اليمن.. سقطت الشرعية السياسية وبقيت شرعية الشعبين تصارع مصيرها

> د. صالح طاهر سعيد

> أولاً: في تسمية "الحالة اليمنية"، هذه التسمية استخدمت في كل القرارات والبيانات الدولية التي صدرت بشأن الأزمة اليمنية إقراراً بالوضع المتبدل غير المستقر الذي تمر به اليمن عقب الإعلان الوحدوي الذي صدر عن دولتي الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وإقامة الدولة الموحدة بينهما، الأمر الذي أدخل اليمن بشعبيه في فوضى الأزمات، والحرب، وبالنتيجة فإن حل الدولتين، وعدم نجاح، بل وفشل الدولة الموحدة وتشييد حالة اللا دولة واللاشرعية على امتداد جغرافية الشعبين والدولتين. مما استوجب ظهور ما أطلق عليه تسمية "الحالة اليمنية" بوصفه مفهوماً يعبر عن الواقع القائم في اليمن، وهو مفهوم غالباً ما يستخدم بعلم الفيزياء في وصف الحالة المتبدلة للمادة: صلبة، سائلة، غازية، أو بعلم الطب في وصف تغير حالة المريض مستقرة، تستاء أو تتحسن، والحالة اليمنية أشبه بحالة المريض الذي يحتاج إلى علاج والعلاج ينبغي أن يسبقه تشخيص، وعلى سلامة التشخيص يتوقف نجاح أو فشل العلاج.

ثانيًا: في السياسة تقوم السياسة على معادلة العلاقة بين ثلاثة أبعاد: الحق، والقوة، والعدالة، حيث يقوم عليها ثلاثة هياكل بنيوية: الشعب، والمجتمع، والسلطة، الأول "الشعب" تعبير عن الحق وأصحاب الحق، والثاني "المجتمع" تعبير عن القوة القادرة على حماية الحق وتلبية متطلباته، فيما الثالث "السلطة" تنظيم بنيوي وظيفته إحقاق الحق، وتحقيق العدالة، أي أن السياسة أساسها الحق وأعمدتها القوة، وسقفها العدالة، فالسياسة التي لا تعبر عن الحق وتجعل القوة في خدمة متطلبات أصحابه لا تستطيع تحقيق العدالة، ولا يمكنها أن تمتلك صفة الشرعية.

ثالثاً: الحديث عن الشرعي واللاشرعي في السياسة غير ممكن دون أن تسبقه تسمية وتحديد للحق والإقرار بأصحابه، ونقصد بالحق ثوابت الحق الوطني لكل من شعب الجنوب، وشعب الشمال: الهوية المستقلة لكل منهما، وحقه في السيادة على أراضيه بحدودها الدولية المعترف بها، وحق كل منهما في قراره السيادي المستقل. ترتيباً على ذلك، فإن أي سياسة، أو مؤسسات سياسية لا تستوعب ذلك ولا تعبر عنه ولا عن أصحاب الحق ولا تعمل على إحقاقه ستكون بالتأكد سياسة فاقدة للشرعية تماماً.

رابعاً: الحق هو الفكرة الأساس التي تقوم عليها الأشياء وهو المصدر القادر على منح شرعية وجودها، حيث تقوم عليه البنية الشعوبية للإنسانية، وهي بنية أفقية تعني بتحديدات حقوق الهوية، والسيادة لكل شعب، تتمايز الشعوب عن بعضها بهذه الحقوق. يعد ذلك التنظيم البنيوي الثابت الذي يحفظ ثوابت الحق الوطني لكل شعب والمساس به خطراً يهدد وجود وبقاء هذا الشعب، أو ذاك. الإقرار بذلك والاعتراف المتبادل بين الشعوب بهذا التحديد والتمايز أساس العلاقات الطبيعة السليمة بين الشعوب، الأمر الذي يجسده ويشرعنه القانون الدولي، ويقوم عليه النظام الدولي ومؤسساته الشرعية. نصت عليه الشرائع السماوية وأثمره التاريخ الطويل للإنسانية وشرعنته للقوانين الوضعية، فأصبح ملزماً للإنسانية كلها.

خامساً: يتحدث البند الرابع عن التنظيم البنيوي الثابت للإنسانية، ويعبر عن حدود العلاقات الخارجية بين حلقات البنية الشعوبية للإنسانية ويقابله تنظيم بنيوي رأسي اجتماعي، وسياسي داخلي يخص كل حلقة بذاتها يمثل لحظة المتغير في البنية الداخلية لكل شعب، ويعنى بتنظيم وإدارة العلاقات الداخلية بين الحلقات البنيوية الثلاث لكل شعب "بين الشعب، والمجتمع، والسياسة".

حيث إن حلقة الشعب تظم كل أفراد الشعب من الجنسين أطفالاً، ورجالاً، ونساءً، وشيوخاً، وهم أصحاب الحق، وأصحاب القول الفصل في القضايا المصيرية، ومصدر السلطة. فيما المجتمع هو القوة الفاعلة المنظمة من أبناء الشعب، والقوة، المعنية في الدفاع عن حقوق الشعب، وتأمين متطلبات الحياة لأفراده. يمثل التنظيم الاجتماعي الحلقة الوسطى بين الشعوب والسياسة، هي أداة السياسة حين تكون السياسة تعبر عن مصالح الشعب، وتجسيد حقوقه، وهي الحلقة الرادعة لطغيان السياسة حين تخرج عن الإرادة العامة للشعب، وتختار من بين صفوفها الكفاءات السياسية القادرة على إدارة الوظائف القضائية، والتشريعية، والتنفيذية لحلقة السياسة في التنظيم البنيوي الداخلي للشعب.

سادساً: طبقاً لمبدأ الثابت والمتغير في الحالة اليمنية، وما يعبر عنهما من هياكل بنيوية أفقية ثابتة قوامها الشعبين، وهياكل بنيوية رأسية اجتماعية، وسياسية تخص كل شعب بذاته يوجد نوعان من الشرعية:

1 - شرعية ثابتة، وهي شرعية الشعبين وشرعية حقوقهما الثابتة.
2 - الشرعية المتغيرة، وهي الشرعية السياسية "المتبدلة" التي يجري اختيارها دورياً، وتعمل بمرجعية الشرعية الثابتة، وإن خرجت عنها فقدت شرعيتها.

سابعاً: في الحالة اليمنية بدءاً بالخطأ القاتل لاتفاق مايو 1990م بين الدولتين، ومروراً بحرب 1994م، وحرب 2015م، وانتهاءً بحرب 2019م، وما بينهم من فوضى وأزمات مستمرة جرى هدم وتدمير كل الهياكل البنيوية للدولتين، وفشل كلي للدولة الموحدة، ودخول جغرافية الشعبين والدولتين في حالة اللا دولة واللاشرعية، استصعب في ظل ذلك الحديث عن الدولتين أو عن الدولة الموحدة، وعن الدخول في إعادة بناء هياكلهم البنيوية الثابتة، والمتغيرة لأن الموجود هو حالة اللادولة واللاشرعية، مما استوجب الحاجة إلى ظهور مفهوم السلطة الانتقالية، أو ما يسمونه بالشرعية الانتقالية.

ثامناً: السلطة الانتقالية: انتقال اليمن "جنوب الجزيرة العربية" من مربع الدولتين وعدم نجاح وفشل الدولة الموحدة إلى مربع اللا دولة والفوضى، وتشييد حالة اللا شرعية، وبفعل الانهيار الكلي للهياكل البنيوية للدولتين، وفشل إقامة أي شكل من أشكال التنظيم البنيوي للدولة الموحدة المزعومة تعذر الشروع مباشرة في إعادة البناء المؤسسي للدولتين أو للدولة الموحدة لغياب الأساس الشرعي لهما. فجميع الشرعيات سقطت، ولم تتبقَّ سوى الشرعية الثابتة لشعبي الدولتين، وشرعية الحقوق الوطنية الثابتة لهما.

هذا المشهد استوجب ظهور توصيف جديد للوضع في اليمن خلا من التسميات السابقة للدولتين، أو تسمية "الدولة الموحدة" وهو تسمية "الحالة اليمنية"، فجاء مفهوم "السلطة الانتقالية" مفهوماً متناغماً مع مفهوم "الحالة اليمنية".

تاسعاً: منعاً لمزيد من الانهيار وانتشار الفوضى تحرك النظام العربي، والنظام الخليجي على وجه الخصوص، ومؤسسات الشرعية الدولية "الأمم المتحدة ومجلس الأمن"، وأثمر ذلك التحرك اقتراح صيغة "السلطة الانتقالية"، وتنصيب الرئيس عبدربه منصور هادي رئيساً لهذه السلطة، ووظيفة هذه السلطة هي وقف الانهيار وانتشار الفوضى والعودة إلى المربع الشرعي في الحالة اليمنية، ومن أجل ذلك لا بد من خارطة طريق منطلقها الإقرار بالشرعية الثابتة المتمثلة بشرعية الشعبين وشرعية حقوقهما الثابتة المتمثلة بالهوية المستقلة لكل منهما، وسيادة كل منهما على أراضيه بحدودها الدولية المعروفة والمعترف بها، وحق القرار السيادي المستقل لكل منهما.

هذه الخارطة جرت محاولات رسمها ووضعها حيز التنفيذ، ولكن يجري الانقلاب عليها والخروج عنها، حيث كانت المحاولة الأولى في مؤتمر حوار صنعاء حين تم الاعتراف بثنائية طرفي الأزمة "الجنوب والشمال" والتمثيل المتساوي بينهما على قاعدة 50 % للجنوب، و50 % للشمال، وتم الالتفاف على هذه المحاولة والعمل على إفشالها، وانتهت بإعلان الحرب عليها في 2015م، وإعادة غزو الجنوب في مشهد يكرر ما جرى في غزو 1994م.

ثم جاءت المحاولة الثانية للإقرار بثنائية الطرفين والاعتراف بحقوقها الشرعية في تقرير شكل مستقبل العلاقة بينهما في اتفاق الرياض الذي هو الآخر جرى التمرد عليه والقيام بغزو ثالث للجنوب في 2019 - 2020م، وإعلان عليه حرباً مفتوحة مستمرة حتى اليوم.

عاشراً: مسارات الحل: تنقسم مسارات الحل إلى مسارين:

1 - المسار الأفقي يتم فيه الاقرار بثنائية الشعبين في الحالة اليمنية والاعتراف بحقوقهما الوطنية الثابتة "هوية وسيادة وقراراً سيادياً مستقلاً يضمن حق تقرير المصير لكل منهما".

2 - المسار الرأسي الخاص بكل طرف فيه يتم وضع خارطة طريق لإعادة بناء الهياكل المدمرة، وبناء المؤسسات الوطنية لكل من الشعبين، وتهيئة الظروف الملائمة لكل شعب باختيار الشرعية المتبدلة التي تمثله، وتجسد مصالحه وتدافع عن حقوقه.

3 - جلوس الطرفين الشرعيّين على طاولة المفاوضات تحت إشراف دولي للبحث في مستقبل العلاقات الثنائية بينهما.

أحد عشر: التحالف العربي "تحالف دعم الشرعية".
التحالف العربي تحركه حقائق الواقع على الأرض، حيث يقر بالثنائية التي تتحكم بالحالة اليمنية، ومسارات حلها، فهناك أصول وشرعيات ثابتة تستند إلى حقوق لا تلغيها أخطاء السياسة تتمثل بشرعية الشعبين وشرعية حقوقهما الثابتة، وأنها هي من يتحكم بالفروع مثل السلطة الانتقالية، أو ما يطلق عليها "الشرعية الانتقالية". وعليه، فإن التحالف العربي يدعم الأصول، ويدعم فروعها طالما أنها تتحرك في مدار أصولها، وإذا خرجت عنها فقدت شرعيتها، وبالتالي فإن دعم الشرعية الانتقالية مرهون بتبنيها وتجسيدها لمصالح الشرعيات الثابتة.

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب بجامعة عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى