> محمد العولقي

* الليل إذا عسعس ، فإنما ليكتب بمداد الظلام قصة صالح الحاج ، منذ أن خبأ صالح الحاج قصيدته الدامية ، في ليله العاري وهو ينتحب مثل ناي حزين ، يعزف لليلته الأخيرة لحناً جراحه أطول من السنين والأيام.
* لم تأت تلك الساعة قط، تعاقبت موجات الليل البهيم على كهف آلامه، وليس له سوى عد النجوم، نجوم مأساته (فايف ستار) يعيشها وتعيشه، تعركه عرك الرحى بثفالها مرات و مرات، و يعركها بدموعه المدرارة مرة شاكيا لليل اضطراب خواطره، ومرة أخرى متوجعاً من لحن مأساوي حزين نبت في قدميه من العدم.

* صالح الحاج أول من صاغ تعريفاً مباشراً للعزف على أوركسترا الرجل الواحد ، أول من كسر أسطوانة الخطط والجماعية والالتزام بحذافير التعليمات ، أول من فرض المهارة الفطرية قبل التكتيك، جاء موسم 1989 - 1990 فوق غيمة تمطر حيث تشاء، وخراجها يصب في النهاية في مجرى صالح الحاج، مشى على مجموعة نيازك متفاديا (جلاكتيكوس) نجوم المجرة، علق وصيته الأخيرة على جداريات (البريقا) المتلاصقة الشفاه، تفجرت آلامه وناحت جراحه، وظل ذلك الجرح أطول بكثير من سنوات مجده التليد، لم يكن (الحاج) أبداً فراشة غرها لهيب نار وأضواء الشعلة، فقط رقص سامبا ورومبا على ساحل عدن الصغرى ودفن سره الباتع تحت رمال ملعب الشهيد الحبيشي، تفجرت تلك الرمال تحت قدميه عيونا ماؤها زلال.

* قال وقتها كلمات ليست كالكلمات وقرض قصائده الغجرية وعلقها على أستار ناديه، لم تكن تلك القصائد سوى هوس شعلوي انتقلت عدواه إلى كل بيت في (البريقا) عندها تحول صالح الحاج إلى نغم على الشفاه، ولحن ينساب مع النسيم العليل مداعبا أرخبيل الحلم الشعلوي الكبير، كان بحرا متدفقا بالعطاء وشلالا له خرير حاد و جاد، كانت الدرر داخل أحشائه كامنة لولاه لانطفأت الشعلة وخبا بريقها لكن صالح الحاج منحها وهجها الأصفر من زيت شجرته الزيتونية لتضيء سماء دورينا بلقب يتيم كتب سيناريوهاته وأخرجها بطل أصفر فاقع يسر الناظرين إسمه (صالح الحاج).

* أذكر ذلك الموسم جيداً .. كان موسم صالح الحاج بلا منافس .. لا تستغربوا ولا تندهشوا ، فـ (صالح الحاج كان الشعلة والشعلة كانت صالح الحاج)، هو من قلم أظافر ومخالب التلال، وهو من روض وحوش وحدة عدن ودجنها وحول فرسانها إلى  متفرجين على فقرات سيركه الشهير ، هو من نظف مائدة الجيش وأحال جنرالاته على المعاش ، وهو أول من قمع الشرطة وجعل الكلمة العليا للشعب، وهو أول من أشاع الفوضى في ميناء التواهي وغير مجرى السفن الراسيات إلى رصيفه.

* صالح الحاج مثل سيمفونية أحزان تتراقص في قلب الليل، وتتناجى مع صرير الدجى، أعتاد منذ أن شرد قلبه عن قافلة الأصدقاء، أن يهجو وحدته، وأن يبارز وجعه، وأن يلعق صبره، ليس له في مملكة الظلام سوى مهادنة مخاضات الألم ، ليس له في محنته التي تطاول ليلها العاري ، وتمطى صلبها على صدره سوى عقد صفقة مع المرض ، إنه يخوض أهم وأخطر مباراة في حياته، إما أن يسكت غمده عن أحزانه ويفوز بحياة جديدة، أو ينهزم وحيداً في ظل الهجوم الضاري للمرض على خلايا جسده.

* هذا قدرك يا صالح الحاج.. عندما كنت لاعبا كنت أكبر من كل دينامو ، وأروع من أي مايسترو ، كنت تحارب وحيدا داخل الملعب ، تصنع الشهد هنا وتهدي الحلوى هناك، كنت تمنح الهداف محمد حسن (أبو علاء) تمريرات ساحرة من خرم الإبرة، كان فريق الشعلة يتنفس من مساماتك، كان يعيش تحت جلدك، لكن دور البطولة له ثمن فادح في زمن هجرت العصافير قلبك، وأصبحت في محنتك المرضية مثل السيف فردا.

* كنت دائماً (حمال أسية) ، تحل المعضلات الفنية ، تفك شفرة التعقيدات التكتيكية ، تغربل كل المعادلات بمنحنيات مخك وترددات نبضك وأنفاسك ، ثم تترك مهمة التنفيذ لقدمك، لم تشتك يوماً من هول القيادة ، لم تطلب يوماً مساعدة من صديق أو جمهور ، كنت دائماً حلالا للمشاكل والعقد ، وكان هذا الدور يناسب شخصيتك الهادئة الوقورة المحببة إلى النفوس، جينات المحبة حملتها معك من ميدان الكرة إلى ميدان الحياة، نعمة كبيرة يا صالح؛ لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، و تلك نعمة نغبطك عليها، كنت ولا زلت تبلي بلاء حسناً في معارك الكرة ومعارك الحياة ، نجحت في اختبار الكرة وكنت فاكهة وأبا، وكتب الله لك أن تخوض اختبارا قاسيا في الحياة وأنت العبد الصابر الأواب الذي إذا أصابته مصيبة قال : إنا لله وإنا إليه راجعون.

* نعم يا صالح ، لحزنك مرثية يكتبها ألمك على أستار ليلك العاري ، ولجراحك قصيدة مقفاة من بنات أفكار فجر جديد يقاوم طيلسان محنتك ، لكنك دوما تبقى فريدا بيننا حتى في أوج ضعفك، تتحلى بالثقة والصبر ولا تحتسي الشفقة بمانشيتات صحفية مستهلكة ، ترضى طائعا مختارا بما من عليك الله من عطاء ولا تبوح بوجعك إلا للواحد القهار، في بيتك الصغير تكتب أبجديات آلامك المبرحة حكايتك مع الليل الطويل بدم قلبك ، وتؤرشفها للتاريخ بنحيب ودموع أطفال زغب الحواصل ، ليس لك أن تستجير من رمضاء أحزانك بنار أصدقاء الليلة الظلماء، لا تخفض رأسك لا لشهبندر التجار ولا لوزير الولائم ، فقط لأنك ذلك التقي الذي لا يلح على مسؤول ولا يطلب عونا من وزير ولا من غفير، ولا يشحذ فتاتاً في بلد يعيش أبناؤه على أبواب  اللصوص والقراصنة والمحسوبيات.

* شكيمة صالح كما هي ، عزيمته لم تتغير، قناعته لم تتبدل، عزة لم تتأثر، وكرامة لم تهادن ، صالح لن يبوح بأسراره لكائن من كان ، لن يقبل أن تتحول مأساته إلى ملهاة على ألسنة الشيوخ المتاجرين بآلامنا وجنرالات الولائم الذين يغتسلون من عرقنا ودموعنا ، لن يسمح لحاملي المباخر أن يلوثوا تاريخه وإنسانيته ، صالح أكبر من فلاشات المنافقين الذين يتاجرون بوجعه مع كل زيارة، وأكبر من قيادات هلامية مصابة بالنرجسية الكاذبة، ومريضة بعمى صورني لو تسمح ، صالح الحاج لا يريد عطفاً بعد عشر سنوات من العزلة، ولا يريد شفقة من زملاء خانوا العيش والملح قصموا ظهره بقشة الأكاذيب، وراحوا يحتسون مأساته على طاولات اللئام لإطعام بطونهم ، صالح أكبر من شيكات وزراء تعاقدوا مع الظلالة ، وجعلوا من أموال صندوق النشء والشباب مالاً سائباً ، يُصرف على سفريات بارات القاهرة ومطاعم إسطنبول وديسكوهات صالات اللي بالي بالك ، لن تنحني هامة صالح الحاج يوماً ، أو يقبل أن تتحول حكايته مع المرض ، إلى سيرة تلوكها ألسنة الشيوخ الركع والأطفال الرضع ، ولن تهتز سنابل أحزانه أمام عطاء عدسة منافقة ، تتاجر بمحنته على طاولات اللئام طمعاً في تصريح لوزير أو هتاف لمسؤول.

* عزيزي صالح الحاج ، إبق في محرابك كما أنت متفرداً قانعاً بين يدي الله عز وجل ، لا تدع نقود الرياء ومال الفساد والمفسدين في الأرض يخرب ساعات انتظارك للفرج ، لا تدع محنتك تخرج من قلوب محبيك البسطاء الذين يداوون آلامك بالدعاء آناء الليل وأطراف النهار ، لا تدع مأساتك مع المرض مغنماً ، يصب إلى جيوب الحمقى الذين تاجروا بحلمك وحلمي، ابق يا صالح فاكهة طبيعية لنا ترتوي من دعواتنا جميعا ولا تدع الفلوس "المكربنة" تفسد نكهتك وتتلف رائحتك الزكية، لا تدع سماد المفسدين الذين لهفوا أموال الرياضيين لحسابات سياسية غبية ، يفسد سلة غذائك ، لا تدع تلك الوطاويط تسلب ما تبقى لليلك من نجوم ، دعهم يتناقلون مأساتك كأسطورة خالدة ، نسفت ريال الرياء ودولار الزيف، ولتبق  فاكهة للسائل والمحروم، دع عنك دق الصدور  ولا تركن لوعود عرقوب، تذكر أن أقصى ما يمكن أن يفعله لك كل شيخ خراط أو وزير نخاط شيء كتبه الله لك!