من علماء المسلمين.. ابن حوقل

> ابن حوقل يُعَدُّ مُحمَّد بن حَوقَل البغداديّ الموصليّ، الذي يُكنَّى بأبي القاسم، أحدَ "علماء البُلدان" المسلمين؛ فقد كان رحّالة، وجغرافيّا لا يُعرَف تاريخ ميلاده على وجه الدقّة، وإنّما ذُكِر أنّه كان قَبل 320هـ بكثير، وما يُعرَف عنه أنّه عاش، واشتُهِر، وذاع صيته في القرن الرابع الهجريّ.

أمّا وفاته فلم يُعرَف تاريخها على وجه التحديد، إلّا أنّ المصادر التاريخيّة ذكرَت أنّها كانت بعد 367هـ؛ أي ما بَعد عام 977م، وفي ما يتعلَّق بمكان ولادته، فقد اختلف عليه المُؤرِّخون أيضا؛ فبعضهم ذهب إلى أنّه وُلِد في "نصيبين"، التي تقع بين النهرَين، ولذلك كان يُقال له محمد النصيبيّ، أو محمد النصيبينيّ، ومنهم من ذهب إلى أنّه وُلِد في بغداد، ونشأ فيها؛ ولذلك سُمِّي البغداديّ، أو الموصليّ.

كان ابن حوقل أحد التجّار العرب المسلمين، وقد اتَّخذ من التجارة وسيلة لكي يجوب العالَم، ويتعرَّف على صفات الشعوب المختلفة، ويُدوِّن ما يراه كُلّه، وقد بدأت رحلات ابن حوقل في عام 331هـ، أي ما يُوافق 943م، فقد غادر بغداد، ودخل إلى المغرب، وصقلية، كما طاف بلاد الأندلس في أثناء ازدهار العهد الأمويّ فيها، ووصفها بدقّة، نظراً لكونه عاش فيها مدّة طويلة في أثناء خلافة الخليفة الناصر، أو عبدالرحمن الثالث. ومن البُلدان التي زارها ابن حوقل أيضاً خلال رحلاته: مصر، والشام، والعراق، وبلاد فارس والبحرين، كما زار الإحساء أيضا، وذُكِر أنّ رحلاته التاريخيّة امتدَّت من نهر السِّند وصولا إلى المُحيط الأطلسيّ.

ويُمكن القول إنّ تجارته لم تكن مَحلّيّة مُقتصرة على العراق فقط، بل هي تجارة عابرة للقارّات، وتهدف إلى جَمع المعلومات أيضا، وخاصّة الجغرافيّة منها، وقد ذُكِر أنّ رحلاته، وتجواله استغرق نحو 30 عاما، كما وردَ عنه أنّه كانت لديه ميولٌ سياسيّة، و قِيل إنّه كان مُبلِّغاً دينيّا وسياسيّا وعَينا للدولة الفاطميّة، واستُدِلَّ على ذلك بأنّه كان يتنقَّل بين أفريقيا الشماليّة (منطقة النفوذ الفاطميّ)، والأندلس (منطقة النفوذ الأمويّ).
خريطة العالم لابن حوقل رسمها في القرن العاشر
خريطة العالم لابن حوقل رسمها في القرن العاشر

يُعَدُّ ابن حوقل جغرافيّا مُميَّزا ومن نوادر الجغرافيّين الذين برزوا في عَصره، فقد جمع معلومات كثيرة، ودقيقة عن البُلدان التي تجوَّل فيها، وخاصّة المعلومات الجغرافيّة، ودرس صفات شعوبها أيضا، ووضع ما جَمعه كلّه من معلومات في كتابه "صورة الأرض"، فقد ذكر فيه معلومات عن المسافات، ووصف البحار والأنهار، وذكر صفات البلاد، واقتصاديّاتها، وحياة سُكّانها، وكلّ ما يتعلَّق بها من دقائق الأمور، كما رَسَم خريطة لكلِّ بلد، ويُمكن القول إنّه من الأقلّية الذين أبدعوا في علم الجغرافيا.

ويجدر الذكر أنّ ابن حوقل سار في منهجه على مبدأ تقسيم العالَم إلى أقاليم، تماماً كالأصطخريّ الذي قسَّم العالَم إلى عشرين إقليما، أمّا ابن حوقل فقد زاد عليها إقليمَين، وغيَّر في تسمية بعض الأقاليم، كما كان منهجه توثيقيّا، أي إنّه لم يكتب المعلومة إلّا بعد التأكُّد من مدى صحّتها، وكان وصفه جامعا شاملا للمناطق التي زارها، وقد عُنِي في كتابه بالجغرافيا الاقتصاديّة التي تشتمل على الأمور التجاريّة، والصناعيّة، وغيرها ممّا يتعلَّق باقتصاد البُلدان التي زارها، بالإضافة إلى أنّه عُنِي بالجغرافيا البشريّة، والحيويّة، والطبيعيّة، علما أنّ اهتمامه في هذه المجالات تفاوتَ من إقليم إلى آخر، ولا بُدَّ من التطرُقّ إلى أنّه أتى على ذكرٍ سطحيّ لبعض الظواهر الطبيعيّة التي كانت تحدث في البُلدان، وكان هذا الذكر ذِكرا خفيفا، وغير مُفصَّلٍ؛ لعدم وجود الأجهزة الكافية لدراستها بشكل تفصيليّ آنذاك.

أمضى أكثر من 30 عاما من حياته مسافرا إلى مناطق نائية في آسيا وأفريقيا. حطت به إحدى رحلاته في موقع يقع على دائرة عرض 20 درجة جنوب خط الاستواء على الشاطئ الشرقي لأفريقيا، ومن ملاحظاته عن تلك المنطقة هو وجود عدد كبير من السكان، على عكس ما كان يعتقد الإغريق.
رحل من بغداد يوم الخميس، 7 رمضان، سنة 331هـ؛ كي يمارس التجارة ويتحقق بنفسه من أقوال الجغرافيين الذين قرأ مصنفاتهم مرارا وتكرارا، وقابل في هذه الرحلة الإِصْطَخْرِيِّ (أوردنا سيرته في حلقة سابقة) سنة 340هـ.

وقد استمرت رحلته حتى عام 357هـ، جاب فيها البلاد شرقا وغربا، من نهر السند حتى المحيط الأطلسي، وتوغل في كثير من المناطق، عدا الصحراء الكبرى التي لم يشاهد منها إلا جزءا يسيرا، ودخل بلاد البلغار، ووصل إلى أواسط نهر الفولغا؛ طلبا للارتزاق من التجارة، ورغبة في دراسة البلاد وسكَّانها.
ويقدم ابن حوقل صورة سلبية عن شجاعة أهل الأندلس وعن نظامهم الحربي والإداري مبديًا دهشته لعجزه عن إدراك السر في احتفاظهم باستقلالهم حتى ذلك الوقت دون أن يخضعوا لحاكم من حكام المشرق الإسلامي، ويمكن أن يؤخذ قوله بأنه يرى ذلك أمرًا سهلاً بمثابة إيعاز للفاطميين أو العباسيين بالتدخل.

غير أن ابن حوقل على أية حال لا ينفي الجانب الإيجابي للحضارة الأندلسية؛ فهو يعترف بأن الخزانة العامة كانت عامرة بصورة لا يمكن مقارنتها في المشرق إلا بالحمدانيين في حلب، أما عاصمتهم الزاهية فيدعوها ببغداد الثانية، ويصف بالتفصيل جمال مدينة الزهراء ورونق حي الرصافة، وليس معنى حديث ابن حوقل عن الأندلس أنه كان عميلا للفاطميين أو العباسيين، بدليل ما ذكره عن عظمة وحضارة الأندلس.

وابن حوقل وإن كان سياسيًا امتهن مهنة التجارة، ولكن هدفه كان الوصول إلى قادة الفكر في ميدان علم الجغرافيا في العالم الإسلامي، ولم يكن جاسوسًا كما اتهمه بعض المستشرقين، وقد توفي ابن حوقل بحسب ما ذُكر عام 380هـ / 990م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى