كامل الأوصاف..

> محمد العولقي

> كان أول لاعب قصير يؤدي مهمتين متضادتين في وقت واحد، مدافع متأخر يحمل شوكته على ظهره تماماً كالعقرب وليبرو أنيق وفنان يلعب الكرة السهلة البسيطة بأستذة ليس لها مثيل بين أقرانه .. إنه (كامل صلاح) الأنيق الذي يصنع اللعب من الخلف بحرفنة، والحكيم الذي ينتزع الكرات من أنوف ورؤوس وأرجل المهاجمين ببراعة، دون أن يرتكب الأخطاء المباشرة ، وكان من حسن حظ التلال بعد اعتزال المدافعين الكبيرين عصام زيد الكبير وعباس كوكني ، أن ظهر ثنائياً متجانساً في العمق في وقت واحد ، كامل صلاح وجلال زحيري .. بدأ التكامل بين الإثنين حيوياً ومتجانساً هارمونياً ، وكأنهما فولة وانقسمت نصفين ، كان جلال زحيري هو القوة والعضلات ، وكان كامل صلاح هو المخ البشري الذي يفكر ويدبر ويقرأ شفرات الخصوم بالقدم.

* في زمن تلالي أنفاسه كوصل الأندلس ، جاد غيث البارع حسين عمار ، كان ظهيراً أيسر كاسحاً ، يدافع ويهاجم بإجادة تامة ، وعندما تحول إلى لاعب وسط يبرمج كمبيوتر التلال من الخلف ، أبهر وأدهش كل رجل فني يفهم في تحولات الشاكلة ، وفي عمق ومدلولات لعبة الحذق التدريبي ، كان هذا التحول التكتيكي في منظومة حسين عمار محاكاة لما فعله فريق (فيرونا) الإيطالي مع الدبابة البشرية الألمانية (هانز بيتر بريجل) في منتصف الثمانينات.

* كامل صلاح لم يكن يحتاج إلى خريطة طريق مع التلال ، فقد جاء إلى القلعة محملاً برغبة جامحة ، في كسر مفهوم المدافع الهدام ، لم يكن يحمل شاكوش هدم ، في يده اليمنى عطاياه ، وفي اليسرى هداياه ، وما أجمل هدايا كامل الأوصاف داخل الملعب .. فقد كان كامل صلاح أستاذ العمق الدفاعي ، يلعب الكرة ببرستيج خاص كان وقتها في المفكرة التكتيكية والهوية الفنية فتحاً مبيناً واكتشافاً جديداً للاعب قصير يستخدم عقله ولا يستخدم عضلاته حتى في أحلك الظروف الحمراء.

* كما لو أن كامل صلاح ُولد وفي فمه ملعقة نجومية مبكرة يستحيل تقليدها ، والاستحالة هنا تكمن في أن فن كامل صلاح الرفيع ينبع من مخه وليس من قدميه ، كما جرت العادة ، وعندما تشاهد كامل صلاح لا تمل عيناك من رؤية بريقه ، كما لو أنه قائد أوركسترا يوزع اللحن بأناقة وتناغم موسيقي رائع ، يعطل هجمات الخصم بحدس التوقع فقد كان كامل صلاح ملك التوقع يعرف كيف يتموضع؟ ويعرف أين ستتجه الكرة .. يرصد تحركات المهاجمين بدقة ، كما لو أن في رأسه راداراً يحلل في (فيمتو ثانية).

* لم أر كامل صلاح يوماً ما يشتت الكرة لمجرد التخلص من ورطة دفاعية ، كان ينتزع الكرات ويبدأ بنفسه الهجمة ، في تركيبته كان لاعباً لاتينياً اروستقراطياً ، يلعب الكرة بشياكة الشوكة والسكين ، كما يفعل مدافعو برشلونة في منظومة (التيكي تاكا) ، كان كامل صلاح يتذمر عندما يرى مدافعاً يشتت الكرة إلى عنان السماء فمفهوم المدافع عنده أنه ليس معولاً لكنه فنان بحس شاعر يؤدي دوراً حيوياً في إرساء مداميك المتعة.

* للوهلة الأولى قد يظن المهاجم أن المرور من قناة كامل صلاح الأنيق لا تحتاج إلى مجهود كبير لكن هذا الظن يتبخر عندما يسيطر كامل صلاح على أجواء المهاجمين ، هذا لأن استراتيجيته في الملعب تقوم على أساس حسابات دقيقة للمحيط والزمن ومفاجآت الكرة .. كامل صلاح الذي يحمل جينات القيادة الفطرية كان مؤونة متنقلة من العمق ، يختصر فكره في تمريرة دقيقة ، ويوزع تعليماته في لفافات حلوى ، يركض بعقل ، ويندفع بتعقل ، نعم من عقله دائماً تأتي الحلول المناسبة في الوقت المناسب.

* لم يُعمر كامل صلاح كثيراً في ملاعبنا ، وهو الذي كان يحوم في الدفاع كالفراشة ثم يلسع كالنحلة ، هذا لأن كامل كان عاشقاً للمتعة الكروية ، وفقاً ومحيط صحي يفجر كل طاقاته في الملاعب ، وعندما شعر أن كرة القدم بعد (الوحدة) فقدت قيمتها كلعبة ذكاء ومهارة في المقام الأول وانتقلت إلى مربع التوحش والثراء الفاحش والاندفاع الأنجلوساكسوني العنيف، توارى عن الأنظار في صمت قانعاً بما كتبه الله له من مسيرة لم تطل كثيراً ، لكنها حافلة ومشحونة بالكثير من النجاحات مع التلال والمنتخبات الوطنية الجنوبية.

* ويمكن لكامل صلاح اليوم وقد احترف دنيا التجارة ، أن يفخر أمام جيله بأنه كان حلال المشاكل التكتيكية ، فعندما يختنق اللعب ، ويتضاعف منسوب العك الكروي تأتي الأوامر من المدرب : مرروا الكرة لكامل صلاح، وهو كفيل بإصلاح ما يفسده الخصوم ، كان كامل في أيامه الخوالي أكبر قاطرة فنية متنقلة في ملاعبنا ، رأس مرفوع دائماً للأمام يرى كل الملعب ، وعينان ملتهبتان ببريق الذكاء تكشفان كل التحركات ، وهو لوحده كان قادراً على تدمير كل الحس التكتيكي عند الخصوم ، مرة مدافع قشاش ينظف منطقة جزائه بزئبقية ، ومرة ليبرو شامل قدماه فرشاتان ترسمان لوحات سريالية وكأنه (سلفادور دالي).

* انزوى كامل صلاح مبكراً ، ولم يحظ بذات الدلال الصحفي الذي ناله بعده أشباه اللاعبين ، لكنه مع ذلك بقي في الذاكرة متفرداً ، وبين أفضل لاعبي الدفاع في التلال ، هذا لأنه امتلك ميزة خاصة جداً لا يدانيه فيها أحد ، المدافع الأروستقراطي الأنيق الذي يلعب الكرة وكأنه مطرب رومانسي يغني في حفلة رأس السنة ..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى