​الأصفر البراق .. فاق وراق

>
لا بد أن تتحسس نفسك وأنت تشاهد كرنفال الشعلة الفرائحي ، ولا بد أن تستجمع قواك وتستنفر ما يمكن استنفاره ، لرشف اندلاقة عطر شعلاوي قادم من أقصى (البريقا)، حيث للشعب شعلة لا تنطفىء بخورها يزكم الأنوف .. هكذا حال فريق الشعلة المتوج ببطولة كأس الفقيد (علي محسن المريسي) الرمضانية في نسختها السابعة و العشرين، من أعمق أعماق خلجانه تولد زمردات تتراقص على وهج الشعلة، فتبدو مدينة من نور وضياء أقرب في هندستها لعوالم علاء الدين.

  دائماً مع الشعلة ، أسافر مع أصفرها البراق إلى عمق اللا نهائي ، حيث نسبية الزمان والمكان وأبعاد (آينشتاين) الأربعة، لسبب بسيط يكمن في أنني عاشق لتراث ماضي الشعلة، الفريق الذي كان لاعبوه في زمن ساد ثم باد ، يرقصون السامبا ، ويلعبون كرة القدم بأستذة أرستقراطية وبأناقة الشوكة والسكين.

  كنت حاضراً مراسم تتويج فريق الشعلة ببطولة (المريسي) الرمضانية على حساب وحدة عدن، فارتسمت في أعماقي أطياف من ذكريات جميلة لا تسقط بالتقادم .. منذ أن فاز فريق نادي الشعلة بآخر بطولة دوري في عهد دولة الجنوب ، كف هذا الفريق العتيد عن النبش في البطولات ، قاطع الأرقام و خاصم أقراص الذهب
، سماؤه الصفراء لم ترسل شعاعا واحدا نحو منصات التتويج، لا أحد يدري لماذا قاطع الشعلة بورصة البطولات؟ ولماذا خاصم الألقاب رغم ما يعانيه من تخمة نجوم؟
  ذات مرة - و قد أخذ الحدث طابع بيضة الديك - استعان عام 2006 لسان الشعلة ، ومتنبيها (جمال الشاعر) بالفتى الشاب الكابتن (ماهر قاسم)، لا أحد راهن عليه، ولا أحد توقع أن يقطع الشك باليقين ، انفجر (ماهر قاسم) مدرب الطوارىء ، وثار كبركان وقذف حمماً أحرقت المنافسين، وكانت البشارة لقباً يتيماً ببطولة (المريسي) الرمضانية في زمن الشطارة.

  فوز هذا الجيل وبنفس أفكار  الكابتن (ماهر قاسم) ببطولة (المريسي) بعد سنوات جفاف وقحط ، وضعني بالفعل أمام فرحة ، لم أكن أتصورها أو أتخيلها، ليس لأن هذا الجيل أقل موهبة وفناً من الأجيال السابقة فقط ، ولكن لأنني أعرف طبيعة فريق (وحدة عدن) الغول الذي يبطش ببطولات (عدن) بطشة الصقر بالوطواط.

  كان الشعلة دائماً في حالة طوارىء ، كلما استعرض لوحاته الصفراء ، التي تسر الناظرين إلا وتعرض لنكسة في الأمتار الأخيرة ، وكاد الكابتن محمد حسن (أبو علاء) - الهداف المستحيل الذي كان يحمل في خلاياه شيئاً من جينات الهولندي (ماركو فان باستن) -  يجن وهو يفتش في شعلته عن لعنة بدت مستعصية، مرات ومرات سأل نفسه لاعباً ثم رئيساً للنادي : مع من يتحاور الشعلة ، في ظل سوء الحظ هذا؟ .. و كيف له أن يستعرض لوحاته من دون أن يصل إلى مبتغاه؟
  في بطولة كأس عدن الأخيرة ، تعثر فريق نادي الشعلة في الخطوة قبل الأخيرة ، كان المدرب (ماهر قاسم) يضرب كفاً بكف ، فمن أين له أن يأتي للفريق بطائر السعد في سماء ملبدة بالنحس؟
  عندما رفع قائد الشعلة كأس (المريسي) أمام مدرجات تلونت بالأصفر ، تذكرت فرحة الشعلة بدوري 1990م ، وقتها كان الفنان صالح الحاج (شفاه الله من وعكته الصحية) يغشي الأبصار بأداء خلاب يرتقي إلى درجة السحر ، كان (الحاج) للتو قد استلم مقاليد حكم منطقة الوسط من الموسيقار المدهش (علي موسى)، صانع الألعاب الذي يعزف بقدمه سيمفونية (بيتهوفن) ، المايسترو الذي كان يمرر من ثقب إبرة ويضع الماكر (محمد حسن) وجهاً لوجه مع حراس المرمى.

  جيل اليوم قهر سوء الحظ ، و هزم نحساً التصق بالشعلة منذ زمن ، كان يستحق معه هذا الفريق الأنيق ، أن يتوج بألقاب كثيرة ، هو أجدر بها دون شك من آخرين، ولكن الحقيقة أن فنيات هذا الجيل أقل بكثير من البذخ الفني الذي كان ملازماً لأجيال سابقة تنتزع الآهات من الحناجر وتلهب الأيادي بالتصفيق الحار.
  الأصفر البراق عندما فاق وراق ارتفع لسان لهب الشعلة عاليا ، وما كان للرئيس الجديد محمد حسن (أبو علاء) ، أن يرفع رأسه إلى سماء كرنفالها الأصفر لولا أنه يدرك أن زيت الشعلة هذه المرة كفيل بتبديد الظلمة ، وكفيل بأن يحرق كل الفراشات التي غرتها نيران الشعلة.
  لكم فقط يا أبناء البريقا غير (أبو الكابتن) مجرى نهره ليصب في بحركم الأصفر، لكم فقط يا نوارس الشعلة توقف التاريخ قليلاً ليعيد كتابة سيرة ناد عريق ما انفك لاعبوه يقدمون الكرة الممتعة ، في بساطة السهل الممتنع ، لكم فقط هذه المرة علا هدير المصافي ، فارتفعت في سماء (البريقا) شعلة يكاد ضوؤها ينير كل عدن.


  لأجل الشعلة كل شيء يهون ، ولأجل تشجيعه بحماس مفعم بالتضحية ، كل شيء يجوز ، جمهور الشعلة لا مثيل له بين جماهير أندية (الجنوب) ، ليس لأنه لا يبخل بحباله الصوتية عند الهتاف والتشجيع فحسب ، ولكن لأنه جمهور من فصيلة نادرة ، وتركيبة حمضه النووي وإن كانت صفراء فاقعة تسر الناظرين، إلا أنها تركيبة ثرية جديرة بالمشاهدة.

  مثلا : لم يعجبني أداء اللاعبين في المباراة النهائية ، ولم يستطع لاعب أن يحرك في وجداني مثقال ذرة ، كما كان يفعل عمالقة الشعلة زمان لكنني استمتعت بجمهور الشعلة وهو يحول ثلاثة أرباع مدرجات ملعب الشهيد الحبيشي إلى (فسيفساء) صفراء ملتهبة من أعلام وبالونات و شماريخ، وعندما توج الشعلة بطلا بفضل ركلات المعاناة الترجيحية التأم جمهور الشعلة ، فتحول إلى قافلة ضخمة من نار و شرر تزف العريس وتزيد من توهج ولمعان شعلته.

  صيف عام تسعين ليس ببعيد عن ذاكرتكم ، لأن ما هو محفوظ وملتصق بها ، لا يتعلق بغير مشهد الكابتن القدير (حسين صالح بن صالح)، وهو يصعد الدرج تلو الآخر إلى أن رفع تحفة الدوري، ومن خلفه كان الهداف الخارق محمد حسن (أبو علاء)، يبدو كطيف قزاحي وهو يعانق لقب الهداف للمرة الرابعة، كرقم قياسي سيظل ثابتاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما كان صانع الألعاب الفاكهة (صالح الحاج) يحتل برواز الصورة، وقد فرض نفسه مذنباً شعلاوياً فوق العادة.


  شعلة هذا الجيل ربما ليست بقيمة شعلة زمان المتوهجة فناً يحيلك إلى رقصة السامبا ، حيث تستنسخ (البريقا) نفسها لتصبح صورة طبق الأصل من (الكوبا كابانا) ، لكن هذا الفريق استنفر ودق طبوله ، وعزف على قيثارة التحدي ، مستعيناً ببقايا صبر كان ختامه مسكاً الكل تابع رحلة فريق الشعلة في بطولة المريسي الرمضانية متشنجاً ، وهو يحول الأصفر البراق إلى لون من اللهب فصل الأخضر العدني عن كبريائه ، وهو الفريق الذي يستوحي من رقعة الشطرنج فراسة النقلة الرهيبة (كش ملك).

  هذا الشعلة أيها الشيخ الوقور صاحب القلب الأصفر (سالم الوادي) عصف وقصف وحفر بأصابع من نار على حائط التكهنات ، وأفرغ أخيراً صدور محبيه من شحنة زفرات مقيماً معرضاً للإكتساحات الرقمية.

  أخيرا خرج المارد الأصفر من قمقم حبسه متوهجاً مخيفاً ينذر بعهد جديد من الانتصارات والبطولات والألقاب، وما فوز الشعلة ببطولة المريسي سوى قطرة من غيث أصفر قادم لن يُبقي ولن يذر، والأيام بيننا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى