بدر حمود.. رثاء الألم والأمل

> محمد العولقي

> وهذا كوكب دري آخر يتهاوى في غياهب الرمق الأخير لحياة قاسها بعمله وصبره وتجلده، ربما غره سراب رحلته الأخيرة فأنشد يرثيني طلباً قبل أن أرثيه واجباً، كأنما هذه الحياة فيلم سينمائي قصير تزدحم أحداث المرء في حشرجته الأخيرة فيكتشف أن في حلقة غصة وطن، غصة أصدقاء عند النوائب قليل، غصة وفاء استهلك واستنزف رصيده في زمن حرب وقودها الناس والحجارة.

أعرفك يا (بدر حمود) جيداً، لذا أنعيك حياً أجدى من نعيك ميتاً، أعرف أنك تنام في جفن الردى من زمن بعيد المدى، لكن الردى الذي سيطويك يوماً تحت ثراه سيحتفظ برقمك وعنوانك وبقايا من تراب بدرك، كنت ولازلت في الليالي الحالكات تتحايل على الموت، فيأبى أن يصطحبك معه في نزهتك الأخيرة.
أنظر إلى عينيك المسهدتين برماد محبسي العمى والأرق، أدقق في لونك الأسمر، في ملامحك الأخيرة، في ابتسامة صافية ساخرة من عظام نخرة، فتبدو لي قيدوماً لا تهزه أرزاء المنايا.

تأملوا (بدر حمود) في محنته، يتراءى لكم أنه يحتضر، لكنه في أوج تراكمات أمراضه يبدو قديساً صابراً على الابتلاء، يبدو كالنقطة التي يلتقي فيها بحر دموعه المالحة بعذوبة نهر ابتسامته الساخرة من محيطه، ومن أصدقاء سيتذكرون بدرهم في ليلتهم الظلماء بعد فوات الأوان.
من يدفع لهذا (الفرقد) ثمن دمعته في جوف الليل؟

من يداوي لوعته آناء الليل وأطراف النهار؟
من يمنع انتحار مشروعه العظيم، ويمول أمنيته الأخيرة بعمرة وداع إلى بيت الله؟

هذا الذي يبكي مجده التليد في اليوم ألف مرة، وينتحر نفسياً في الساعة ألف مرة، هو نفسه الذي يرفع رأسه لنوائب الدهر، لا يبكي عمره المتهالك وحياته الزاعقة، لكنه يبكي أناساً شيعوه إلى مثواه الأخير قبل أن تزهق روحه، وما أقسى قلوب أصدقاء الورق عندما يلغون عنوانك ورقمك من مفكرتهم ويهيلون التراب عليك قبل أن تآخيه.
لم يبك (بدر) تضاريس حياته السابقة، ولا خارطة طريق صولاته وجولاته الرياضية، لكنه يبكى حباً عظيماً لم يعشه في ذروة مرضه، وعطفاً كبيراً لم يشعر به من صديق في لحظة يأسه، وحناناً دافئاً لم يتدثر به من تقلبات نوبات المنايا في عز غيبوبته.

من يقترب من غلافه الجوي سيسمع أناته الملتهبة وآهاته المحترقة، ستدوي في أذنيه وداعية فارس عز عليه أن يكتب مشهد نهايته بقليل من الأمل وكثير من الألم.
الأطباء يريدون قلبه بارداً كالثلج، وقلبه لا يتئد يردد دائماً: واحر قلباه ممن قلبه شبم، بدر يرفض أن يموت بقلب بارد لا يحس ويتفاعل، يحب أن يموت من دفء محبيه، لا يرغب أن يودعكم بنظام طبي صارم، يريد أن يحكي ويقص ويكتب روايته مع لعبة الحياة.

أرثيك يا بدر المكارم حياً وكأنما أرثي ذكرى أبي، ففيك شيء مما فيه، لا أدري من سيسبق الآخر في سباق المنون أنا أم أنت (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)، لكنني ألبي هنا رغبتك المتوحشة في معانقة كلماتي المكفنة بعطر عرقك وأريج ريقك ومداد دموعك.

(بدر حمود) رياضي مختلف، قيادي مختلف، حجة عصره، إذا كان لتاريخ رياضتنا قلباً فهو نبضها، وإذا كان لرياضتتا رئة فهو هواؤها ونسيمها العليل، مثلك يا (بدر حمود) لا يرحل صامتاً، أنت تسكننا ونسكنك، أنت من انحنى ظهرك ليستقيم وطنك، ستبقى هنا حلم أجيال وأجيال تعلمت منك، وعلقت وصيتك الأخيرة على شفاه تبتهل لك وتتضرع للمولى عز وجل أن يستودعك جنته مع الصادقين المؤمنين.

ألوذ دائماً بدموعي وخلجاتي كلما تقصيت وضعك الصحي المتردي، بكيت خجلا من نفسي، وخجلاً من (طحالب) القيادة الرياضية المراهقة سلوكياً، قمة الألم أن تستمر بالاتصال برقم يستقبلك بأنة.. بآهة.. بوخزة ألم، وتسأل أي وطن هذا الذي لا يئن ولا يهتز عرشه لنحيب (بدره) الذي إذا أفل غاب ضوؤه، وتلبدت سماؤه بغربان وجراد وبوم تنعق للشؤم؟

أي وطن هذا لا يصون كوكبه ويحميه من تصدعات اللحظة الأخيرة؟ المستشفيات الخاصة نظفت جيبه، وما بقي له من أثاث عرضه في مزاد اليوم الأسود، يعتصرني الألم لأن عيني بغشاوتها ضبابية البصيرة، ويدي أقصر من أن تكون أكثر سخاء من وطن سلم رياضته لمغول قادم من كهوف اللئام حتى وإن تدثروا في عدن بريش النعام، نظفوا إداراتها بالليفة والصابون.

كل مكالمة مع الكابتن (بدر حمود) تنطوي على مأساة، مأساة إنسانية من صنع أصدقاء الليلة الظلماء، هناك جسد مسجى يئن من أوجاع شتى، قلب عليل، كليتان توقفتا عن الصرف الصحي، رئة رثة تتمزق شهيقا وزفيراً، وعمود فقري هش آيل للسقوط، الألم ابن ساقطة لا يكف عن الزيارة، يوم (بدر) بلا بكرة، وليله الدامي الطويل ما طلع له نهار، انفرط عقد سنوات المجد، وحلت لعنة المرض، وتبقى على لسان (بدر البدور) ورمز الرياضة اليمنية أمنية أخيرة: أتمنى من الله أن يمهلني لأداء العمرة، لكن كيف ستأتي العمرة والجيب عريان يا مولاي كما خلقتني؟

الذين تبنتهم دولة النفاق وأنفقت على علاجهم بالعملة الصعبة من أصحاب الحظوة والذوات ليسوا في قيمة وكفاءة وقدرة (بدر حمود) الرجل الذي منح بلده كل شيء، وعندما جاءت لحظة الاختيار اكتشفنا (طفيليات) من وزن القمامة يسافرون أسبوعيا للسياحة، وقد حولوا أرجلهم إلى (مقارع طاسة) عمال على بطال.
إن تتكلم عن (بدر حمود)، فأنت تتكلم عن عالم ملون مهووس بالأرقام والتاريخ، عن دنيا رياضية أشبه بالجنة، عن وطن كبير، وعن رصيد ضخم من الحب لا ينفد بالتقادم، البحر في صدره لوحة، والنخل في فقره واحة، هذا (بدر) بتلك الغلالة التي ترثيه حياً يكتب حكايته ويحن لأشعاره ونحن كل أشعاره وحكاياته مع لعبة الحياة.

سلام إلى عينيك أيها البدر المنير الذي يمنحنا قبس البقاء في الضراء، سلام إلى جسدك المنهك وقلبك المثخن بأوجاعنا وهمومنا، سلام إلى عطرك المختبئ في جوف آلامك، سلام لروحك الطيبة التي تطوف سماء قلوبنا، سلام لمن جعل الغصن العقيم ربيعاً، سلام لفكرك، لوضوح غايتك، لنبوغ عبقريتك الإدارية، فمنذ أن توارى (بدرك) عن الإدارة الرياضية صارت في لعبة في قبضة القطيع.

تقرأ مرثيتي لك الآن بدموع حراء تغسل وجنتيك الشاحبتين، ستدرك أن هذه المرثية صندوق لحفظ ماء وجه الألم، ستشكو ليلك للذي عيونه لا تنام، لن يرعبك موت يعتام حولك كل يوم، كل نفس للمنايا فرض عين، والسعيد من يترك في هذه الدنيا الفانية إرثاً للذكرى، هل يكفيك نبضي؟
نعى الناعون خير الثقلين، وعندما أنعيك فإنما أنعي نفسي، أنا من مات ومن مات أنت، لقي كلانا الموت مرتين، إنها شهادة كتبها ربما أمير الشعراء (أحمد شوقي) على قبر والده، فهل تظن أن الردى سيصادر تجلياتك ويلغي رقمك وعنوانك ومشوارك؟

ستدور عينا نجلك الأصغر بيت عزك ككاميرا (زوم)، هنا ركنك المفضل، هنا فراشك، هنا كنت تداعب، هنا كنت تقرأ الصحيفة مع قهوة الصباح، تلك أشياؤك التي تفوح منها رائحتك الزكية، هنا عطر أبوتك، هنا شجرتك الوارفة التي أثمرت أسرة كريمة، هنا في هذه الزاوية، حيث كنت تقبل أفراد أسرتك، عرقك بالنسبة لهم أجمل من رائحة كل العطور.

كابتن (بدر) لا أحد يعرف مقدار قيمتك سوى من شاركك رحلة المخاض الأولى، إن نفتقدك في زمن الأفك والبهتان فكأن الجدار الذي نستند عليه قد تصدع، وأوشك على السقوط، رحيلك المكلل بصمت القبور يعني أننا سنفتقد ينبوع الحب والحنان، سنفتقد مظلتك التي تقينا شرور تقلبات الدهر.

كابتن (بدر).. عشت شريفاً ونظيفاً ونقياً، تداوي معاناتك بضحكة فيها أسرار من اللوعة، لم تجرح يوماً إنساناً، لم تترفع أو تصعر خدك للناس، ولم تكن يدك يوماً ما مغلولة إلى عنقك، الخير معقود بناصيتك دائماً، كنت غيمة عشق تمطر على بقاعنا فترتوي صحراء قلوبنا، كتبت مشوار حياتك بنبض وطنك، وعرق كفاحك، ودم قلبك، مليون كلمة وكلمة مازالت عالقة في حلقي كالغصة، لن أخبرك عنها فقد وعيتها منذ أن أهال مراهقو القيادة التراب على تاريخك الطويل، نعم تفاصيل كثيرة سترافقك إلى مثواك ستبوح بها يوم الحساب، ستبقى اللحظة بيننا، لا ندري على من الدور وتلك مشيئة الله، ولا رأد لقضائه سبحانه وتعالى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى