الفوضى الخلاقة وحروب الجيل الرابع في الشرق الأوسط

> قاهر عبدالله مصطفى

> ما حروب الجيل الرابع في ضوء فلسفة الفوضى الخلاقة؟ وما فلسفة الفوضى الخلاقة من وجهة نظر الفكر الاستراتيجي العالمي؟ وما اثر فلسفة الفوضى الخلاقة في السياسات الدولية والإقليمية الهادفة إلى تفكيك الشرق الأوسط على أسس مذهبيه وطائفية وعرقية تحت ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد ؟

هذه الأسئلة وغيرها تشكل موضوع دراستنا في هذا المقال

من المعروف أن إدارة الصراعات الدولية والإقليمية يمكن أن تتحقق بأساليب ووسائل مختلفة من وجهة نظر العلاقات الدولية، فهي تارَة باستخدام القوة الخشنة، وتارة أخرى باستخدام القوة الناعمة وتارة ثالثة باستخدام القوة الخشنة والناعمة على حد سواء تبعاً لميزان القوى بالنسبة للأطراف المتصارعة، وأيضا تبعاً للعقيدة السياسية والعسكرية التي يلتزم بها أطراف الصراع الخ، من الأخذ بعين الاعتبار الجمع بين الاستراتيجية والتكتيك بصورة خلاقة عند إدارة الصراع ليس في المجال السياسي أو العسكري فحسب، بل وفي جميع مجالات إدارة الصراع على مستوى الأمن القومي للدولة عمومًا.

السؤال المطروح الآن ما دور ومكانة نظرية "الفوضى الخلاقة" في إدارة الصراع الدولي والإقليمي، خاصة في الشرق الأوسط في ظل العولمة؟

لقد ظهرت الفلسفة "الفوضى الخلاقة" في الفكر الاستراتيجي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة في السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين في سياق الصراع الدولي بين الأقطاب المتصارعة "أمريكا وروسيا" على مناطق النفوذ في العالم خاصة في الشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة، وبطبيعة الحال تعتبر كتابات المستشرق الأمريكي، اليهودي (برنارد لويس) من أبرز المصادر الفلسفية والفكرية لما يسمى بنظرية "الفوضى الخلاقة" في إطار الفكر الاستراتيجي الأمريكي والغربي.

في خضم الحرب العراقية الإيرانية كان دعاة نظرية "الفوضى الخلاقة" في السياسات الدولية المرسومة من قبل الدول الرأسمالية الكبرى يتطلعون إلى وضع المداميك الأولى لتفكيك العراق وإيران على طريق تفكيك الشرق الأوسط في المدى البعيد وذلك من خلال التوظيف السياسي للآثار المدمرة للحرب العراقية الإيرانية على الصعيد المحلي والإقليمي لمصلحة هذه الدول الرأسمالية، غير أن صمود العراق وإيران في الحرب السياسية ضدهما من قبل الدول الرأسمالية وحلفاءها الإقليميين في الشرق الأوسط، كان لهما الأثر الكبير في إفشال مشروع تفكيك العراق وإيران في ظل الحرب الباردة.

وفي مرحلة ما بعد الحرب العراقية الإيرانية في التسعينيات من القرن العشرين تجلت نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام الوسائل الاقتصادية في إدارة الصراع الدولي والإقليمي في الشرق الأوسط في إطار النظام العالمي الجديد على سبيل المثال لجوء الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية والأخرى بالتعاون مع بعض الدول الخليجية إلى فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية مجحفة على العراق بعد عشرين يوماً من توقف الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر 1988م

بالإضافة إلى ذلك قيام المنظمة العالمية المصدرة للنفط (أوبك) بتحريض القوى الدولية والإقليمية إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط بهدف تخفيض أسعاره عالميا وبالتالي حرمان الأطراف المتحاربة من الموارد اللازمة التي تساعد على إزالة آثار الحرب وإعادة الإعمار والتنمية.

أخيرا وليس آخرا، قيام الولايات المتحدة ألأمريكية وحلفاءها في حلف شمال الأطلسي بتدمير الجيش العراقي في إطار ما يسمى "حرب تحرير الكويت" كخطوة أولى على طريق تدمير الدولة العراقية من خلال استخدام القوة العسكرية المفرطة، فضلا عن فرض حصار اقتصادي طويل الأمد على العراق ولعل ليس من قبيل الصدفة أن وسائل الإعلام الأمريكية والغربية والخليجية أطلقت على الأحداث العاصفة التي خرج منها العراق من الكويت مدمرا ومحاصرا اسم "حرب الخليج الثانية" في إشارة إلى أن ثمة "حرب ثالثة" تلوح في الأفق تنتظر العراق والشرق الأوسط.

ترى ما مفهوم نظرية "الفوضى الخلاقة" من وجه نظر الفكر الاستراتيجي؟

يمكن القول إن الفوضى الخلاقة إذا أردنا تعريف هذا المفهوم بصورة إجرائية هي إمكانية إثارة الأزمات والأزمات المضادة بصورة مفتعلة ومتعمدة عند إدارة الصراع باستخدام الوسائل المختلفة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية الخ، بعبارة أخرى هي منظومة متكاملة من سياسات وممارسات "التدمير المنهجي المنظم" الذي تلجا إليه اطراف الصراع التي تقود النظام العالمي الجديد في ظل العولمة ليبدو هذا التدمير المنهجي للوهلة الأولى وكانه مجرد فوضى عارمة لا معنى لها، وكأن هذه الفوضى في الحقيقة مقصودة، وليست عشوائية؛ لتحقيق أهداف معينة في خضم إدارة الصراع، بعبارة موجزة إنها "الفوضى الخلاقة" التي تعتمد بدرجة رئيسة على التحول من إدارة الأزمات إلى الإدارة بالأزمات في سبيل تحقيق أهداف أطراف الصراع.

بعد قيام ما يسمى "حرب الخليج الثانية" في التسعينيات، صافح (برنارد لويس) مفهوماً جديدا لنظرية "الفوضى الخلاقة" يعتمد على إشاعة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي باستخدام (الوسائل السياسية) هذه المرة مثل: التدخل الخارجي في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم الثالث تحت ذريعة نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال خلق الاضطرابات والتوترات في النظام السياسي السائد، فضلا عن المجتمع، بواسطة المعارضة السياسية أو المجتمع المدني أو الرأي العام المتأثر بثقافة العولمة في ظل ثورة المعلومات والاتصالات على الصعيد العالمي

مثال على ذلك ما يسمى "الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي" التي اجتاحت العالم المعاصر عمومًا على الصعيد الدولي والعالم الثالث والشرق الأوسط بشكل خاص في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

في بداية الألفية الثالثة تعرضت نظرية (الفوضى الخلاقة) لاختبارات صعبة في إطار الفكر الاستراتيجي العالمي خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وشرعت الولايات المتحدة الأمريكية بتدشين "الحرب على الإرهاب" التي انطلقت رصاصاتها الأولى في أكتوبر 2001 ضد حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان.

تقوم فلسفة "الحرب على الإرهاب" من وجهة نظر الإدارة الأمريكية على أساس العقيدة العسكرية الجديدة التي تؤكد على ضرورة استخدام "الحرب الاستباقية" عند التعامل مع مصادر التهديدات القائمة أو المحتملة على حد سواء، التي يمكن أن تهدد الأمن القومي الأمريكي، قبل أن تصل هذه التهديدات إلى تحقيق أهدافها في أي مكان في العالم في إطار المجال الحيوي الاستراتيجي الأمريكي.

وعلى أساس ذلك، قامت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق "جورج بوش" بغزو أفغانستان وإسقاط نظام حكم طالبان في عام 2001، ثم وصولاً بعد ذلك إلى غزو العراق في عام 2003م، ما يسمى حرب الخليج الثالثة وإسقاط نظام حزب البعث العراقي بذريعة امتلاكه أسلحة التدمير الشامل، وفي مقدمتها الأسلحة النووية. بطبيعة الحال لقد كانت الإدارة الأمريكية تعتقد أن إسقاط النظم الحاكمة في أفغانستان والعراق بواسطة اللجوء إلى "الاستراتيجية المباشرة" عن طريق ما يسمى في الفكر الاستراتيجي حروب الجيل الثاني (الغزو من الخارج) بحجة مكافحة الإرهاب على الصعيد العالمي، من شانه أن يؤدي إلى إعداد الظروف الموضوعية لاستثمار نظرية "الفوضى الخلاقة" على طريق تفكيك العالم العربي والإسلامي على أسس طائفية ومذهبية وعرقية تحت ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولكن يبدو أنها تراجعت عن هذا الأسلوب في تحقيق رؤيتها الاستراتيجية تجاه الشرق الأوسط بعد الخسائر المتزايدة التي تكبدتها القوات الأمريكية عند احتلالها لأفغانستان والعراق بصورة مباشرة، ليس ذلك فحسب، بل إنها أجبرت على الرحيل من هذين البلدين دون أن تحقق أهدافها المنشودة من الاحتلال والغزو باستثناء الحاق التدمير المنهجي المنظم في إطار نظرية "الفوضى الخلاقة"

السؤال المطروح الآن: ترى ما البديل الاستراتيجي الذي سوف تلجا إليه الإدارة الأمريكية في تحقيق أهداف سياستها الخارجية التوسعية والعشوائية في الشرق الأوسط، خاصة بعد "حرب الخليج الثالثة" ؟

يمكن القول إن البديل هو اللجوء إلى "الاستراتيجية المباشرة" لحماية الأمن القومي الأمريكي عن طريق حروب الجيل الرابع (الغزو من الداخل) في إطار نظرية الفوضى الخلاقة بواسطة مراكز القوى التقليدية (القبلية والعسكرية والدينية) التابعة للنظم الحاكمة في الشرق الأوسط باعتبارهم يشكلون الحلفاء الإقليميين للسياسة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي وفي نفس الوقت يعتبرون "تجار حروب" بامتياز، وفضلا على ذلك الجماعات المسلحة الراديكالية المدعومة من أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية (المرتزقة ومجرمي الحرب والجواسيس) ومن ذلك من أنواع الأدوات المحلية التي تخوض الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط تارة باسم الإسلام السياسي (السني) وتارة أخرى باسم الإسلام السياسي (الشيعي) أخيرا وليس آخرا بواسطة الجيوش الإلكترونية التابعة لأطراف الصراع في الشرق الأوسط التي تمارس الحرب النفسية والأيديولوجية في مختلف الظروف قبل وفي أثناء وبعد وقوع النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وخاصة منذ ما يسمى بثورات "الربيع العربي" في إطار الفوضى الخلاقة الهادفة إلى تفكيك العالم العربي والإسلامي تحت ما يسمى "بالشرق الأوسط الجديد" شئنا ذلك أم أبينا وتطبيع العلاقة مع العدو الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية وهو ما يحدث الآن بالضبط في وطننا العربي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى