دولة اليمن الغائبة وحق الجنوب في استعادة دولته

> قاسم عبدالرب العفيف

> الشيء الغائب في اليمن هي الدولة وإذا أردتم حلاً في اليمن فلا بد من التفكير في بناء دولة أولاً لكي تستقيم عليها كل الحلول، لأن اليمن لا يملك دولة منذ ستين عاماً، وغيابها كان تحت مؤثرات محلية وخارجية، ولن تقوم لليمن قائمة إلا بعد أن تستنهض قواها الحية لترتيب البيت اليمني بمهندسين جدد لا علاقة لهم في الماضي، ومع مساعدة الدور الإقليمي في عملية البناء فيما يتعلق بالتنسيق في أمور تخص أمن الجوار، وترتيب المصالح المشتركة فقط حتى لا تضيع ستون سنة قادمة أدراج الرياح على أدوات الفشل السابقة التنحي جانباً.

مسار الدولة في اليمن
انقلب العسكر على الإمامة وانتزعوا منها السلطة وحولوها إلى جمهورية وانقسم المجتمع اليمني إلى جمهوري وملكي، وانقسم الجمهوريون إلى قسم يصارع وقسم انزوى بعيداً، واعتبر نفسه قوة ثالثة، وبعد صراع دام عدداً من السنين انتصر القسم الجمهوري (القوة الثالثة) بعد جلاء القوات المصرية من اليمن والتخلص من العهد الجمهوري الأول بزعامة السلال في 5/ 11/ 67م، وظلت الجمهورية لافتة تجمع الجميع على أن يكون المذهب (الطائفة) هو المرجع، والقبيلة هي الًواجهة والأداة التنفيذية للحكم، وبدأ التخلص من الأغراب الذين تسللوا إلى مواقع مؤثرة وخاصة في القوات المسلحة تحت مبررات مختلفة، وفِي نفس الًوقت يتم التخلص من أي منافس قبلي من خارج المذهب، وتظل الجمهورية عنواناً تحتكرها فئة محددة على أن تكون الشجرة التي يفترض أن يستظل تحتها الجميع مع إبقاء النظام القبلي سائداً يمارس الحكم بأعرافه فوق القانون والدستور والنظام العام، وكل ما تم استحداثه من أشكال من مؤسسات حكم في الظاهر ما هو إلا لمسايرة العصر، لكنها فارغة المضمون لأنها تعبير عن النخب الحاكمة القبلية والعسكرية والدينية.

لم تتزحزح القبيلة عن موقعها لصالح الدولة، بل توطدت بعد أن أصبحت مالكة للسلطة، ولَم يكن هناك خلاف أو اختلاف بين المعسكر الجمهوري القبلي والمعسكر  الملكي القبلي. لا الأول يريد أن تنتصر الجمهورية وتنتج دولة مدنية، ولا الثاني يريد أن يعيد الإمامة إلى صنعاء، وكل منهما يريد أن يحافظ  على كيانهما القبلي في حدود مناطقهم والأعراف القبلية بعيداً عن الدولة في صنعاء، ولا تعترف إلا بهذا النوع من الإدارة التي يعتقدون أنها الإدارة التي تداولها الآباء والأجداد على مدى عقود من التاريخ، لكنها بحكم أخطاء العهد الجمهوري الأول وتمكنوا من الوصول إلى صنعاء والتحكم بها، وكان القاسم المشترك بين المعسكرين هو إبعاد كل ما له علاقة بعائلة آل حميد الدين من السلطة، ولَم يمر وقت حتى تم تصفية الحساب مع ما تبقى من المعسكر الجمهوري في أغسطس من عام 68م، وأصبح الطريق ممهداً نحو المصالحة فيما بين المعسكرين القبليين الجمهوري والملكي، وتم ذلك برعاية إقليمية.

وفِي الطريق كان لا بد من التخلص من بعض مشايخ القبائل المشاغبين الذين لا يرتبطون معهم في الطائفة، وكانت على مرحلتين الأولى: منهم من ذهب في عملية غامضة تمت في أماكن نائية، والثانية تمت بعد أزمة الحكم بين النخبة الحاكمة، حيث أقصى ممثلو قبائل بكيل في الجيش آل أبو لحوم وغيرهم في إزاحة سلمية لهم من مواقعهم القيادية المدنية والعسكرية، وقضوا كل تلك السنوات في صراعات وإزاحة لبعضهم البعض، ولَم يكن أحد منهم فاضي لبناء دولة مدنية.

كانت آخر إزاحة هي للرئيس الحمدي نفسه وجماعته وبدأ عصر تسيد قبيلة بعينها على المشهد، وأصبحت بقية القبائل تحت لًوائها، ومن يرفض يواجه المتاعب من كل نوع، وأصبح اليمن الشمالي يعيش وضع كأنتينات مستقلة عن بعضها البعض ما عدا بعض المناطق مثل الحديدة وتعز اللتين استبيحتا من قبل متنفذين في النخب الحاكمة في صنعاء، وتم تجريف أراضيها وشواطئها وموانئها ليس لصالح الدولة. لكن لصالح أفراد محددين من النخب الحاكمة في صنعاء، بل هناك من استخدم بعض الموانئ للتهريب، ولا يوجد هناك حسيب ولا رقيب.

عندما تغيب الرؤية الوطنية الشاملة لطبيعة النظام السياسي، وتغيب الأهداف الوطنية للبناء الوطني وتغيب المشاركة المجتمعية في تحقيقها تبرز الهوية الجهوية الضيقة إلى السطح، وتستولي على القرار السياسي عندها يغيب العمل المؤسسي للدولة، وتضع بديلاً عنها هياكل هجينة بين البدائية جرى تلميعها بالحداثة المزيفة، وعندها تستولي على مقدرات البلاد وثرواته وتجيرها لمصالحها الضيقة والأنانية، وعندها تتشكل هياكل مؤسسات أمنية تتعامل بعنف مع الشعب لكي تحمي مصالح الأقلية المغتصبة للسلطة، وهذا ما حدث ويحدث الآن في اليمن.

جاءت الوحدة ولَم يتحمل ذلك التحالف في صنعاء أن يشاركها القادمون من الجنوب في السلطة، ولهذا بادرت من أول وهلة في عرقلة عمل المؤسسات والدوائر الحكومية في الجنوب تمهيداً للقضاء عليها وإفشالها حتى الوصول إلى افتعال حرب 94م الذي أنتج نظاماً يسمى نظام 7/7، وهو خليط من القوى التي تم توليفها إضافة إلى تحالف الحكم الرئيسي على عجل وفيه جنوبيون من مجاميع الأفغان العرب، إضافة إلى القوى التي وقفت معهم في إزاحة دولة الجنوب قد أتاح لذلك التحالف فرصة ثمينة أن تم الاستيلاء على الجنوب كاملة بأرضه وموانئه وسواحله وجباله وصحاريه وكل ممتلكات الدولة الجنوبية التي كانت جميعها ملكية عامة للشعب، وعندها تقاسم تحالف الحكم الرئيسي في صنعاء الثروات النفطية والغازية والأسماك، واستباحوا أراضي الجنوب يتصرفون بها كيفما يشاؤون، وأنشئت الشركات بأسماء أبنائهم وأقاربهم، ولَم يتركوا لأحد مجالاً للمنافسة الحرة، وأدى إلى انسداد الأفق السياسي والاقتصادي، وكان عند اشتداد الأزمة بين الحكام والمحكومين يتم الهروب إلى الأمام بفتح حروب عبثية لخلط الأوراق وتشجيع الاٍرهاب باغتيالات واسعة النطاق لكوادر عسكرية جنوبية، وكل تلك الممارسات لم تنفع ولم تحل أزمة، بل تصدع التحالف الحاكم وانفجر الخلاف، وكاد يصل إلى تحطيم المعبد فوق رؤوسهم، وأصبح الوضع خارج سيطرتهم، ولَم يكن أمامهم من خيار إلا أن يستدعوا التاريخ، ويسلموا الراية لأصحاب السلالة الهاشمية التي غابت عن الحكم ستين عاماً، وعاد الجميع إلى نقطة الصفر على أمل أن يظل المركز المقدس هو الحاكم، وما كان من تلك النخبة إلا أن انقسمت جزءاً بقى في صنعاء والجزء الآخر انتقل إلى الرياض مع الشرعية، والنتيجة ضمان وجودها في المركز في صنعاء وفِي السلطة المهاجرة، وفِي الجانب الآخر إبقاء الجنوب البقرة الحلوب تحت السيطرة المستمرة، والحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تجنيها من شركاتها العائلية من النفط. والغاز والأسماك وغيره من الثروات المعدنية الأخرى هذه النخبة لا تخجل من أنها تملكت كل شيء ليس عبر المنافسة، لكن باستخدام وجودها في السلطة وأصبحت لا تفرق بين ملكية الدولة والملكية الشخصية، وهذا هو مفهومها للدولة.

مسار الجنوب التاريخي مختلف تماماً عن مسار صنعاء فيما يتعلق بمفهوم الدولة، فالجنوب عرف الدولة منذ عقود سابقة للاستقلال الوطني، وكانت عدن لديها حكومة ودستور وسلطنات الجنوب مثل لحج والقعيطي وغيرها. لديها دساتير وتحكم عبر القانون والنظام ولا تجد من يتعدى على أموال الدولة أو حقوق المواطنين.

ودولة الاستقلال أيضاً قامت على الأسس التي كانت سارية، وتمسكت بالقانون والنظام وثبتت دولة المواطنة، وإن وجدت بعض المطبات التي أحدثت تصدعاً في جدار الدولة الجنوبية بين وقت وآخر، إلا أنها كانت تجرى ترميمات سريعة وعاجلة وتعاد الأمور إلى نصابها، وكان المواطنون يعيشون في أمن اجتماعي وغذائي والوظيفة العامة حق لكل مواطن. كما لكل مواطن الحق في التعليم والصحة المجانية، ويحصل على كل تلك الميزات دون وساطة، وكانت الوظيفة العامة والثروات الوطنية هي ملك للدولة، وأي شاغل للوظيفة العامة ما هو إلا موظف لدى الشعب يفوض بتأديتها وفقاً للقانون والنظام، ولديه رقيب داخلي وأكثر من رقيب خارجي من أجهزة الدولة، تقيّم أداءه وإن خرج عن خط القانون والنظام يعزل ويعاقب، وهذا المسار لا يلتقي مع مفهوم الدولة في صنعاء، ويسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان.

الآن بعد ست سنوات حرب ثبت فشل الشرعية في العودة إلى صنعاء واستماتتها في العودة إلى عدن تؤكد صحة ما ذهبنا إليه من توزيع أدوار بين نظام 7/7 المتواجد في صنعاء أو في الرياض، والوقائع خلال السنوات الست الماضية خير شاهد على ذلك، والهدف إبقاء الجنوب تحت سيطرة نظام 7/7 المهاجر مستخدماً ذريعة الاعتراف الإقليمي والدولي به، وعلى أرض الواقع برهن شعب الجنوب رفضه لهذا التوجه من خلال خروجه بمظاهرات رافضه لهذا التوجه في كل محافظات الجنوب وتأييده للحكم الذاتي تحت إدارة المجلس الانتقالي في المرحلة الحالية كخطوة أولى وصولاً إلى تقرير مصيره في استعادة دولته الجنوبية الاتحادية.

للتذكير
فشلت الوحدة الاندماجية عند غزو الجنوب في صيف 94م واحتلاله.
فشلت الوحدة على أساس اتحادي بستة أقاليم عند الانقلاب عليها وغزو الجنوب في مارس 2015م.
فشل الانقلابيون باحتلال الجنوب بالقوة المسلحة، وفشلت الشرعية في العودة إلى صنعاء، بل لم تستطع أن تسيطر على محافظة في جغرافية الجمهورية العربية اليمنية بشكل كامل.

وستفشل أي محاولة لتركيب أي وضع هجين في الجنوب بصورة حكومة مناصفة بين الجنوب والشمال، والتي تعتبر استباق لما يجب أن تكون عليه صورة العلاقة النهائية بين الجنوب والشمال، والهدف إبقاء السيطرة على الجنوب بهذه الأداة التي سيمارسها نظام 7/7 تعويضاً عن فقدانه للعاصمة صنعاء، ولن يكن هناك أي تحرك للقضاء على الانقلابيين في صنعاء طالما تتجه الأنظار للحلول التي بيد المبعوث الدولي بوقف الحرب والجلوس على طاولة المفاوضات بين الشرعية  والانقلابيين متجاوزين كل القرارات الدولية التي صدرت بهذا الخصوص، وبالتالي ستضيع قضية الجنوب في دهاليز السياسة العميقة بين الفرقاء المتحاربين الذين يمثلون نظام 7/7، وستكون النتائج على حساب الجنوب الذي سيكون الترضية للطرفين في إعادة تقاسم السلطة بينهما، وعلى أساس الدستور الذي تمت صياغته وما يتناسب مع إبقاء الجنوب تحت سيطرة الأغلبية السكانية الشمالية المطلقة، وستذهب تضحيات الجنوبيين أدراج الرياح.

عدم احترام رغبة شعب الجنوب في إدارة شؤونه ذاتياً من قبل القوى الإقليمية والدولية سيزيد الأمر تعقيداً في الجنوب، وسيؤثر ذلك على استقرار المنطقة برمتها لأننا أمام سيناريو تثبيت سلطة اللا دولة في اليمن، والتي ترعى الإرهاب وتوظفه لضرب الاستقرار في المنطقة، واستنزاف موارده وهدر طاقاته وتوفير مبرر  لكل أنواع التدخل الخارجي.

هناك حلول واقعية إن رغب الإقليم والعالم في إرساء دعائم الأمن والاستقرار بأن يتم توقيف الحرب وتشجيع إعادة بنيان الدولة في الجنوب وتنميتها وهي موجودة، وضخ لها عوامل الاستقرار مع تشجيع القوى السياسية في الشمال، لكي يتفقوا على شكل الدولة التي يريدونها، وحشد كل القوى التي ترغب ببناء دولة تجمع كل أطياف المجتمع هناك، وهذه العملية طويلة الأمد بسبب معوقات كبيرة، من أهمها العامل القبلي والعامل الطائفي الديني وتحييدهما عند بناء الدولة المدنية في الشمال أمر مهم للغاية.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى