كقاعدة انطلاق لتصحيح كافة الأخطاء وانتشال أوضاع عدن من واقعها الأليم، وأن يكون النظام والقانون فوق الجميع كبيرهم قبل صغيرهم، وعبر النظام والقانون تنطلق معالجة كافة الاختلالات الأخرى البنيوية والإدارية والثقافية والاجتماعية وتسير كلها في نسق واحد حتى استعادة أسس العيش المشترك والأمن والاستقرار فيها، ومن الأولويات وضع خطط قصيرة المدى تعالج فيها الاختلالات الأمنية والإدارية والمالية، وضبط عملية تسيير الخدمات بشكل منتظم وضبط آلية الأسعار خاصة فيما يتعلق بالمواد الغذائية والمشتقات النفطية، وعدم السماح بالتلاعب بها، وتوفير مرتبات الموظفين والمتقاعدين بشكل منتظم، ومن أهم الأولويات أن تتم تقوية أجهزة القضاء والادعاء العام وأجهزة الشرطة باعتبار ذلك أهم ركائز حماية الشرعية القانونية، وتنقية تلك الأجهزة من العناصر الفاسدة وغير المؤهلة ورفدها بعناصر نزيهة ومؤهلة تأهيلاً عالياً وإعادة بناءها على أسس علمية ووطنية، وبعد ذلك يأتي دور محاربة الفساد عبر القانون، ويتم كنس الفاسدين من أعلى إلى أسفل لضمان اجتثاثه من مصدر القرار، وبعدها يتم وضع خطط طويلة المدى لمعالجة بقية القضايا الأخرى التي تهم استقرار وأمن وتنمية عدن في كافة النواحي، وإيجاد حلول لقضية الأراضي بطرق تتوافق مع وظيفة عدن المستقبلية، وكذلك بقية القضايا الأخرى.

ومن أهمها إعادة الاعتبار للوظيفة العامة للدولة من خلال اتباع سياسة توظيف تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فالمجلس الانتقالي وإدارته الذاتية تحت المجهر، وفي المحك وعليه أن يختار بين إعادة تدوير الفاسدين والفساد أو أن يضع سياسية جديدة من خلال ضبط عملية التغيير نحو الأفضل باختيار الكوادر لشغل المناصب وفقاً للكفاءة والنزاهة والخبرة.

ومن أهم المسائل العاجلة إعادة النظر في النظام المالي والإداري المعمول فيه حالياً لسد منافذ الفساد والإفساد، وإعادة تفعيل وظيفة الخزانة العامة للدولة كضابط للعملية المالية والإدارية للدولة.
على الانتقالي طالما أعلن الإدارة الذاتية أن يعرف أنه مسؤول مسؤولية كاملة على شيء في إطار المنطقة التي يديرها، ولا يجب أن يكون مظلة لإدارة فاشلة وفاسدة وهو بهذا الإجراء رهن مصداقيته أمام شعب الجنوب إما أن يكون الفاعل أو لا يكون، وأن لا يكون الوسيط بين إدارة فاسدة متهالكة والشعب كما نشاهده اليوم في عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى