وداعا ... صديقي النعاش

> عبدالله مهيم

> ماذا أكتب، وماذا أقول، فكل المفردات أمامي تتلاشى، وكل العبارات تختفي، لأني حتى اللحظة لم استوعب رحيلك يا صديقي سامي النعاش، ولم يخيل لي أبدًا، أنه سيأتي اليوم الذي أكتب عن فاجعة رحيلك، أو أكتب في وداعك الأليم، والذي سيظل صداه في قلوبنا لزمن طويل.
كانت العودة للكتابة بالنسبة لي صعبة، بعد التوقف الإجباري، والَّا إرادي ليس لي وحدي، وإنما لكثير من الصحفيين، منذ أكثر من ست سنوات، أكلت الحرب فيها الأخضر واليابس، ولم يتبقَ مكان للكلمة في هذا الزمان، الذي يرفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص والمدافع.

وإذا كانت العودة إلى الكتابة بعد سنوات من التوقف صعبة، فكيف سيكون الأمر عندما تكون الكتابة عن صديق عزيز رحل عن دنيانا الفانية، وارتبطت معه بعلاقة أخوية لسنوات طويلة، وجمعتني به مواقف كثيرة في الحِل والترحال، لكن ماذا أفعل، فالأمر يتطلب أن يفضفض الواحد عن كمية الحزن الذي بداخله، بعد ذلك الحدث الجلل والفاجعة الكبرى.

الحديث عن سامي النعاش، حديث عن اسم له تاريخ ناصع، حديث عن علامة مضيئة في مشوار كرة القدم اليمنية، والتي يمتد إلى ما قبل قرن من الزمان، وفوقها عقدين أيضًا، حديث عن صفحة مهمة في كتاب تاريخ المستديرة اليمنية، حديث عن مشوار نجم يمتد مشواره لحوالي نصف قرن، صال وجال في الملاعب، كلاعب في صفوف عميد أندية اليمن والجزيرة، ومدرب ذاع صيته، فكان أكثر مدرب محلي يقود المنتخب الوطني، حتى فاضت روحه الطيبة إلى بارئها، وهو مديره الفني وقائده؛ بل أنه أصيب بالفيروس، وهو في خدمة الوطن، بمعسكر المنتخب بمحافظة شبوة.

تعود معرفتي باسم سامي النعاش إلى بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، والذي بدأت فيه الاهتمام بالجانب الرياضي، ومتابعة أدق تفاصيله، فقد قرأت وسمعت كثيرًا عن مجده الكروي، كلاعب مؤثر، ذو شخصية قوية، في فريق التلال العريق، قبل أن أشاهد له بعض المباريات من خلال أشرطة الفيديو، ثم بدأت متابعته فعليًا عندما بدأ مجال التدريب، واستراق للسمع والبصر، ليصبح في وقت قياسي واحد من أبرز المدربين الوطنيين في الساحة الكروية.

تابعت النعاش المدرب الداهية، عاشق التحدي، والمتيم بتحقيق الإنجازات والأرقام القياسية، وصاحب البصمات المبهرة في كل محطاته التدريبية، تابعت الجنرال مع التلال، ثم عندما رحل إلى الساحل الغربي، وجعل من هلالها بدرًا في سماء الكرة اليمنية، أعجبت بهذا المدرب، وهو يتحدى الصعاب، ويخاطر بقبول مهمة تدريب اتحاد إب، الفريق الذي لديه جماهير مهووسة، ويحسب لها كل المدربين ألف حساب، كما تابعته في كل محطاته التدريبية، أكانت مع أهلي تعز، والشعلة وغيرها، أبهرت بالجنرال وهو يكسب الرهان من محطة إلى أخرى، وأذهلني تواضعه مع كل نجاح يحققه، وعدم التفاته إلى من راهن على خسارته، وأعتقد أن ذلك هو سر تفوق هذا المدرب الفريد.

لن أتحدث عن نجاحات النعاش مع المنتخبات الوطنية، فالأرقام لا تكذب، ولا تجامل، وستظل إنجازات النعاش مدونة بأحرف من نور في سجل تاريخ الكرة اليمنية، على الرغم من أنهم أسندوا له في بداية المشوار قيادة منتخب الناشئين، وهي الفئة الأصعب في ظل غياب مسابقات الفئات العمرية، وعدم الاهتمام بها من قبل الأندية، إلى جانب إسناد المهمة له بعد الإنجاز الكبير لمنتخب الأمل، بالوصول إلى المونديال العالمي، في عام 2003، لكنه مع ذلك أثبت نفسه، فكان كلما راهنوا على فشله، خيب آمالهم بالنجاح، وتوالت نجاحاته مع المنتخبات السنية، الناشئين، والشباب، والأولمبي.

أما اذا تحدثنا عن مشواره مع المنتخب الأول، الوجه الحقيقي للكرة اليمنية، المنتخب المعروف بذابح المدربين، وتحطيم مستقبلهم، المنتخب الذي تتسبب نتائجه في إقالة وزراء، وتحل مجالس إدارات الاتحادات، منتخب العاقل من يهرب من قيادته، لكن على الرغم من ذلك كان النعاش المنقذ الدائم له، ومن يتحمل مسؤولية سمعة وطن، بعد كل فشل أو إخفاق للمدربين الخواجات، كان النعاش دائمًا هو المحارب الذي لا يخشى شيء، يضحي من أجل الوطن، على الرغم من أن الكل يجمع أنه لا يمكن لمدرب يأتي في معمعة المنافسات، ويستطيع أن يصلح ما أفسده من سبقه.

لن أتحدث طويلًا عن مشوار النعاش الحافل بالإنجازات والنجاحات، فأعتقد أن أصغر متابع يعرف ذلك، كما أن من يريد معرفة ذلك، فأرشيف كرة القدم موجود وسهل الوصول إليه في ظل ثورة المعلومات، وزمن الإنترنت، لكني سأتحدث قليلًا عن علاقتي الشخصية مع الجنرال، وتشرفي بمعرفته عن قرب، وتحديدًا عام 2009 عند تعييني كمنسق إعلامي لمنتخب الشباب، والعمل إلى جانبه لسنوات، ابتداءً في التصفيات الآسيوية بالنيبال، والتي قاد فيها المنتخب لتحقيق الإنجاز بالتأهل إلى النهائيات الآسيوية في الصين في 2010.

وبالتأكيد أن من رأى ليس كمن سمع، فقد رأيت في هذا المدرب أكثر مما سمعته عنه بكثير، رأيت مدربًا عاشقًا لمهنته، محبًا لها بكل ما فيها من أفراح وأتراح، رأيت مدربًا واثقًا من نفسه وقدراته، مدربًا لا يؤمن بالأسماء والتاريخ، لأي خصم يواجهه، مدربًا عنده الأداء خلال ال90 دقيقة هو المعيار الأساسي للفوز، رأيت مدربًا لا توجد كلمة " خوف " في قاموسه التدريبي، ولا يخشى أي فريق يقابله مهما كان حجمه، مدربًا غير تقليدي، هو أفضل مدرب يمني يقرأ المباريات، ويغير الخطط أثناء اللعب، من وجهة نظري المتواضعة، ومن خلال مرافقتي ومتابعتي لغالبية المدربين الوطنيين، إن لم يكن كلهم، مدربًا عمره ما فكر قبل أي مباراة بالخروج بأقل خسارة من الأهداف، مهما كان الخصم الذي يقابله، مدربًا جريئا جدًا، يلعب بثلاثة مهاجمين، ويطبق تمامًا مقولة " خير وسيلة للدفاع الهجوم "، في ظل أننا كنا متعودين لسنوت على التقوقع في منطقة مرمانا، ومع ذلك نخسر بنتائج كبيرة.

ماذا أقول عن النعاش؟ وأتحدث عن تضحياته مع المنتخبات الوطنية، والتي لا يعرفها إلا القليل، فلو عرفت الجماهير الظروف التي كان يعمل فيها هذا الرجل، وظروف المنتخبات عمومًا، لرفعوا له القبعات، و لنصبوا له تمثالًا في كل مدينة، والحقيقة أنني كنت دائمًا استغرب من قبوله للمهمة، مرة أخرى، وأنا أعرف ما حصل له في المرات السابقة، بل إنني كنت أحيانًا أعاتبه على ذلك، لكنه كان يرد علي ضاحكًا ويقول: أيش أعمل، هذا نداء الوطن، ولا يمكن عدم تلبيته.

الحديث عن الراحل الكبير سامي النعاش يطول، والذكريات معه كثيرة، ولا يتسع المجال هنا لذكرها، لكن خلاصة القول أننا خسرنا أحد أبرز الكوادر الفنية في بلادنا، وخسرت كرتنا وملاعبنا مدربًا داهية، من الصعب أن يتكرر على الأقل في السنوات القريبة القادمة.

ذكرياتي مع الفقيد كثيرة، وعلى الرغم من مشاغل الحياة، إلا أن التواصل بيننا لم ينقطع طوال العقد الماضي، وكانت قراءتي لخبر إقامة المنتخب لمعسكر، أو خوضه لمباراة بقيادة النعاش، يذكرني به دائمًا إذا انشغلت، لأجد نفسي مرغمًا بالتواصل معه، وتبادل الحديث عن الرياضة ومشاكلها، التي لا تنتهي، والتي يبدو أنها أصبحت قدرنا الذي لا مفر منه.

قبل شهر رمضان المنصرم بحوالي أسبوعين، كنت سعيد الحظ بمقابلته بعد فترة طويلة، فلم أصدق نفسي، وأنا أجده أمامي، في الممر، بديوان وزارة الشباب بعدن، فجلسنا كالعادة نتناقش في الهم الرياضي، وشكا لي الظروف الصعبة التي تواجه استعدادات المنتخب، وهو يقابل كبار آسيا في التصفيات المزدوجة، وأتذكر أنه قال لي ضاحكًا: بالله عليك قدنا في حرب، وتوقف الدوري لسنوات، ومافيش إمكانيات، وعادنا ناقصين كورونا تجي تلخبط أمورنا.

كان آخر تواصل بيني وبين الفقيد، عندما علمت بمرضه، ونقله من شبوة إلى عدن، فأرسلت له عدة رسائل أطمئن عليه، فرد علي في اليوم الثاني برسالة كان نصها " تعبااااااان أخي عبدالله، دعواتك لي "، ولا أخفيكم أن رسالته أقلقتني كثيرًا، لكنني مع ذلك كنت متأكدًا من تغلبه على الفيروس، لِمَا عهدتُ فيه من قوة وإرادة لا مثيل لها، وكنت أتابع حالته يوميًا عبر مقربين منه، وقد فرحت كثيرًا يوم العيد بأخبار تحسن حالته، وتجاوزه لمرحلة الخطر، لكن فرحتي و يا للأسف لم تدم طويلا، فقد استيقظت يوم الأحد الماضي 16 مايو على فاجعة رحيله، وعلى الرغم من صدمتي الكبيرة من هول الخبر، لكن لم يكن أمامي عندما تأتي مشيئة الله إلا أن أقول "الحمد الله على كل حال " إنا لله وإنا إليه راجعون.

رحمك الله أبا عمر، وأسكنك فسيح جناته، ووداعًا يا صديقي النعاش.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى